كيف نشأت فكرة الخلافة في بني
العباس:
توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وليس يؤثر عنه خبر
مكشوف فيمن يتولى خلافة المسلمين بعده، وكان العباس بن عبد المطلب قد أشار على علي
بن أبي طالب أن يدخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو مريض فيسأله عن
الخلافة بعده فإن كانت فيهم وإلا أوصى بهم من سيكون خليفة. فامتنع من ذلك علي
قائلاً: إنه إن منعنا إياها لا ننالها أبداً.
عاش علي والعباس في عهد أبي بكر، ثم بايعا عمر لما عهد إليه
أبو بكر بالخلافة وظلا مدة حياته محترمين مطيعين. إلى أن استخلف ثالث الخلفاء عثمان
بن عفان بعد مناظرات طويلة بين رجال الشورى الذين عهد إليهم عمر اختيار الخليفة من
بعده.
وفي أواخر خلافة عثمان توفي العباس بن عبد المطلب تاركاً
عقباً كثيراً أشهرهم عبد اللَّه بن عباس وهو ثاني أولاده.
بعد مضي ست سنوات من خلافة عثمان، وجدت حركة في بعض النفوس
تتجه إلى نقل الخلافة من عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب.
ألفت وفود غوغاء من الأمصار الثلاثة، ممن تأثر بهذه الفتن
فذهبت إلى المدينة، فأشكاهم عثمان من جميع ما شكوا منه، ولانَ لهم جداً حتى لا يوجد
لهم سبيلاً إلى الفتنة، فأظهروا الاقتناع وأزمعوا الرحيل إلى أوطانهم، وبعد أيام
عادت هذه الغوغاء متمسكة بكتاب مزور زعموه صادراً من عثمان إلى عامله بمصر يأمره
فيه بقتل رجال الوفد من المصريين عقاباً لهم وتنكيلاً، والكتاب مختوم بخاتم
عثمان. فلما أروه إياه حلف لهم أنه ما كتبه ولا أمر
بكتابته، وهو صادق في يمينه، فاتهموا بذلك كاتبه مروان بن الحكم وطلبوا منه أن
يسلمهم إياه فأبى فأعلنوا العداء وصرحوا بما في أنفسهم من الشر، وحصروا عثمان في
دراه مدة ثم اقتحموا عليه داره وقتلوه ظلماً وعدواناً ففتحوا على المسلمين باب فتنة
وانقسام لا يغلقه مرور الزمان ولا كر الأيام.
بعد أن تم لهم ما أرادوا عرضوا الخلافة على علي بن أبي طالب
فقبلها بعد تردد. أمضى رحمه اللَّه حياته في حرب مخالفيه في
البصرة والنهروان وصفين، ولم تصف له الخلافة يوماً واحداً إلى أن اغتاله أحد
الخوارج في رمضان سنة40 من الهجرة في حاضرة خلافته وهي الكوفة.
لما قتل رحمه اللَّه رأت الشيعة أن يقوم في الخلافة مقامه
ابنه الحسن، وقد رأى رضي اللَّه عنه بثاقب فكره أن يتنازل عن الخلافة مفضلاً جمع
كلمة المسلمين والسكنى بطيبة مدينة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأقام على
ذلك حتى توفي بها سنة 50 من الهجرة.
وظل معاوية يسوس الناس بما عرف عنه من لين العريكة وسخاوة
اليد، فاجتمعت الأمة على طاعته والرضا به.
أدلى معاوية بالخلافة لابنه يزيد، فلما تولاها هبت أعاصير
الفتنة في المدينة ومكة والكوفة. فأما
المدينة فثارت تطلب عزل يزيد وتولى زمام الثورة بعض أبناء الأنصار ولكن هذه الثورة
قمعت بشدة مسلم بن عقبة المري الذي أوقع بأهلها وقعة الحرة المشهورة، وأما مكة فلاذ
بها عبد اللَّه بن الزبير طالباً الخلافة لنفسه.
وأما الكوفة فإن من بها من الشيعة أرسلوا يطلبون إليهم
الحسين بن علي شقيق الحسن ليبايعوه بالخلافة وينزعوا من أعناقهم بيعة يزيد، فلم يكن
من الحسين إلا أن لبى دعوتهم مع علمه بتاريخهم مع أخيه وأبيه، وسار إليهم من غير
جند يركن إليه ولا مال يستعين به.
فقابلته ببعض الطريق جنود عبد اللَّه بن زياد عامل يزيد بالعراق وكلها جنود عراقية
ليس بها أحد من أهل الشام، فلم يكن له قبل بمدافعتهم وقتل رحمة اللَّه
بكربلاء.
