الكرائية وأثر الإسلام :
انتشر التلمود ودراسته -كمال يقول محرر دائرة المعارف
اليهودية- من بابل إلى مصر1 وأفريقية الشمالية وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وألمانيا
"وهي دول قدّر لها أن تكون مسكن الروح اليهودية" ، وكان التلمود ذا أثر في الحياة
العقلية لهذه الدول طويلة.
وقد أمر خليفة قرطبة الحَكَم الثاني "961-976م"
الحاخام يوسف بن موسى JOSEPH BEN MOSES بنقل التلمود إلى العربية ، فترجمه وسماه بالخبث "المكسو في الكيس"
"CLAD
IN A SACK" ؛ لأنه ألبس ثوبًا دنيئًا حين كشف عن سجاياه العظيمة
2.
___________
1 كتب إيلي ليفي أبو عسل في كتابه "يقظة العالم اليهودي" :
"وفي وسط هذه العلاقات مدَّ يهود مصر يد المساعدة لإخوانهم للنهوض بالعمل الأثري
الخالد في فلطسين ، وعاونوهم في إنشاء التلمود وتنسيقه" ص37.
2 الأدب العبري ،
ص14.
50 | 36939
وأول
ثورة قامت ضد "سيادة" التلمود كانت الحركة الكرائية "القرائيون"
kraism التي قامت في معقل الجيونيوم Geyomim "مفسري التلمود" ، بعد مائتي سنة من تأليف المشناه ، والكرائيون
التابعون للحاخام شماي متشددون في اتِّباع التوراة ، وهم ينتمون إلى الكتبة
SCRIBESk ، بينما التلموديون التابعون للحاخام هليل HILLEL يفضلون اتباع الأهواء ، وابتدعوا لذلك ما يسمونه "بالسنة"
TRADITION, وهو القانون الشفهي المدوّن في التلمود ، أما الكرائيون فإنهم
يرفضون التلمود1.
___________
1 الأدب العبري ، ص8.
الحركة الكرائية أو
القرائية التي أنشأها عنان بن داود في القرن الثامن الميلادي "وتسمَّى أيضًا
BENEW
MIKRA" أي : "شعب الكتاب المقدس" ، أو BA'ALE MIKRA أي "الداعون إلى إيمان جديد" ، لا تعرف عقائدها جيدًا ، إلّا أنهم
يتشددون في اتِّباع التوراة ويرفضون التلمود ، وهم لم يطبعوا إلّا القليل من تراثهم
، وقد انتشرت الدعوة الكرائية في العالم الإسلامي ، لا سيما بلاد فارس.
ولا يمكن
القول متى انشقَّت هذه الحركة بالضبط عن الحركة الحاخامية "التلمودية" ، ولكنها
-كما تقدَّم- قامت بعد مائتي سنة من تأليف المشناه ، أي : بعد ظهور
الإسلام.
ويعزي محرر دائرة المعارف اليهودية العامة أسباب ظهور هذه الحركة إلى
عوامل ثلاثة هي :
1- ظهرت الخلافات بين اليهود بسبب التلمود الذي اعتبره بعضهم
بدعة في الدين.
2- تأثر اليهود الشرقيون بالنصر السياسي "المدهش" الذي أحرزه
الإسلام في القرن السابع ، والذي أقام أمبراطورية عالمية في بضع سنين.
3- تأثير
العقائد الروحية الإسلامية ، والتقلبات السياسية ، والصراع بين الكلاميين
"المعتزلة" وغيرهم.
51 | 36939
وهذه
الثورة الداخلية مع عامل خارجي هو ازدهار الحضارة العربية في نفس العصر ، بسبب
ديناميكية الإسلام ، قد قضيا -كما يزعم اليهود- على مظاهر السيادة الفكرية اليهودية
في العالم القديم.
