وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب عنها بالنصوص الدالة من الكتاب
والسنة على أن من تاب إلى الله تاب الله عليه وغفر له فبقى من لم يتب داخلا تحت
المشيئة وأيضا فيدل على أن الكبائر لا تكفرها الأعمال إن الله لم يجعل للكبائر في
الدنيا كفارة واجبة وإنما جعل الكفارة للصغائر ككفارة وطء المظاهر ووطء المرأة في
الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وكفارة من ترك شيئًا من
واجبات الحج أو ارتكاب بعض محظوراته وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام ولهذا لا
تجب الكفارة في قتل العمد عند جمهور العلماء ولا في اليمين الغموس أيضًا عند أكثرهم
وإنما يؤمر القاتل بعتق رقبة استحبابا كما في حديث واثلة بن الأسقع أنهم جاءوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لهم قد أوجب فقال اعتقوا عنه رقبة يعتقه الله بها
من النار ومعنى أوجب عمل عملًا يجب له به النار ويقال إنه كان قتل قتيلا وفي صحيح
مسلم عن ابن عمر أنه ضرب عبدًا له فأعتقه وقال ليس لي فيه من الأجر مثل هذا وأخذ
عودا من الأرض إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من لطم مملوكه أو ضربه فإن
كفارته أن يعتقه فإن قيل فالمجامع في رمضان يؤمر بالكفارة والفطر في رمضان من
الكبائر قيل ليست الكفارة للفطر ولهذا لا يجب عند الأكثرين على كل مفطر في رمضان
عمدا وإنما هي لهتك حرمة رمضان بالجماع ولهذا لو كان مفطرا فطرا لا يجوز له نهار
رمضان ثم جامع للزمته الكفارة عند الإمام أحمد لما ذكرنا ومما يدل على أن تكفير
الواجبات مختص بالصغائر ما أخرجه البخاري عن حذيفة قال بينما نحن جلوس عند عمر إذ
قال أيكم يحفظ قول رسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال قلت فتنة الرجل في أهله
وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ليس
عن هذا أسألك وخرجه مسلم بمعناه وظاهر هذا السياق يقتضي رفعه وفي رواية البخاري أن
حذيفة قال سمعته يقول فتنة الرجل فذكره وهذا كالصريح في رفعه وفي رواية مسلم أن هذا
من كلام عمر وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له أصبت حدا فأقمه على
فتركه حتى صلى ثم قال له إن الله غفر لك حدك فليس صريحا في أن المراد به شيء من
الكبائر لأن حدود الله محارمه كما قال تعالى
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الطلاق،
وقوله
{تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} البقرة، وقوله
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} النساء الآية
إلى قوله
{وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء.
وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب مثل
الإسلام بالصراط المستقيم على جنبيه سوران.
قال السوران حدود الله وقد سبق ذكره بتمامه فكل من أصاب شيئًا من
محارم الله فقد أصاب حدوده وركبها وتعدى بها وعلى تقدير أن يكون الحد الذي أصابه
كبيرة فهذا الرجل جاء نادمًا تائبًا وأسلم نفسه إلى إقامة الحد عليه والندم توبة
والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد وقد روي ما يستدل به على أن الكبائر تكفر ببعض
الأعمال الصالحة فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال فهل لك
من أم قال لا قال فهل لك من خالة قال نعم قال فبرها وخرجه ابن حبان في صحيحه
والحاكم وقال على شرط الشيخين لكن خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلًا وذكر أن المرسل
أصح من الموصول وكذا قال على بن المديني والدارقطني وروي عن عمر أن رجلًا قال له
قتلت نفسا قال أمك حية قال لا قال فأبوك قال نعم قال فبره وأحسن إليه ثم قال عمر لو
كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها رجوت أن لا تطعمه النار أبدًا وعن ابن عباس بمعناه
أيضًا، وكذلك المرأة التي عملت بالسحر بدومة الجندل وقدمت المدينة فسأل عن توبتها
فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي فقال لها أصحابه لو كان أبواك حيين أو
أحدهما يكفيانك خرجه الحاكم وقال فيه إجماع الصحابة حدثان وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم على أن بر الأبوين الوالدين يكفيانها وقال مكحول والإمام أحمد بر
الوالدين كفارة الكبائر وروي عن بعض السلف في حمل الجنائز أنه يحبط الكبائر وروي
مرفوعًا من وجوه لا تصح وقد صح من رواية أبي بردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاة قال
يا بني اذكروا صاحب الرغيف كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة فشبه الشيطان في
عينه امرأة فكان معها سبعة أيام وسبع ليال ثم كشف عن الرجل غطاءه فخرج تائبًا ثم
ذكر أنه بات بين مساكين فتصدق عليهم برغيف فأعطوه رغيفا ففقده صاحبه الذي كان يعطاه
فلما علم بذلك أعطاه الرغيف وأصبح ميتا فوزنت السبعون سنة بالسبع ليال فرجحت
الليالي ووزن الرغيف بالسبع ليال فرجح الرغيف وروي ابن المبارك بإسناده في كتاب
