حقيقة الروح القدس
عند النصارى :
أما النصارى وهم أيضاً يعتقدون
بقدسية كتب اليهود ، وهي جزء من كتابهم المقدس ويسمونه بالعهد القديم ، ويؤمنون به
كإيمانهم بالعهد الجديد (الأناجيل والرسائل) وهو حجة عليهم فيـما ورد فيه عن حقيقة
الروح القـدس ، فقد جـاء في الأناجيل والرسائل ما يصدق ما جاء في التوراة عن حقيقة
الروح القدس ، فقد ذكرت تلك الكتب أن الروح القدس ـ عليه السلام ـ كان مع داود
عليه السلام :
(( لأن داود نفسه قال بالروح القدس قال الرب لربي
))
، وأن المسيح ـ عليه السلام ـ قال لهم عنه :
(( فكيف يدعوه داود بالروح ))
، وأنه نزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل ، إذ جاء في سفر
أعمال الرسل : (( فانصرفوا وهم غير متفقين
بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة إنه حسناً كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء
النبي ، قائلاً اذهب إلى هذا الشعب ))
، وجاء في رسالة بطرس الثانية :
(( لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان ، بل تكلم أناس
الله القديسون مسوقين من الروح القدس ))
، وذكر سفر أعمال
الرسل عداوة اليهود للروح القدس جبريل ـ عليه السلام ـ إذ جاء فيه :
((
يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائماً تقاومون روح القدس ،
كما كان آباؤكم كذلك أنتم ، أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم ))
، ومن صفاته أنه روح الله
الحي إذ جـاء في رسالة بولس الثانية إلى أهـل
كورنثوس :
((
جبرائيل روح الله الحي ))
، وفي الإنجيل أنه بشر
زكريا بميلاد يوحنا عليهما السلام :
((
فظهرله ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور ، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف
، فقال له الملاك : لا تخف يا زكـريا لأن طلبتك قد سمعت ))
، وأخبره في هذه
البشارة أن امرأته ستلد له ابناً وتسميه يوحنا ، ويكون له فرحاً وابتهاجاً :
(( لأنه يكون عظيماً أمام الرب ، وخمراً ومسكراً لا يشرب ، ومـن بطن أمه
يمتلئ مـن الروح القدس )) ، كمـا أن
مـريم أم المسيح وجدت حبلى من الروح القدس : ((
و لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ))
كما نزل الروح القدس على المسيح
عليه السلام ، واستمر معه بعد أن عمده يوحنا المعمدان في ماء الأردن :
(( ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً ، وإذ كان يصلى انفتحت
السماء ونزل عليه الروح القـدس بهيئـة جسمية مثل حمامة ))
، وقال يوحنا المعمدان : (( إني قد رأيت
الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه ، وأنا لم أكن أعرفه ، لكن الذي
أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي
يعمد بالروح القدس )) ، وجاء في الإنجيل :
(( وفي تلك الأيام جاء يسوع ... واعتمد من
يوحنا في الأردن ، وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة
نازلاً عليه ))
كما أن الروح القدس مؤيدٌ للمسيح
في دعوته ومعجزاته : (( أما يسوع فرجع من
الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في الـبرية
))
، وجـاء أيـضاً : ((
ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل ..... وكان يعلم في مجامعهم
)) ، وفي الإنجيل
يقول المسيح عليه السلام : (( روح الرب
عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين ، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب ))
، ويتحدث سفر أعمال الرسل عن المعجزات التي أيد الله
بها المسيح بواسطة الروح القدس ، إذ يقول : (( يسوع الذي من الناصرة كيف
مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس
لأن الله كان معه )) ، ففي هذين النصين نجد أن الروح القدس مرادفاً للفظ
القوة ، أي أنه القوة التي أيد الله بها المسيح ـ عليه السلام ـ واستطاع بهذه القوة
شفاء الأمراض ، وإجراء المعجزات ، بإذن الله تعالى ، وهي القوة التي أيد الله بها
أنبياءه ورسله ، ومن شاء من عباده المؤمنين .
