علاقة التوكل
بالأسباب:
مواقف الناس من
الأسباب على أربعة أقسام:
1 - الالتفات
إلى الأسباب بالكلية واعتماد القلب
والجوارح عليها من غير نظر لمسببها:
كنظرة الماديين والعقلانيين فوقعوا
في الشرك لأنهم أثبتوا موجدأً مع
الله مستقلاً بالضر والنفع ، وهذا
باطل مخالف للكتاب والسنة والاجماع
كما أن الأسباب قد تتخلف عن مسبباتها
بإذن الله كما يشهد لذلك الحس.
2 - الإعراض
عن الأسباب بالكلية: كنظر
غالب الصوفية للتوكل ، فهم لا يرون
تحقيق التوكل إلا في ترك الأسباب
بالكلية فتركوا التكسب والعمل
والاحتراز والاحتياط والتزود في
السفر والطعام ويرون ذلك كله منافياً
للتوكل, ولهم شبه ضعيفة أجاب عنها
العلماء المحققون كمحمد بن الحسن
الشيباني في كتابه(الاكتساب في الرزق
المستطاب) والخلال في كتابه(الحث على
التجارة والصناعة والعمل) والحارث
المحاسبي في كتابه(المكاسب) وابن
تيمية وابن الجوزي وابن القيم وابن
مفلح وابن رجب. كما أن الإعراض عن
الكسب والخمول بدعوى التوكل له آفات
ومفاسد يصعب حصرها. وهذا الموقف أي (الإعراض
عن الأسباب بالكلية) حكم عليه
العلماء بأنه قدح في الشرع.
3 - نفي
تأثير الأسباب بالكلية:
وصف العلماء هذا القول بأنه (نقص في
العقل) وهو قول القدرية الجبرية ، وهم
يرون أن الله لم يخلق شيئاً سبباً و
لا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر.
وغرضهم الرد على القدرية النفاة لكنه
ردوا باطلاً بباطل. وهذا الموقف فاسد
باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
4 - قيام
الجوارح بالأسباب واعتماد القلب على
مسبب الأسباب سبحانه وتعالى:
هذا مذهب أهل السنة والجماعة وهو
الحق الذي دل عليه الشرع والعقل وهو
الوسط في كل مذهب فأثبت للأسباب
تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها
بل بما أودعه الله فيها من القوى
الموجبة ، وهي تحت مشيئته وقدرته فإن
شاء منع اقتضائها وإن شاء جعلها
مقتضية لأحكامها، فهم ( أي أهل السنة
والجماعة) يوجبون الأخذ بالأسباب
ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل؛ بل إن
التوكل من أعظم الأسباب في جلب
المنافع ودفع المضار ونفي الفقر
ووجود الراحة. و يرون ضرورة الأخذ
بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، و
يكون التوكل بالقلب على الخالق مع
اتباع الأسباب في ظاهر الحال فقط .
والأخذ بالأسباب ثم الاعتماد على
الله عز وجل هو مذهب أهل الحق من سلف
الأمة. قال تعالى( وقال يا بني لا
تدخلوا ... المتوكلين) (يوسف:67). و في
جانب الرزق قال تعالى(هو الذي جعل لكم
الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها
وكلوا من رزقه وإليه النشور). قال في
مدارج السالكين (... لا تقوم عبودية
الأسباب إلا على ساق التوكل ، ولا
يقوم ساق التوكل إلا على قدم
العبودية ) . والسبب
الذي أُمر العبد به أمر إيجاب أو أمر
استحباب هو عبادة الله وطاعته له
ولرسوله والله فرض على العباد أن
يعبدوه ويتوكلوا عليه كما قال تعالى(فاعبده
وتوكل عليه)هود وقال(واذكر اسم ربك...فاتخذه
وكيلا)المزمل 8-9 وقال (
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه
من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله
فهو حسبه) والمقصود أن الله لم يأمر
بالتوكل فقط بل أمر مع التوكل
بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما
أمر وترك ما حذر.فمن ظن انه يرضي ربه
بالتوكل بدون فعل ما أمره به كان
ضلالا كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضي
الله عليه بدون التوكل عليه كان
ضلالا ، وأن من ظن أن التوكل يغني عن
الأسباب المأمور بها فهو ضال ولهذا
كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من
السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما
أمره الله به ، فإن كانت أسباب مقدورة
له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على
الله كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد
العدو ويحمل السلاح ويلبس جبة الحرب
ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد
توكله بدون أن يفعل ماأُمر به من
الجهاد. فان قيل كيف يطلب ما لا يعرف
مكانه؟ جوابه: أن يفعل السبب المأمور
به ويتكل على الله فيما يخرج عن قدرته
مثل الذي يشق الأرض ويلقي الحب
ويتوكل على الله في إنزال المطر
ونبات الزرع ودفع المؤذيات. ومن ترك
الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط
مذموم.والتوكل باعتبار تعلقه
بالأسباب ينقسم إلى قسمين : 1 - توكل
اضطرار 2- توكل اختيار .