البر والصلة عن ابن مسعود قال عبدالله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله
ثم أصابته زمانة وأقعد فرأى رجلًا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق
به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة وهذه كلها لا دلالة فيها على
تكفير الكبائر بالأعمال لأن كل من ذكر فيها كان نادمًا تائبًا من ذنبه وإنما كان
سؤاله عن عمل صالح يتقرب به إلى الله بعد التوبة حتى يمحو به أثر الذنب بالكلية فإن
الله شرط في قبول التوبة ومغفرة الذنوب بها العمل الصالح كقوله إلا من تاب وآمن
وعمل صالحًا مريم، وقوله فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين
القصص وفي هذا متعلق لمن يقول إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير
من الخائفين من السلف وقال بعضهم هل أذنبت ذنبا قال نعم قال فعلمت أن الله كتبه
عليك قال نعم قال فاعمل حتى تعلم أن الله قد محاه ومنه قال ابن مسعود إن المؤمن يرى
ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه
فقال به هكذا وهكذا خرجه البخاري وكانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم ويخافون أن لا
يكون قد قبل منهم ذلك فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح
قال الحسن أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه.
وقال ابن عون لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ولا
تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا إن عملك مغيب عنك كله والأظهر والله
أعلم.
في هذه المسألة أعني مسئلة تكفير الكبائر بالأعمال إن أريد أن
الكبائر تمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر
باجتناب الكبائر فهذا باطل وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض
الأعمال فتمحي الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب فهذا قد
يقع وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال ليس لي فيه من الأجر
شيء حيث كان كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر فكيف بما كان من الأعمال مكفرا
للكبائر وسبق أيضًا قول من قال من السلف إن السيئة تمحي ويسقط نظيرها حسنة من
الحسنات التي هي ثواب العمل فإذا كان هذا في الصغائر فكيف بالكبائر فإن بعض الكبائر
قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يبطل المن والأذى الصدقة وتبطل المعاملة
بالربا الجهاد كما قالت عائشة وقال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة وروي عنه
مرفوعًا خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال يؤتي بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقض أو يقضي بها بعضها من بعض فإن
بقيت له حسنة وسع له بها في الجنة.
أحصيته
في أثرك ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ثم قال ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم على
الناس كتاب الله قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات قال وتلا
{إِن تَجْتَنِبُواْ
كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم
مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء.
وفي تفسير اللمم قولان للسلف أحدهما أنه مقدمات الفواحش كاللمس
والقبلة وعن ابن عباس هو ما دون الحد من وعيد الآخرة بالنار وحد الدنيا والثاني أنه
الإلمام بشيء من الفواحش والكبائر مرة واحدة ثم يتوب منه وروي عن ابن عباس وأبي
هريرة وروي عنه مرفوعًا بالشك في رفعه قال اللمة من الزنا ثم يتوب فلا يعود واللمة
من شرب الخمر ثم يتوب فلا يعود واللمة من السرقة ثم يتوب فلا يعود ومن فسر الآية
بهذا قال لا بد أن يتوب منه بخلاف من فسره بالمقدمات فإنه لم يشترط توبة والظاهر أن
القولين صحيحان وأن كليهما مراد من الآية وحينئذ فالمحسن هو من لا يأتي بكبيرة إلا
نادرا ثم يتوب منها ومن إذا أتى بصغيرة كانت مغمورة في حسناته المكفرة بها ولا بد
أن يكون مصرا عليها كما قال تعالى
{وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى
مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران.
قال كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه
فيجيء المسكين فيستقلون أن يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك فيردونه ويقولون ما هذا
بشيء إنما نؤجر على ما يعطي ونحن نحبه وكانوا يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير
مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك يقولون إنما وعد الله النار على الكبائر
فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر
فإنه يوشك أن يكثر فنزلت فمن يعمل مثقال ذرة الزلزلة يعني ذرة أصغر النمل خيرًا يره
الزلزلة يعني في ويسره ذلك قال يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة واحدة سيئة وبكل حسنة
عشر حسنات فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمن أيضًا بكل واحدة عشرًا
فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة.