كما أخبر المسيح ـ عليه السلام ـ
تلاميذه ورسله ، بأن الروح القدس سيلهمهم ويؤيدهم ، فقال :
((
ولكن احذروا من الناس ، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس ، وفي مجامعهم يجلدونكم وتساقون
أمام ولاة وملوك من أجلي، شهادة لهم وللأمم ، فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما
تتكلمون ، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، لأن لستم أنتم المتكلمين ، بل
روح أبيكم الذي يتكلم فيكم ))
، وقال عليه السلام : (( ومتى قدموكم إلى
المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أوبما تقولون ، لأن الروح القدس يعلمكم
في تلك الساعة مايجب أن تقولوه ))
.
وعند سؤال اليهود للمسيح ـ عليه
السلام ـ عن الملاك الذي يؤيده الله به ، أخبرهم أنه الروح القدس ، فردوا على
المسيح رداً قبيحاً ، وزعموا أنه روح نجس ، ومرة أخرى زعموا أن الروح القـدس
(( بلعزبول )) يعني رئيس الشياطين، ففي الإنـجيل :
((
أما الفريسيون فلما سمعوا ( أي عن شفاء المسيح للمجنون ) قالوا هذا لا يخرج
الشياطين إلا ببلعزبول رئيس الشياطين ، فعلم يسوع أفكارهم ، وقـال لهم ... إن كنت
أنا ببلعزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون ، لذلك هم يكونون قضاتكم ، ولكن إن
كنت أنا بروح الله أخـرج الشيطان فقـد أقبـل عليكم مـلكوت الله )) .
ثم حذرهم ـ عليه السلام ـ من
القول على الروح القدس إنه روح نجس ، فقال :
((
لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ،
ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له ، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له
لا في هذا العالم ولا في الآتي )) .
وقال أيضاً : (( الحق أقول لكم إن جميع
الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها ، ولكن من جدف على الروح القدس
فليس له مغفرة إلى الأبد ، بل هو مستوجب دينونة أبدية ، لأنهم قالوا إن معه روحاً
نجساً )) .
كما أن يوحنا المعمدان أخبر اليهود
أن الذي سيأتي من بعده يعمد بالروح القدس ، فقال :
((
والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة ، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في
النار ، أنا أعمدكم بماء للتوبة ، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني ، لذلك لست
أهلاً أن أحل حذاءه ، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار ، الذي رفشه في يده ، وسينقي
بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن ، وأما التبن ، فيحـرقه بنـار لا تطـفأ)) .
وهذا الخبر يحمل بشارة ، ويظهر
أنها دلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ ورد الكثير من البشارات به
في التوراة والإنجيل، ولكن النصارى لما جعلوا المسيح ـ عليه السلام ـ
محوراً لكل الأحداث ، قالوا إن يوحنا يتكلم هنا عن المسيح ، علماً بأن المسيح كان
معاصراً ليوحنا ولم يأت بعده ، وكان بنفس السن بفارق ستة أشهر في الميلاد ، بدليل
أن المسيح تعمد بالماء على يد يوحنا ، كما ورد في النصوص السابقة من أناجيل متى
ولوقا ومرقس .
كما أن ( يوحنا) يحيى ـ عليه
السلام ـ عرف العلامة على المسيح من نزول الروح القدس عليه مثل حمامة ، إذ قال :
(( إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من
السماء فاستقر عليه ، وأنا لم أكن أعرفه ، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي
الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ))
، وهذا يدل على أنه أمين الوحي جبريل عليه السلام
بدليل قوله : (( فلما اعتمد يسوع صعد
للوقت من الماء ، وإذا السموات قد انفتحت له ، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة
وآتياً عليه ، وصوت من السموات قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
))
، وهذا الصوت من السموات هو الوحي الذي جاء به جبريل ، وهو
قوله : (( هذا هو ابني الحبيب الذي به
سررت)) ، والبنوة في هـذا النص وفي غيره
مـن النصوص الإنجيلية لا يقصد بها البنوة التناسلية ، وإنما يقصد بها حنان الله
ورعايته له وقـربه من الله ، بدليل أن الأناجيل تطلق على تلاميذ المسيح وكل الناس
المؤمنين بالله بأنهم أبناء الله.
ونزول الروح القدس على المسيح -عليه
السلام- على هيئة حمامة ، أو نزول غيره من الملائكة على أي هيئة كانت ، معلومة عند
الأنبياء وأتباعهم ، فقد ذكر الله تعالى نزول الملائكة على إبراهيم عليه السلام على
هيئة رجال ، قال تعالى :
((
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم
منكرون ، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون ، فأوجس منهم
خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز
عقيم ، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ، قال فما خطبكم أيها المرسلون ،
قالوا إنا أرسلنا إلى قـوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة مـن طين مسومة عـند ربك
للمسرفين )) .
وكذلك كان نزول الروح القدس جبريل
عليه السلام ، على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كان ينزل بعض المرات على هيئته
التي خلقه الله عليها ، وينزل في مرات أخرى على هيئة الصحابي الجليل دحية بن خليفة
الكلبي.
وبهذا يتبين لنا من هذه النصوص
حقيقة الروح القدس ، وأنه كان مع داود ـ عليه السلام ـ وأنه بشر زكريا ، ومريم ،
وأن يحيى والمسيح ـ عليهما السلام ـ وكذلك تلاميذ المسيح ورسله كان يعضدهم الروح
القدس ، ويحل عليهم ، ومنه يمتلئون ، ويؤيدهم بالنصر ، كما بينت تلك النصوص أن
المسيح ـ عليه السلام ـ حذر اليهود من ألفاظ السوء التي يقولونها على الروح القدس ،
وأن من يفعل ذلك فلن يغفر له لا في الدنيا ولا في الآخرة .
كما بينت تلك النصوص ، أن الروح
القدس ورد ذكره بمعنى جبريل ـ عليه السلام ـ وبمعنى الوحي الإلهي ، وبمعنى النصر
والتأييد للمؤمنين ، ويبدو أن هذا هو الاعتقاد الذي كان عليه النصارى في حياة
المسيح وحواريوه والقرون الثلاثة الأولى لميلاده ، بدليل أن الشواهد من مصادرهم
الدينية ـ الآنفة الذكر ـ لاتعني سوى ذلك ، لأن اعتقادهم ألهيته لم يتقرر إلا بعد
رفع المسيح ـ عليه السلام ـ بأربعة قرون ، أي في مجمع القسطنطينية سـنة 381م ، كما
سيــأتي بيانه .
المطلب الثالث : حقيقة الروح القدس
عند المسلمين :
هذه الصــفات للروح القــدس ـ حسب
المصادر الدينية السابقة ـ هي التي صدقها القرآن الكريم المنزل على خاتم المرسلين ،
والمصدق لما بين يديه من الكتب السابقة ، والمهيمن عليها ، فقد جاء الروح في القرآن
الكريم ، على عدة أوجه:
أحدها : الوحي الإلهي ، قال
تعالى : (( ينزل الملائكة بالروح من أمره
على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ))
، وقال
تعالى : (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان ، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ))
، وقال تعالى
: (( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ))
.
الثاني :
القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من يشاء من عباده
المؤمنين ، قال تعالى:
(( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه )) .
الثالث : ويأتي الروح بمعنى
جبريل ـ عليه السلام ـ قال تعالى : ((
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))
، وقال تعالى : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
)) ، وهو روح القدس ، قال تعالى :
(( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ))
، وقال تعالى : (( وآتينا عيسى ابن مريم
البينات وأيدناه بروح القدس )) ،
وقال تعالى : (( إذ قال الله يا عيسى ابن
مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً
)) .
