الحديث التاسع والأربعون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو
أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه
الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن صحيح
هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبدالله بن هبيرة سمع أبا حاتم
الحساني سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو
تميم وعبد الله خرج لهما مسلم ووثقهما غير واحد وأبو تميم ولد في حياة النبي صلى
الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وروى هذا الحديث من حديث
ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن في إسناده من ال يعرف حاله قال أبو حاتم
الرازي وهذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق قال
الله عز وجل
{وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق
وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أبي ذر وقال له لو أن الناس كلهم
أخذوا بها لكفتهم يعني لو حققوا التقوى والتوكل لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم
وديناهم.
وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس احفظ الله
يحفظك.
قال سعيد بن جبير التوكل جماع الإيمان.
وقال وهب بن منبه الغاية القصوى التوكل.
وقال سهل التستري من طعن في الحركة يعني في السعي والكسب فقد طعن في
السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم
والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته ثم إن الأعمال التي يعملها العبد
ثلاثة أقسام:
أحدها الطاعات التي أمر الله عباده بها وجعلها سببًا للنجاة من
النار ودخول الجنة فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه
فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فمن قصر في شيء مما وجب
عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعا وقدرا.
قال يوسف بن أسباط: يقال اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله وتوكل
توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له.
والثاني: ما أجري الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه
كالأكل عند الجوع والشرب عند العطش والاستظلال من الحر والتدفؤ من البرد ونحو ذلك
فهذا أيضًا واجب على المرء تعاطي أسبابه ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على
استعماله فهو مفرط يستحق العقوبة لكن الله سبحانه وتعالى قد يقوي بعض عباده من ذلك
مالًا يقوي عليه غيره فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره فلا حرج عليه
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل في صيامه وينهي عن ذلك أصحابه ويقول لهم
إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقيوفي رواية إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني وفي رواية
إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوته ويغذيه بما
يورده على قلبه من الفتوح القدسية والمنح الإلهية والمعارف الربانية التي تغنيه عن
الطعام والشراب برهة من الدهر كما قال القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضئ به *** وقت المسير وفي أعقابها حادي
إذا اشتكت من كلال السير أو عدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد
وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس
لغيرهم ولا يتضررون بذلك، وكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام، وكان أبو الجوزاء
يواصل في صومه بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاة فيكاد يحطمها، وكان إبراهيم
التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئًا غير أنه يشرب شربة حلوي، وكان حجاج بن فرافصة يبقي
أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، وكان بعضهم لا يبالي بالحر ولا
بالبرد كما كان علي رضي الله عنه يلبس لباس الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعا له أن يذهب الله عنه الحر والبرد فمن كان له قوة
على مثل هذه الأمور فعمل بمقتضى قوته ولم يضعفه عن طاعة الله فلا حرج عليه ومن كلف
نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات فإنه ينكر عليه ذلك، وكان السلف ينكرون على
عبد الرحمن بن غنم حيث كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه.
القسم الثالث: ما جرى الله العادة به في الدينا في الأعم الأغلب
وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده وهو أنواع منها ما يخرقه كثيرًا ويغني
كثيرًا من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثير من البلدان وسكان البوادي ونحوها.
وقد اختلف العلماء هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن
حقق التوكل على الله فيه قولان مشهوران وظاهر كلام أحمد أن التوكل لمن قوي عليه
أفضل لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا
بغير حساب ثم قال هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلي ربهم يتوكلون.
ومن رجح التداوي قال إنه حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم
عليه وهو لا يفعل إلا الأفضل وحمل الحديث على الرقى المكروهة التي يخشى منها الشرك
بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه.
ومنها ما يخرقه لقليل من العامة كحصول الرزق لمن ترك السعي في طلبه
فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل وعلم من الله أن يخرق له العوائد ولا يحوجه إلى
الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه جاز له ترك الأسباب ولم ينكر عليه ذلك، وحديث
عمر هذا الذي نتكلم عليه يدل على ذلك ويدل على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق
التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها فلذلك يتعبون أنفسهم في
الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم فلو حققوا التوكل
على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدني سبب كما يسوق الطير إلى أرزاقها بمجرد
الغدو والرواح وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير وربما حرم الإنسان رزقه أو
بعضه بذنب يصيبه كما في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليحرم
الرزق بالذنب يصيبه وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم لن تموت نفس حتى
تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم وقال عمر بين
العبد وبين رزقه حجاب فإن قنع ورضيت نفسه آتاه الله رزقه وإن اقتحم وهتك الحجاب لم
يزد فوق رزقه قال بعض السلف توكل تسق إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف قال سالم بن
أبي الجعد حدثت أن عيسي عليه السلام كان يقول اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم وإياكم
وفضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز هذا طير السماء يغدو ويروح ليس معه من
أرزاقه شيء لا يحرث ولا يحصد ويرزقه الله فإن قلتم إن بطوننا أعظم من بطون الطير
فهذه الوحوش من البقر والحمير تغدو وليس معها من أرزاقها شيء لا تحرث ولا تحصد
يرزقها الله خرجه ابن أبي الدنيا.