فخص الله الذنوب بالمغفرة والسيئات بالتكفير فقد يقال السيئات تخص
الصغائر والذنوب يراد بها الكبائر فالسيئات تكفر لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا
شرعية وقدرية والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها أو المغفرة والتكفير
يتقاربان فإن المغفرة قد قيل إنها ستر الذنوب وقيل وقاية شر الذنوب مع ستره ولهذا
يسمى ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مغفرا ولا يسمى كل ساتر للرأس مغفرا وقد أخبر
الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقاية السيئات والتكفير
من هذا الجنس لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضًا وقد فرق بعض المتأخرين بينهما بأن
التكفير محو أثر الذنب حتى كأنه لم يكن والمغفرة تتضمن مع ذلك إفضال الله على العبد
وإكرامه وفي هذا نظر وقد يفسر بأن مغفرة الذنوب بالأعمال الصالحة تقلبهما حسنات
وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط وفيه أيضًا نظر فإنه قد صح أن الذنوب المعاقب عليها
بدخلول النار تبدل حسنات فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارة لها أولي ويحتمل معنيين
آخرين أحدهما أن المغفرة لا تحصل إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة لأنها وقاية شر
الذنب بالكلية والتكفير قد يقع بعد العقوبة فإن المصائب الدنيوية كلها مكفرات
للخطايا وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة والثاني أن
الكفارات من الأعمال ما جعل الله لمحو الذنوب المكفرة بها ويكون ذلك هو ثوابها ليس
لها ثواب غيره والغالب عليها أن تكون من جنس مخالفة هوى النفس وتجشم المشقة كاجتناب
الكبائر الذي جعله الله كفارة للصغائر وأما الأعمال التي تغفر بها الذنوب فهي ما
عدا ذلك ويجتمع فيها المغفرة والثواب عليها كالذكر الذي يكتب به الحسنات ويمحي به
السيئات وعلى هذا الوجه فيفرق بين الكفارات من الأعمال وغيرها وأما تكفير الذنوب
ومغفرتها إذا أضيف ذلك إلى الله فلا فرق بينهما وعلى الوجه الأول يكون بينهما فرق
أيضًا ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران أحدهما قول ابن عمر لما أعتق العبد الذي ضربه
ليس لي في عتقه من الأجر شيء واستدل بأنه كفارة والثاني أن المصائب الدنيوية كلها
مكفرات للذنوب وقد قال كثير من الصحابة وغيرهم من السلف إنه لا ثواب فيها مع
التكفير وإن كان بعضهم قد خالف في ذلك ولا يقال فقد فسر الكفارات في حديث المنام
بإسباغ الوضوء في المكروهات ونقل الإقدام إلى الصلاة وقال من فعل ذلك عاش بخير ومات
بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفع الدرجات
ويحصل عليه الثواب لأنا نقول قد يجتمع في العمل الواحد شيئان يرفع بأحدهما الدرجات
ويكفر بالآخر السيئات فالوضوء نفسه يثاب عليه لكن إسباغه في شدة البرد من جنس
الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا فيكون كفارة في هذه الحال وأما في غير هذه
الحالة فتغفر به الخطايا كما يغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قربة
وطاعة ويثاب عليه ولكن ما يحصل للنفس به من المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة،
وكذلك حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى
المواضع التي تميل النفوس إليها إما لكسب الدنيا أو للتنزه هو من هذه الجهة مؤلم
للنفس فيكون كفارة وقد جاء في الحديث إن إحدى خطوات الماشي إلى المسجد ترفع له درجة
والأخرى تحط عنه خطيئة وهذا يقوي ما ذكرناه وإن ما حصل به التكفير غير ما حصل به
رفع الدرجات والله أعلم.