و من الأدلة على
ارتباط التوكل بالأخذ بالأسباب : من
القرآن (يا أيها الذين آمنوا خذوا
حذركم) ،(وأعدوا لهم ما استطعتم من
قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو
الله وعدوكم) ، (فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل
الله واذكروا الله كثيراً لعلكم
تفلحون) ،(فكلوا مما غنمتم حلالاً
طيباً واتقوا الله) ، (وتزودوا فإن
خير الزاد التقوى) وقوله تعالى(فبما
رحمة من الله لنت لهم...)آل عمران 159، (ولقد
نصركم الله ببدر ....)آل عمران 123-125) ، (وهزي
إليك بجذع النخلة ...) مريم25- 26 ، (أينما تكونوا
يدرككم الموت ...) النساء 78 ، ( وعلمناه
صنعة لبوس ...)الأنبياء 80، (يا أيها
الذين آمنوا خذوا حذركم ...)النساء ، ومن
السنة حديث (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)
رواه أحمد وابن أبي شيبة وذكره
البخاري تعليقاً والهيثمي في المجمع
، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
على ناقة له ، فقال: يا رسول الله
أدعها وأتوكل ؟ فقال: اعقلها وتوكل.
رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو
نعيم والبيهقي وابن حبان . وعن عمر
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لو أنكم توكلون على الله حق
توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو
خماصاً وتعود بطاناً. رواه أحمد وابن
المبارك في الزهد والترمذي في الزهد
وابن ماجه في الزهد والحاكم وصححه
ووافقه الذهبي والبيهقي في الشعب
وأبو نعيم في الحلية وغيرهم.خماصاً:
جياعاً ، بطاناً: ممتلئات البطون.
والمعنى الإجمالي للحديث: أن التوكل
الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله عز
وجل ، والثقة بحسن النظر فيما أمر به
، فلو أن المسلمين يتوكلون على الله
جل ثناؤه في كل شئونهم لرزقهم كالطير
تماماً ولكن بعضهم يعتمد على قوته
وحذره ويحلف بالباطل وكل هذا خلاف
التوكل. وعن المقدام بن معدي كرب عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أكل
أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من
عمل يده وإن نبي الله داود عليه
السلام كان يأكل من عمل يده. رواه
البخاري وابن ماجه وأحمد والبيهقي في
الشعب. وعن عمر رضي الله عنه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق
على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ،
ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله
، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك حياته .... رواه البخاري ومسلم.
ولقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل
اليمن فقال من أنتم؟ قالوا: نحن
المتوكلون ، فقال أنتم المتكلون ،
إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض
ويتوكل على الله. وفي ذلك الرد البليغ
على من يتركون الأسباب تقاعساً بدعوى
التوكل على الله ، ولو صدقوا لأحسنوا
العمل.
أما
التواكل فهو: ترك الكسب
والطمع في المخلوقين والاعتماد
عليهم بالتخلي عن الأسباب التي وضعها
الله عز وجل والانقطاع عن السعي
والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج
من الخلق أو القدرأو الاتكال على
الله أن يخرق له العوائد. ولأصحاب هذا
المفهوم أدلة. والتواكل خسة همة وعدم
مروءة لأنه إبطال حكمة الله التي
أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات
على الأسباب. ولقد حارب الاسلام
التواكل وحذر منه ، وهو حرام ليس من
الشرع أصلاً وهو مخالف للنصوص.