هذا رغم أنَّ اليهود أنفسهم يعترفون أن عصرهم الذهبي
GOLDEN AGE هو عصر الإسلام المتسامح ، حين ظفروا لأول مرة في تاريخهم بسماحة
منقطعة النظير في بغداد والأندلس ، ولكن خيانتهم الكبرى أيضًا كان هدفها المسلمون
العرب ، ولم تبدأ متاعبهم في أوروبا إلّا بعد سقوط الأندلس ، وكان بعض الخلفاء قد
أسندوا رئاسة الوزارة لبعض اليهود ، وقد تبئوا مناصب هامة حتى تغلب الموحدون على
الحكم -دائرة المعارف اليهودية ، مادة spain فصل The
Golden age of the sephardic jewry "المجلد التاسع".
وقد تبوأ اليهود مناصب هامة جدًّا في مصر حتى
العصر الحديث ، وخصوصًا في الدولة الفاطمية التي نكاد أن نقول : إنَّ اليهود هم
الذين كانوا يحكمونها من وراء الخليفة1.
ومما يجدر ذكره أن التشابه بين قصص
القرآن والقصص Haggadah التي يرويها التلمود ، ربما كان مرجعه إلى
___________
1
انظر تفاصيل دور هم في دائرة المعارف اليهودية العامة مادة Egypt.
52 | 36939
أنَّ
الحاخامات اقتبسوا هذه القصص من القرآن الكريم ؛ لأنَّه رغم أن التلمود تمَّ تدوينه
قبل ظهور الإسلام ، إلَّا أن الحاخامات ظلو يضيفون إليه ويهذبونه حتى أواخر القرون
الوسطى1 ، ولكن اليهودية التلمودية رغم هذه الحريات آثرت أن تتقوقع لحفظ كيانها حتى
بقيت إلى يومنا هذا ، رغم زوال ما لا يحصى من الحضارات والديانات والإمبراطوريات
والشعوب ، واندحارها في نفس هذه الفترة.
وقد حظي التلمود بأهمية متزايدة نتيجة
للظروف الجديدة بعد سقوط دولة اليهود ، وعكف حكماء اليهود على دراسة التلمود في كل
العصور بشغف واهتمام ...." ومن أمثلته : أن موسى بن ميمون ، الذي كان أكبر مفكر
ديني في عصره ، كان أكبر دارس للتلمود أيضًا ، وقد حاول جهده أن يبني صرح فسلفته
على تعاليم التلمود ، هذا ما كتبه محرر دائرة المعارف اليهودية ، وهو يضيف قائلًا
:
"أثناء انحطاط الحياة العقلية اليهودية ، الذي بدأ في القرن السادس عشر ، كان
التلمود يعتير -على وجه التقريب
___________
1 لمراجعة القصص من هذا النوع
انظر : The
talmud h. polano, pp 33 . 34 ,
72. 141.
وكذلك :
The
talmudic anthology - tales and teachings of the rabbis, N. y;
1947.
53 | 36939
السلطة العليا عند أكثرية اليهود ، وفي نفس القرن أصبحت أوروبا الشرقية
خصوصًا بولندا ، مركز دراسة التلمود.
والتوراة نفسها أصبح مكانها ثانويًّا ،
وكرَّست المدارس اليهودية جهودها كليًّا لدراسة التلمود ، حتى أنّ كلمة "الدراسة"
أصبحت مترادفة لكلمة "دراسة التلمود".
ويستطرد المحرر قائلًا : "إن مركز التلمود
تأثر مرة أخرى بسبب علاقة اليهود بحضارة أوروبا "الأجنبية" 1 GENTILE ، وطرأت على الفلسفة اليهودية تغيرات كثيرة" ولكن المحرر لم يحدد
هذه التغيرات ، وأنا أميل إلى أن هذه التغيرات الكثيرة التي لم يحددها المحرر هي
نشوء حركة سياسية يهودية -سميت الصهيونية- تحاول استعادة مجد اليهود بغبن الآخرين
وإلحاق الدمار والخراب بمن يقف في طريقها إن استطاعت.
___________
1 من
الواضح أن الحضارة المقصودة هي حضارة المسيحيين ، ويدل ذلك ، بشهادة دائرة المعارف
اليهودية ، على أن المسيحيين هم الأجانب ، رغم أن اليهود ينفون ذلك بشدة قائلين :
إن كلمة "الأجانب" ترمز إلى "الوثنيين الذين وجدوا في العهود الغابرة".
54 |
36939