وخرج بإسناده عن ابن عباس قال كان عابد يتعبد في غار، وكان غراب
يأتيه كل يوم برغيف يجد فيه طعم كل شيء حتى مات ذلك العابد وعن سعيد بن عبد العزيز
عن بعض مشيخة دمشق قال أقام إلياس هاربا من قومه في جبل عشرين ليلة أو قال أربعين
تأتيه الغربان برزقه وقال سفيان الثوري قرأ واصل الأحذب هذه الآية
{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ
وَمَا تُوعَدُونَ} الذاريات فقال ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في
الأرض فدخل خربة فمكث ثلاثًا لا يصيب شيئًا فلما كان اليوم الرابع إذ هو بدوخلة من
رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق
الموت بينهما ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثقه به فدخل المفاوز بغير زاد
فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة وله في ذلك أسوة بإبراهيم
الخليل عليه السلام حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع وترك عندهما جرابا
فيه تمر وسقاء فيه ماء فلما تبعته هاجر وقالت له إلى من تدعنا قال لها إلى الله
قالت رضيت بالله وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه
من الإلهام الحق ما يعلمون أنه حق ويثقون به قال المروزي قيل لأبي عبدالله أي شيء
صدق التوكل على الله قال أن يتوكل على الله ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع
أن يجيبه بشيء فإذا كان كذلك كان الله يرزقه، وكان متوكلا قال وذكرت لأبي عبدالله
التوكل فأجازه لمن استعمل فيه الصدق قال وسألت أبا عبدالله عن رجل جلس في بيته
ويقول أجلس وأصبر ولا أطلع على ذلك أحدًا وهو يقدر أن يحترف قال لو خرج فاحترف كان
أحب إلي وإذا جلس خفت أن يحوجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسلوا إليه بشيء قلت فإذا كان
يبعث إليه بشيء فلا يأخذه قال هذا جيد قلت لأبي عبدالله إن رجلًا بمكة قال لا آكل
شيئًا حتى يطعمني ربي ودخل في جبل أبي قبيس فجاء إليه رجلان وهو متزر بخرقة فألقيا
إليه قميصا وأخذا بيده فألبساه القميص ووضعا بين يديه شيئًا فلم يأكل حتى وضعا
مفتاحا حديدا في فيه وجعلا يدسان في فمه فضحك أبو عبدالله وجعل يتعجب قلت لأبي
عبدالله إن رجلًا ترك البيع والشراء وجعل على نفسه أن لا يقع في يده ذهب ولا فضة
وترك دوره فلم يأمر فيها بشيء، وكان يمر في الطريق فإذا رأي شيئًا مطروحا أخذ بيده
مما قد ألقي قال المروزي قلت للرجل مالك حجة على هذا غير أبي معاوية الأسود قال بل
أويس القرني كان يمر بالمزابل فيلتقط الرقاع فصدقه أبو عبدالله قال قد شدد على نفسه
ثم قال لقد جاءني البقلي ونحوه فقلت لهم لو تعرضتم للعمل تشهرون أنفسكم قال وإيش
ينالني من الشهرة وروى أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة
بغير زاد فقال إن كنت تطيق وإلا فلا تخرج إلا بزاد وراحلة لا تخاطر قال أبو بكر
الخلال يعني إن أطاق وعلم أنه يقوي على ذلك ولا يسأل ولا يستشرف نفسه لأن يأخذ أو
يعطي فيقبل فهو متوكل على الصدق وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق قال وقد حج أبو
عبدالله وكفاه في حجته أربعة عشر درهما وسئل إسحاق ابن راهويه هل للرجل أن يدخل
المفازة من غير زاد فقال إن كان الرجل مثل عبدالله بن جبير فله أن يدخل المفازة
بغير زاد وإلا لم يكن له أن يدخل ومتي كان الرجل ضعيفا وخشي على نفسه أن لا يصبر أو
يتعرض للسؤال أو أن يقع في الشك والسخط لم يجز له ترك الأسباب حينئذ وأنكر عليه
غاية الإنكار كما أنكر الإمام أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلي من دخل المفازة
بغير زاد وخشي عليه التعرض للسؤال وقد روي عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون ولا
يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيحجون فيأتون مكة فيسألون الناس فأنزل الله هذه الآية
{وَتَزَوَّدُواْ
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة.