الرابع : الروح التي سأل عنها
اليهود ، فأجيبوا بأنها من أمر الله ، قال تعالى :
(( يسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ))
، وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى :
(( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال
صواباً )) ، وقـال تعـالى :
(( تـنزل الملائكة والروح فيـها بإذن ربـهم من كل
أمـر )) .
الخامس : المسيح بن مريم ،
قال تعالى : (( إنما المسيح عيسى بن مريم
رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ))
، وقال تعالى : (( والتي أحصنت فرجها
فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ))
، وقال تعالى : ((
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه
وكانت من القانتين )) .
ووجه اختصاص إضافة روح عيسى ـ عليه
السلام ـ إلى الله تعالى ، أنه لما كان الله تعالى خلقه بكلمته ، أي خلقه بالكلمة
التي أرسل بها جبريل ـ عليه السلام ـ إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل
فكان عيسى بإذنه عز وجل ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت حتى
ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم ، والجميع مخلوق الله عز وجل ، ولهذا قيل لعيسى
: إنه كلمة الله وروح منه ، لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة
التي قال له بها كن فكان ، والروح التي أرسل بها جبريل ـ عليه السلام ـ قال عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة :
((
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، هو
كـقوله : (( كن فيكون )) .
قال ابن أبي حاتم :
(( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ))
قال : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى )) . إنها الكلمة
التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى ـ عليه السلام ـ قال
البخاري بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( من شهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ،
وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
منه ، والجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ماكان من العمل ))
، فقوله في الآية والحديث
(( وروح منه))
كقوله تعالى : (( وسخر لكم ما في السموت
وما في الأرض جميعاً منه)) ،
أي : من خلقه ومن عنده ، وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى .. بل هي لابتداء
الغاية ، وقال مجاهد في قوله (( وروح منه
)) أي : رسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه
، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه
التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:
(( هذه ناقة الله ))
، وفي قوله : (( وطهر بيتي للطائفين
)) ، وكما روي في الحديث الصحيح :
(( فأستأذن على ربي في داره ))
، أضافها إليه إضافة تشريف ، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد .
ويقول الإمام
القرافي ـ رحمه الله ـ في معنى الروح : إن الروح اسم للريح الذي بين الخافقين
، يقال لها ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام
، وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ... إن معنى
الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام ، هو الروح الذي بمعنى
النفس المقومة لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى ـ عليه السلام ـ مـن
روحه ، أنه خلق روحاً نفخها فيه ، فـإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح
كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى
الملابسة، كقول أحد حاملي الخشبة للآخر : طرفي مثل طرفك ، وشل طرفك : يريد طرف
الخشبة ، فجعله طرفاً للحامل ، ويقول : طلع كوكب زيد ، إذا كان نجم عند طلوعه يسري
بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقـط، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله
تعالى وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك يقول بعض الفضلاء : لما سئل عن
هذه الآية ، فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحاً من أرواحه ، أي :
جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر ، فللتنبيه على
شرف عيسى عليه السلام ، وعلو منزلته ، بذكر الإضافة إليه ، كما قال تعالى :
(( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم
الفرقان ))
، و (( إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان ))
، مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان
منزلة المخصص .
لكن النصارى مع هذه البينات
الصريحة الواضحة عن حقيقة الروح القدس المذكورة في كتب الله السابقة واللاحقة ،
يأبى عليهم ضلالهم وانحرافهم عن الحق إلا تحريف مثل هذه النصوص المحكمة ، وتأويلها
على غير مراد الله عز وجل ، أحدثوا ذلك وأقروه في مجامعهم بعد عدة قرون من رفع
المسيح ـ عليه السلام ـ فأولوا تلك النصوص وحرفوها ، وحرفوا الكثير من أحكام تلك
الكتب لتوافق اعتقادهم ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس ، فأحدثوا عقيدة التثليث
الذي يتكون عندهم من الآب والابن والروح القدس ، وغير ذلك الكثير مما حرفوه وبدلوه
، وخالفوا فيه كتب الله المنزلة