العصر الأول:
(100 - 127هـ)
كان الدعاة فيه يجوبون البلاد الخراسانية، ظاهر أمرهم
التجارة وباطنه الدعوة، ينتهزون الفرص، ثم يبلغون أمرهم إلى القائم بالكوفة وهو
يوصله إلى الحميمة أو إلى مكة حيث يجتمع المسلمون لأداء فريضة الحج. وكان
ذلك المجتمع أعظم ساتر لأمر الدعاة لأنهم كانوا إذا قفلوا من خراسان سافروا
حجاجاً. وكانت إقامة محمد بن علي بالحميمة سبباً آخر في
انتظام المواصلات وكتم سرها.
وكان أول ما ظهر من أمرهم بخراسان سنة102 حيث جاء رجل من
تميم إلى أمير خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص الذي
يقال له سعيد خذينة وقال له: إن ههنا قوماً قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد
فأتى بهم فسألهم: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال: فما هذا الذي يحكى عنكم؟
قالوا: لا ندري؟ قال: جئتم دعاة؟ فقالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلاً عن
هذا. فسأل من يعرف هؤلاء. فجاء
أناس من أهل خراسان جلهم من ربيعة واليمن، فقالوا نحن نعرفهم وهم علينا إن أتاك
منهم شيء تكرهه. فخلى سبيلهم.
وفي سنة105 انضم إلى هذه الجمعية بكير بن ماهان وهو شيخ
عظيم من شيوخ هذه الدولة وكبار دعاتها وكان موسراً فساعد القوم بماله، وصادف أن
توفي في ذلك الوقت ميسرة القائم بالكوفة، فأقامه محمد بن علي مقامه فكان هو ربان
هذه الدعوة يأتمر الدعاة بأمره ويسيرون في الطريق التي يشرعها لهم.
كان من أول النكبات الي لحقت بهم أنه وشي بجمع من دعاتهم
إلى أسد بن عبد اللَّه القسري أمير خراسان وهو والٍ شديد قاس فأتى بهم وفيهم أبو
عكرمة وأبو محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمار العبادي فقطع أيدي من ظفر به منهم
وأرجلهم وصلبهم، وأفلت عمار العبادي حتى أتى الكوفة فأخبر بكير بن ماهان بذلك الخبر
المشؤوم، فكتب به إلى محمد بن علي فأجابه: الحمد للَّه الذي صدق مقالتكم ودعوتكم
وقد بقيت منكم قتلى ستقتل وقد وقع بعد ذلك عمار العبادي في يد أسد فألحقه
بإخوانه.
وكان أسد بن عبد اللَّه أشد ولاة خراسان على الشيعة فكان لا
يرحم أحداً منهم وقع في يده بل شرد بهم ونكل ونفي من نفي وقتل من قتل ولذلك لم يكن
للدعوة في أيامه كبير أثر حتى عزل عن خراسان سنة109 وتلك ولايته الأولى ثم ولي
خراسان مرة ثانية فأعاد معهم سيرته الأولى ففي سنة117 أخذ جماعة منهم فقتل بعضهم
ومثل ببعضهم وحبس بعضهم.
حصل بعد ذلك في العالم الإسلامي ما كان له أعظم الفضل في
نجاح الشيعة وقصور أعدائهم عن فل حدهم وذلك:
أولاً: انشقاق البيت الأموي حتى تزعزع بنيانه وتصدعت أركانه
وأول ذلك كان بخروج يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان على ابن عمه الوليد بن
يزيد بن عبد الملك واستعان على ذلك بالقدح في الوليد ونسبته إلى العظائم من الفسوق
والكفر وإحلال ما حرم اللَّه.
ولما تم ليزيد أمره ولم يعبأ بقول ناصح انتهز بعض أهل بيته
هذه الفرصة لينال الخلافة وهو مروان بن محمد بن مروان فإنه كتب إلى الغمر بن يزيد
أخي الوليد يهيجه للمطالبة بدم أخيه.
وكان مروان في ذلك الوقت أميراً للجزيرة وأرمينية ومعه جيش
كبير يأتمر بأمره ولم يزل حتى أقدم على طلب الخلافة مستمسكاً بهذا الحبل حتى نالها
ولم يكن نيله لها بمزيل أسباب الخلاف والانشقاق في هذا البيت ولا شبهة أن انشقاق
البيت المالك يحدث بطبيعة الحال انشقاقاً في قوة الدولة فلا تقوى على مصادمة
عدوها.
ثانياً: ظهور العصبية القومية في خراسان وانشقاق القبائل
العربية وذلك أن العرب يرجعون إلى شعبين عظيمين قحطان ونزار، وملك العرب القديم كان
في اليمن فلما جاء الإسلام تحول إلى نزار لمكان رسول اللهَّ صلى اللَّه عليه وسلم
منهم وكان أمر النبوة والوحي قد باعد بين الناس وحمية الجاهلية فتآخى اليمانيون
والنزاريون ووجهوا قوتهم المتحدة إلى أعدائهم فنالوا في زمن قليل ما لم تنله أمة
قبلهم في مثل الزمن الذي ارتفع فيه قدرهم.
وظهر الانشقاق في عهد نصر بن سيار هذا بين النزارية
واليمانية وكان رئيس النزوارية وكبيرهم نصر بن سيار الأمير وكبير اليمانية جديع بن
شبيب المعني المعروف بالكرماني.
في أثناء وقوع هذه الحوادث توفي محمد بن علي إمام الشيعة
الذي يدعون إليه وأدلى بالأمر من بعده إلى ابنه إبراهيم وأعلم الشيعة بذلك فقاموا
بالدعوة إليه مكان أبيه. ثم توفي بكير بن ماهان شيخ الشيعة بالكوفة فأقام
إبراهيم بن محمد مكانه حفص بن سليمان المعروف بأبي سلمة الخلال.
واتصل بإبراهيم في تلك الأوقات شاب من نوابغ الشبان وذوي
المقدرة والعزيمة وهو أبو مسلم الخراساني، وكانت الشيعة بخراسان في حاجة إلى مثله
ليشرعوا في العمل بعد أن أمكنتهم الفرصة بما وقعت فيه الدولة الأموية من الخلاف وما
يقع فيه عرب خراسان من الانشقاق فاختار إبراهيم أبا مسلم لتلك المهمة وكتب إلى
أصحابه إني قد أمرته بأمري فاسمعوا منه واقبلوا قوله فإني قد أمرته على
خراسان.
وإنما أمره بتقريب أهل اليمن لأنهم أعداء الدولة الحاضرة
للعصبية التي كانت نارها مشتدة بين أهل خراسان إذ ذاك ولهذا السبب أوصاه بالشدة على
مضر فإنهم كانوا أصحاب الدولة. سار أبو مسلم يدبر الأمور. وبعد
سنة تهيأ لزيارة الإمام ومعه عدد كبير من الدعاة ولما بلغ قومس أتاه كتاب من الإمام
يقول فيه وإني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألقاك كتابي ووجه إلى قحطبة
بما معك يوافني به في الموسم فعاد أبو مسلم إلى مرو مستعداً للعمل.