وكذلك قال مجاهد وعكرمة والنخعي وغير واحد من السلف فلا يرخص في ترك
السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية وقد روي عن
أحمد أنه سئل عن التوكل فقال قطع الاستشراف باليأس من الخلق فسئل عن الحجة في ذلك
فقال قول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل وهو يرمي في النار فقال له ألك حاجة
فقال أما إليك فلا وظاهر كلام أحمد أن الكسب أفضل بكل حال فإنه سئل عمن يقعد ولا
يكتسب ويقول توكلت على الله فقال ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعودون
على أنفسهم بالكسب وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قيل له لو أن رجلًا
قعد في بيته زعم أنه يثق بالله فيأتيه رزقه قال إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه وثق
به لم يمنعه شيء أراده ولكن لم يفعل ذلك الأنبياء ولا غيرهم وقد كان الأنبياء
يؤجرون أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر ولم يقولوا
نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل وقال الله عز وجل
{فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة ولا بد من طلب المعيشة.
وقد روي عن بشر ما يشعر بخلاف هذا فروى أبو نعيم في الحلية أن بشر
سئل عن التوكل فقال اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب فقال له السائل فسره لنا فقال
بشرا اضطراب بلا سكون رجل تضطرب جوارحه وقلبه ساكن إلى الله لا إلى عمله وسكون بلا
اضطراب رجل ساكن إلى الله بلا حركة وهذا عزيز وهو من صفات الأبدال وبكل حال فمن لم
يصل إلى هذه المقامات العالية فلا بد له من معاناة الأسباب لا سيما من له عيال لا
يصبرون وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت، وكان
بشر يقول لو كان لي عيال لعملت واكتسبت، وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقا له ولم يكن
راضيا بفوات حقه فإن هذا عاجز مفرط وفي مثل هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك
واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر
قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان خرجه مسلم بمعناه من حديث أبي هريرة
وفي سنن أبي داود وعن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بين رجلين فقال
المقضي عليه لما أدبر حسبنا الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن
الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل.
وخرج الترمذي من حديث أنس قال قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل
أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل وذكر عن يحيى القطان أنه قال هو عندي حديث منكر
وخرجه الطبراني من حديث عمرو بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى الوضين بن
عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عابد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن التوكل بعد
الكيس وهذا مرسل ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس والسعي في الأسباب المباحة ويتوكل
على الله بعد سعيه وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد
يكون جمعهما أفضل قال معاوية بن قرة لقي عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن فقال من
أنتم قالوا نحن المتوكلون قال بل أنتم المتأكلون إنما المتوكل الذي يلقي حبه في
الأرض ويتوكل على الله قال الخلال أخبرنا محمد بن منصور قال سأل المازني بشر بن
الحارث عن التوكل فقال المتوكل لا يتوكل على الله ليكفي ولو حلت هذه القصة في قلوب
المتوكلين لضجوا إلى الله بالندم والتوبة ولكن المتوكل يحل بقلبه الكفاية من الله
تبارك وتعالى فيصدق الله فيما ضمن ومعنى هذا الكلام أن المتوكل على الله حق التوكل
لا يأتي بالتوكل ويجعله سببًا لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره فإنه لو فعل
ذلك لكان كمن أتي سائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها وهذا نوع نقص في تحقيق
التوكل وإنما التوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده برزقه وكفايته فيصدق الله
فيما ضمنه ويثق بقلبه ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج
التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر ومؤمن
وكافر كما قال تعالى
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا} هود هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب
الرزق قال تعالى
{وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ
يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} العنكبوت فما دام العبد حيا فرزقه على
الله وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب فمن توكل على الله لطلب الرزق فقد جعل
التوكل سببًا وكسبا ومن توكل عليه لثقته بضمانه فقد توكل عليه ثقة به وتصديقا
بوعده.
وما أحسن قول المثني الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد لا
تكونوا بالمضمون مهتمين فتكونوا للضامن متهمين وبرزقه غير راضين.
واعلم أن ثمرة التوكل الرضاء بالقضاء فمن وكل أموره إلى الله ورضي
بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون
التوكل على الله بالرضا.
قال ابن أبي الدنيا بلغني عن بعض الحكماء قال التوكل على ثلاث
درجات:
أولها ترك الشكاية.
والثانية الرضا.
والثالثة المحبة بترك الشكاية ودرجة الصبر والرضا سكون القلب بما
قسم الله له وهي أرفع من الأولي والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به فالأولي
للزاهدين والثانية للصادقين والثالثة للمرسلين انتهى.
المتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره فهو
صابر وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه فهو الراضي وإن لم يكن له اختيار بالكلية ولا
رضا إلا فيما يقدر له فهو درجة المحبين العارفين كما كان عمر بن عبد العزيز يقول
أصبحت ومالي سرور إلا في وضع القضاء والقدر.