وعلى هذا فيجتمع في العمل الواحد تكفير السيئات ورفع الدرجات من
جهتين ووصف في كل حال بكلا الوصفين فلا تنافي بين تسميته كفارة وبين الإخبار عنه
بمضاعفة الثواب به أو وصفه برفع الدرجات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم الصلوات
الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فإن
في حبس النفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما
يوجب ذلك تكفير الصغائر، وكذلك الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من
الألم وترفع الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن فتبين بها أن
بعض الأعمال يجتمع فيها ما يوجب رفع الدرجات وتكفير السيئات من وجهين ولا يكون
بينهما منافاة وهذا ثابت في الذنوب الصغائر وبلا ريب وأما الكبائر فقد تكفر
بالشهادة مع حصول الأجر للشهيد لكن الشهيد ذا الخطايا في رابع درجة من درجات
الشهداء كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فضالة بن عبيد خرجه الإمام
أحمد والترمذي وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها فقد دلت عليه
الأحاديث الصحيحة في الذكر وقد قيل إن تلك السيئات تكتب حسنات أيضًا كما في حديث
أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكره وذكرنا أيضًا عن بعض السلف أنه يمحي بإزاء السيئة
الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة وتبقى له تسع حسنات والظاهر أن هذا مختص
بالصغائر وأما في الآخرة فيوازن بين الحسنات والسيئات ويقتص بعضها من بعض فمن رجحت
حسناته على سيئاته فقد نجا ودخل الجنة وسواء في هذا الصغائر والكبائر وهكذا من كانت
له حسنات وعليه مظالم فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة ودخل بها
الجنة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان وليًا لله ففضل له مثقال ذرة
ضاعفها الله حتى يدخل الجنة وإن كان شقيا قال الملك رب فنيت حسناته وبقي له طالبون
كثير قال خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاكا إلى النار خرجه ابن
أبي حاتم وغيره والمراد أن تفضيل مثقال ذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله عز وجل
لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات وأراد الله
رحمته فضل له من حسناته ما يدخله به الجنة وكله من فضل الله ورحمته فإنه لا يدخل
أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته.
وخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف عن على مرفوعًا أوحى الله إلى نبي من
أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أقاص
عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا
يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي ومصداق هذا قول النبي صلى الله
عليه وسلم في الحديث الصحيح من نوقش الحساب عذب وفي رواية هلك.
ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن
المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب
من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب
الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها
بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل
يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها
لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال
لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل
كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا
الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر.
وقد خرج ابن جرير من رواية الحسن أن قومًا أتوا عمر فقالوا نرى
أشياء من كتاب الله لا يعمل بها فقال لرجل منهم أقرأت القرآن كله قال نعم قال فهل
أحصيته في نفسك قال اللهم لا قال فهل أحصيته في بصرك فهل أحصيته في لفظك هل
نَ} الشورى فليس منافيًا للعفو
فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ثم يقع العفو بعد ذلك فيكون أتم
وأكمل.
قال النخعي في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا
عفوا.
وقال مجاهد كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فتجتريء عليه الفساق
فالمؤمن إذا بغى عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك.
وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف منهم عطاء وقتادة وغيرهما فهذه
الآيات تتضمن جميع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ فإنها تضمنت
حصول خصال التقوى بفعل الواجبات والانتهاء عن كبائر المحرمات ومعاملة الخلق
بالإحسان والعفو ولازم هذا أنهم إن وقع شيء من الإثم من غير الكبائر والفواحش
يكونون مغمورين بخصال التقوى المفضية لتكفيرها ومحوها وأما الآيات التي في سورة آل
عمران فوصف فيها المتقين بالإحسان إلى الخلق وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس
وعدم الإصرار على ذلك وهذا هو الأكمل وهو إحداث التوبة والاستغفار عقيب كل ذنب من
الذنوب صغيرًا كان أو كبيرًا كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصى بذلك
معاذًا وقد ذكرناه فيما سبق وإنما بسطنا القول في هذا لأن حاجة الخلق إليه شديدة
وكل أحد محتاج إلى معرفة هذا ثم إلى العمل بمقتضاه والله الموفق والمعين.
فقوله صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحها ظاهره أن
السيئات تمحى بالحسنات وقد تقدم ذكر الآثار التي فيها أن السيئة تمحى من صحف
الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها.
قال عطية العوفي بلغني أن من بكى على خطيئة محيت عنه وكتبت له
حسنة.
وعن عبدالله بن عمرو قال من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها فاستغفر
الله عز وجل لم يحبسها شيء حتى يمحوها عنه الرحمن.
وقال بشير بن الحارث بلغني عن الفضيل بن عياض قال بكاء النهار يمحو
ذنوب العلانية وبكاء الليل يمحو ذنوب السر وقد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات الحديث.
وقد ذكر بعض العلماء والمفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند
المحققين.
وقد روي هذا القول عن الحسن البصري وبلال بن سعد الدمشقي.
قال الحسن فالعبد يذنب ثم يتوب ويستغفر الله له ولكن لا يمحاه من
كتابه دون أن يقف عليه ثم يسأله عنه ثم بكى الحسن بكاء شديدًا وقال ولو لم نبك إلا
للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي.
وقال بلال بن سعد إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة
حتى يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب.
وقال أبو هريرة يدني الله العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه فيستره
من الخلائق كلها ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول اقرأ يا بن آدم كتابك فيقرأ
فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ويسر بها قلبه فيقول الله أتعرف ياعبدي فيقول نعم يا
رب فيقول إني قبلتها منك فيسجد فيقول ارفع رأسك وعد في كتابك فيمر بالسيئة فيسود
لها وجهه ويوجل لها قلبه وترتعد منها فرائضه ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه
غيره فيقول الله أتعرف يا عبدي فيقول نعم يا رب فيقول إني قد غفرتها لك فيسجد فلا
يرى منه الخلائق إلا السجود حتى ينادي بعضهم بعضًا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص
الله قط ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين ربه عز وجل مما قد وقفه عليه.
وقال أبو عثمان النهدي عن سلمان يعطى الرجل صحيفته يوم القيامة
فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم نظر في
أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.
وروي عن أبي عثمان عن ابن مسعود وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال يدخل أهل
الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين قيل
لم سموا أصحاب اليمين قال لأنهم عملوا الحسنات والسيئات فأعطوا كتبهم بأيمانهم
فقرؤوا سيئاتهم حرفًا حرفًا قالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا فعند ذلك محا
الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا هاؤم أقرؤوا كتابيه الحاقة فهم أكثر أهل
الجنة وأهل هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون
محو كتابتها من الصحف والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم وخالق الناس بخلق حسن هذا من خصال التقوى
ولا تتم التقوى إلا به وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه فإن كثيرًا من الناس
يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده فنص له على الأمر بإحسان العشرة
للناس فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا ومن كان كذلك فإنه
يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره مما لا حاجة للناس به ولا
يخالطهم وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته
وخشيته وطاعته وإهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها والجمع بين القيام بحقوق
الله وحقوق عباده عزيز جدًا لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين وقال
الحارث المحاسبي ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة حسن الوجه مع الصيانة وحسن الخلق مع
الديانة وحسن الإخاء مع الأمانة وقال بعض السلف جلس داود عليه الصلاة والسلام خاليا
فقال الله عز وجل مالي أراك خاليا قال هجرت الناس فيك يا رب العالمين قال يا داود
ألا أدلك على ما تستبقى به وجوه الناس وتبلغ فيه رضاي خالق الناس بأخلاقهم واحتجز
الإيمان بيني وبينك وقد عد الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى بل
بدأ في قوله أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين
عن الناس والله يحب المحسنين آل عمران وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سعيد المقبري
قال بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال يا معلم الخير
كيف أكون تقيا لله عز وجل كما ينبغي قال بيسير من الأمر تحب الله بقلبك كله وتعمل
بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك قال من بني جنسي يا معلم الخير
قال ولد أم كلهم ومالًا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته لأحد وأنت تتقي لله عز وجل كما
ينبغي له وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق من حسن خصال أخلاق الإيمان
كما خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخرجه محمد بن نصر المروزي وزاد
فيه إن المرء ليكون مؤمنا وإن في خلقه شيئًا فينقص ذلك من إيمانه.
وخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك قال
قالوا يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم قال الخلق الحسن وأخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم ليلًا يشتغل المريد
للتقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة ويظن أن ذلك يقطعه عن فضلهما فخرج الإمام أحمد
وأبو داود من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه
درجات الصائم والقائم وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن حسن الخلق أثقل ما
يوضع في الميزان وإن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا فخرج
الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال ما من شيء يوضع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن
الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة.
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة قالوا
بلى قال أحسنكم خلقا وقد سبق حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما
يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق.
وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه وخرجه الترمذي وابن ماجه بمعناه من حديث
أنس وقد روي عن السلف تفسير حسن الخلق فعن الحسن قال حسن الخلق الكرم والبذلة
والاحتمال وعن الشعبي قال حسن الخلق البذلة والعطية والبشر الحسن، وكان الشعبي كذلك
وعن ابن المبارك قال هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى وسئل سلام بن أبي مطيع عن
حسن الخلق فأنشد شعرا فقال:
تراه إذا ما جئته متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله
وقال الإمام أحمد حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد، وعنه أنه قال حسن
الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس وقال إسحاق بن راهويه هو بسط الوجه وأن لا تغضب
ونحو ذلك قال محمد بن نصر وقال بعض أهل العلم حسن الخلق كظم الغيظ لله وإظهار
الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر والعفو عن الزالين إلا تأديبا وإقامة الحد وكف
الأذى عن كل مسلم ومعاهد إلا تغيير منكر وأخذا بمظلة لمظلوم من غير تعد.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن شتمك.
وخرج الحاكم من حديث عقبة ابن عامر الجهني قال قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة تصل من قطعك
وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وخرج الطبراني من حديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا
أدلكم على أكرم أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن
ظمك.