انتهت هذه الحوادث ومات يزيد، وعظم أمر ابن الزبير ودخل في
دعوته أهل الحجاز ومصر والعراق.
أما محمد بن علي فإنه بايع عبد الملك بن مروان بعد أن استقر
الأمر له وقضى على فتنة ابن الزبير ودانت له الأقاليم الإسلامية كلها، ومع قيامه
بهذه البيعة لم تزل له شيعة تراه أحق بالخلافة إلا أنه مغلوب على أمره، حتى إنه لما
مات غلا فيه بعضهم فأنكر موته.
1- اضطربت
أفكار الشيعة بعد موت محمد بن علي فمنهم من استمر على ولائه وقال بغيبته ورجعته كما
قلنا. ومنهم من تولى بعده ابنه أبا هاشم، ويقال لهذا
الفريق والذي قبله الكيسانية؛ ينسبون إلى كيسان وهو لقب للمختار بن أبي
عبيد.
2- ومنهم من
تولى بعد الحسين ابنه علياً المعروف بزين العابدين وهو ممن بايع يزيد بن معاوية
وعبد الملك بن مروان ولم يعرف عنه أنه طلب الخلافة لنفسه _ قال هؤلاء إن الخلافة
محصورة في أولاد علي من فاطمة رضي اللَّه عنها.
كان أكبر ولد العباس في ذلك الوقت علي بن عبد اللَّه بن
عباس وهو الذي انتشر منه العباسيون. وكان
قد فارق الحجاز وأقام بالحميمة التي أقامه بها بنو أمية والتي أنزله بها الوليد بن
عبد الملك. وقد ظهرت فكرة انتقال الخلافة إلى ولد العباس
منذ علي هذا، ويقال إن السبب في ذلك أن أبا هاشم بن محمد بن علي بن أبي طالب لما
حانت منيته كان مقيماً بالحميمة عند بني عمه فأدلى بنصيبه من الخلافة إلى علي هذا
وأولاده وأوصى أولياءه به فصارت الشيعة الكيسانية في جانب علي بن عبد اللَّه بن
عباس.
أما بقية الشيعة فإنهم بعد وفاة علي زين العابدين افترقت
بهم الطرق فمنهم من تولى بعده ابنه محمداً الباقر زاعمين أنه الإمام بعد
أبيه. ومنهم من قال إن الخلافة حق لكل فاطمي اتصف
بصفات العلم والشجاعة والسخاء، ومن هؤلاء من قام بمساعدة زيد بن علي بن الحسين، وهم
المعروفون بالشيعة الزيدية.
والذين حاولوا الوصول إلى الخلافة وانتزاعها من بني أمية هم
الشيعة الكيسانية الذين ساعدوا علي بن عبد اللَّه، والشيعة الزيدية الذين ساعدوا
زيداً وابنه يحيى.
وكانت وفاة علي بن عبد اللَّه ومحمد الباقر في زمن متقارب
بالحميمة، فانتقل ولاء الكيسانية إلى محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس لأن أباه
أوصى إليه وانتقل ولاء الإمامية إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، ولم يفعل أنصار
الأئمة شيئاً ليرجعوا الخلافة إلى ذوي الحق فيها حسب رأيهم.
أما الشيعة الزيدية فقد دعاهم إلى النصر زيد بن علي فقاموا
بنصرته حيث خرج بالكوفة طالباً الخلافة، إلا أن بني أمية لم تكن قد ظهرت فيهم
العيوب التي أودت بحياتهم بعد؛ فسرعان ما انتصروا على زيد وأطفأوا ثورته وقتلوه
وصلبوه. وثار بعده ابنه يحيى فكانت خاتمته خاتمة
أبيه.
أما محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس فهو يعسوب القوم وذو
العقل الراجح فيهم. فإنه رأى أنه نقل السلطان من بيت إلى بيت لا بد
أن يسبق بإعداد أفكار الأمة إلى هذا النقل وأن كل محاولة فجائية لا بد أن تكون
عاقبتها الفشل، فرأى أن يسير في المسألة بالأناة المصحوبة بالحزم فعهد إلى شيعته أن
يؤلفوا منهم دعاة يدعون الناس إلى ولاية أهل البيت بدون أن يسموا أحداً خوفاً من
بني أمية أن يقضوا على المدعو إليه إذا عرف، ورأوا أن أحسن منطقة يبثون فيها الدعوة
هي الكوفة وبلاد خراسان.
وقد كان محمد بن علي بن عبد اللَّه قال لدعاته حين أراد
توجيههم إلى الأمصار
عليكم بخراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك
صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء.