الشبهة الثانية
تأكيد عيسى عليه السلام مراراً على أن الله
تعالى " أباه "
بسط هذه
الشبهة :
جاء في
مواضع عدة من الإنجيل تعبير المسيح عليه السلام عن الله سبحانه و تعالى: بـِ "أبي"
أو "الآب" فقالوا إن هذا يدل ـ حسب ظاهره ـ على أن الله تعالى أبو عيسى عليه السلام
الحقيقي و بالتالي فعيسى مولود منه فهو إله مثل أبيه! تعالى الله عما يصفون. و فيما
يلي بعض آيات الإنجيل التي ورد فيها هذا التعبير:
(1) في إنجيل متى: " ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت
السموات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات " متى: 7 / 21.
و فيه
أيضا: " كل شيء قد دفع إلي من أبي و ليس أحد يعرف الابن إلا الآب و لا أحد يعرف
الآب إلا الابن و من أراد الابن أن يعـلن له " متى: 11/27.
و فيه أيضا: " و
أما ذلك اليوم و تلك الساعة فلا يعلم بهما أحد و لا ملائكة السموات إلا أبي وحده "
متى: 24 / 36.
(2) و في إنجيل لوقا: " فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم
لايعلمون ماذا يفعلون " لوقا: 23 / 34.
و فيه أيضا: " و نادى يسوع بصوت
عظيم و قال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي " لوقا: 23 / 46.
ـ و تكرر هذا
التعبير كثيرا في إنجيل يوحنا حتى لا تكاد تخلو منه صفحة منه.
الإجابة عن هذه الشبهة:
أولا: حسب
الإنجيل نفسه، لم يكن عيسى يعتبر الله تعالى أباه لوحده فقط، بل كان يعتبره أيضا
أبَ جميع المؤمنين أيضا، فإذا أطلق على الله تعالى عبارة " أبي" فقد أطلق مرارا
كذلك عبارة: " و أبيكم "، بلا أي فرق، بل علَّم المؤمنين أن يبدؤا صلاتهم اليومية
بقولهم: " أبانا الذي في السموات ليتقـدَّس اسمك.. الخ " [5] ، فإذا كانت أبوة الله
لعيسى تدل على إلـهيته فإذن أبوة الله لنا تدل على إلـهيتنا نحن كذلك، و هذا أمر
باطل باتفاق الجميع، فثبت أن هذه الأبوة هي أبوة معنوية، أي أبوة بالمعنى المجازي،
معناها أن الله تعالى هو بالنسبة للمسيح عليه السلام و للمؤمنين، بمنزلة الأب
العطوف في رحمته و رأفته و عنايته الفائقة و شفقته على أبنائه و إرادته الخير لهم،
تماما كما هو المراد من بنوَّة عيسى و الأبرار الصالحين لله تعالى الذي شرحناه في
جواب الشبهة الأولى.
و لمزيد من التوضيح نسوق فيما يلي بعض الشواهد
الإنجيلية :
(1) في إنجيل يوحنا (20/17): " قال لها يسوع: لا تلمسيني لأني
لم أصعد بعد إلى أبي. و لكن اذهبي لإخوتي و قولي لهم: إني أصعد إلى أبي و أبـيكم و
إلـهي و إلـهكم ".
قلت: ففي هذا النص ساوى
المسيح بين أبوَّة الله له و أبوَّته لنا.
(2) و
في إنجيل متى (5/45 و 48): "... و صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم لكي
تكونوا أبناء أبـيكم الذي في السموات... فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في
السموات هو كامل... ".
(3) و في الإصحاح السادس فقط من إنجيل متى يتكرر لفظ
الأب مضافا للمؤمنين إثنا عشر مرة حيث يقول المسيح: "و أما أنت فمتى صليتَ فادخل
إلى مخدعك و أغلق بابك و صلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء
يجازيك علانية، و حينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم فإنهم يظنون أنهم
بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن
تسألوه. فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات، ليتقدَّس اسمك... إلخ
"
(4) و في إنجيل لوقا (6/36): " فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم
"
فلو كانت أبوَّة الله لشخص تفيد إلـهيته للزم ـ حسب هذه النصوص الإنجيلية
ـ أن يكون كل المؤمنين آلهة! فإذا بطل هذا اللازم بطل ملزومه.
ثانيا: في الكتاب المقدس، ليس سيدنا عيسى
عليه السلام وحده فقط الذي يعتبر الله تعالى " أباه " مخاطبا إياه بـِعبارة: " أبي
" أو " يا أبتي " أو " يا أبتاه "، بل مثل هذا التعبير بعينه جاء على لسان بعض
الأنبياء السابقين كسيدنا داود و سيدنا سليمان و سيدنا إشعيا عليهم السلام، و فيما
يلي ذكر هذه الشواهد:
(1) في زبور داود عليه السلام المسمى بسفر المزامير
(89/20ـ21 و26ـ27): " وجدتُ داود عبدي. بدهن قدسي مسحته. الذي تثبت يدي معه. أيضا
ذراعي تشدِّده... هو يدعوني أبي أنت، إلـهي و صخرة خلاصي. أنا أيضا أجعله بكرا على
ملوك الأرض ".
(2) و في سفر صموئيل الثاني (7/14) أن الله تعالى يبشِّر عبده
داود عليه السلام بسليمان عليه السلام فيقول: " أقيم من يخـلُفُكَ، من نسلك الذي
يخرج من صلبك، و أثبـِّت ملكه فهو يـبـني بيتا باسمي و أنا أثبـِّت عرش ملكه للأبد،
أنا أكون له أبـاً و هو يكون لي ابنـاً "
(3) و في سفر إشعيا، يخاطب إشعيا
الله تعالى بقوله: "... فإنك أنت أبونا. إبراهيم لم يعرفنا. و إسرائيل لم يعلم بنا.
أنت يا رب أبـونا. منذ الأزل اسمك فادينا " [6] إشعيا: 63
/ 16.
(4) و فيه أيضا: "... و الآن يا رب أنت أبـونـا. نحن الطين و أنت
جابلنا و كلنا عمل يديك " إشعيا: 64 / 8.
ففي لغة الكتاب المقدس، درج
الأنبياء على اعتبار الله تعالى أباهم لا على المعنى الحقيقي بل المجازي، فكذلك كان
مقصود المسيح عليه السلام ـ الذي نشأ على تعاليم ولغة الكتاب المقدس و كان يخاطب
اليهود القارئين لذلك الكتاب ـ من استخدامه هذا التعبير بعينه.
الشبهة الثالثة
قول المسيح عليه السلام : " أنا و الآب واحد
"
و هذه العبارة التي جاءت في إنجيل يوحنا (10/ 30)، كثيرا ما يستند إليها
المبشرون لإثبات إلـهية المسيح، و يطنطنون بها كثيرا معتبرين إيَّاها دليلا صريحا،
و ما هي بذلك على الإطلاق، كما سيتبين الآن بوضوح إن شاء
الله.
الإجابة عن هذه الشبهة :
كمقدمة نقول إن أي عبارة جاءت في وسط كلام
ما، إذا أردنا أن نفهمها على وجهها الصحيح و ندرك المقصود منها بالضبط، لا يجوز أن
نقتطعها من سياقها الذي جاءت فيه و نفصلها عمَّا سبقها و ما يلحقها، بل لا بد من
فهمها ضمن سياق الكلام الذي جاءت فيه. لذا لا بد لنا أن ننظر تمام كلام المسيح عليه
السلام الذي ناقش به اليهود و الذي جاءت هذه العبارة في وسطه:
جاء في إنجيل
يوحنا (10/ 22 ـ 36):
" و كان عيد التجديد في أورشليم و كان شتاء. و كان
يسوع يتمشَّى في الهيكل في رواق سليمان. فاحتاط به اليهود و قالوا له: إلى متى تعلق
أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا. أجابهم يسوع: إني قلت لكم و لستم تؤمنون.
الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي و لكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من
خرافي كما قلت لكم. خرافي تسمع صوتي و أنا أعرفها فتتبعني. و أنا أعطيها حياة أبدية
و لن تهلك إلى الأبد و لا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من
الكل و لا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا و الآب واحد.
فتناول اليهود
أيضا حجارة ليرجموه. أجابهم يسوع: أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي، بسبب أي
عمل منها ترجمونني؟ أجابه اليهود قائلين: لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف.
فإنك و أنت إنسان تجعل نفسك إلـها. أجابهم يسوع: أليس مكتوبا في ناموسكم " أنا قلت
إنكم آلـهة"؟ فإن قال آلهة لأولـئك الذين صارت إليهم كلمة الله ـ و لا يمكن أن ينقض
المكتوب ـ فالذي قدَّسه الآب و أرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدِّف لأني قلت
إني ابن الله؟ "
قلت: في البداية ينبغي أن نوضح
أن قول المسيح عليه السلام: أليس مكتوبا في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة، هو إشارة
منه لآيتين وردتا في سفر المزامير الموحى لداود عليه السلام من كتاب العهد القديم و
هما الآيتان 6 و 7 من المزمور 82، و تمام الآيتين كما يلي: " أنا قلت إنكم آلهة و
بنو العليِّ كلكم، لكن مثل الناس تموتون و كأحد الرؤساء تسقطون
".
فالآن نقول: أولا: لو تأملنا ما قاله المسيح عليه
السلام لليهود بعد اعتراضهم على قوله: " أنا و الآب واحد " لتبين لنا بكل وضوح
مراده عليه السلام من هذا القول.
و تفصيل ذلك أن اليهود لما أنكروا على
المسيح عليه السلام قوله: " أنا و الآب واحد" لأنهم ظنوا أن المسيح أراد منه معناه
الحرفي الظاهر و هو جعل نفسه عين الله تعالى، تبرَّأ المسيح من إرادة ذلك المعنى و
بين أن مقولته تلك هي من قبيل التجوُّز، و بين لهم جهة التجوِّز، فقال ما فحواه أن
كتابكم المقدس قد جاء فيه تسمية داود لكم بالآلهة، و طبعا ليس المراد منه أنكم آلهة
حقيقة، إنما أطلق عليكم هذا اللفظ لمعنى و هو صيرورة كلام الله و وحيه إليكم، فكذلك
أنا الذي شاركتكم في صيرورة كلام الله و وحيه إليِّ، لماذا تنكرون عليِّ استخدام
نفس هذا التعبير المجازي في حقي؟!
و حاصل كلامه أن هذا التعبير ضرب من
المجاز استعماله حسن شائع غير منكر و قد صرَّح عيسى عليه السلام في النص المذكور
بجهة المجاز، بقوله: " إن قال آلهة لأولـئك الذين صارت لهم كلمة الله ".
و ليس المراد بالكلمة هنا
طبعا لفظا ذا حروف، و إنما أراد بالكلمة سرا يهبه الله لمن يشاء من عباده، يحصل لهم
به التوفيق إلى ما يصيِّرهم غير مباينين لله ، بل يصيِّرهم لا يحبون إلا ما يحبه، و
لا يبغضون إلا ما يبغضه و لا يكرهون إلا ما يكرهه، و لا يريدون إلا ما يريده من
الأقوال و الأعمال اللائقة بجلاله.
فإذا صار بهم التوفيق إلى هذه الحالة،
حصل لهم المعنى المصحِّح للتجوُّز، هذا و يؤكد صحة التأويل الصارف إلى المجاز
المذكور أنه عليه السلام احترز عن إرادة ظاهر هذا النص الدال على الاتحاد، بقوله:"
فكيف تقولون لي أنا الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أنت تكفر لأني قلت أنا ابن
الله؟ "
فصرح عيسى عليه السلام
بهذا أنه غير الآب، بل أن الآب هو الذي قدسه و أرسله، فهو رسولٌ لِلَّه و ليس هو
عين الله، متبرأً بهذا من الإلـهية التي تخيل اليهود أنه ادعاها لنفسه، مثبتا لنفسه
خصوصية الرسل و الأنبياء فحسب.
هذا و لو كان مراد عيسى عليه السلام من قوله
" أنا و الآب واحد " هو مفهومه الظاهر و أنه عين الله تعالى نفسه، لكان جهر بذلك و
صرح به و لم يكن يتهرَّب من هذا المعنى، و لكان ما فعله من تهربه من إظهار ذلك و
إنكاره له بما ضربه لهم من مثال على أن هذا مجاز لا حقيقة، مغالطة منه و غشا في
الدعوة و تحريفا للعقيدة التي يؤدي الجهل بها إلى سخط الله، و هذا لا يليق
بالأنبياء المرسلين الهادين إلى الحق.
فإن قيل:
إنما ضرب لهم المثل لاتقاء شرهم و ليدفع عن نفسه أذاهم، قلنا: الخوف من اليهود لا
يليق بمن يُدَّعى فيه أنه إلـه العالم و موجد الكائنات؟! ثم إن كان هو الإله الذي
يجب أن يعبد حقا، و قد غشهم و صرفهم عن اعتقاد ذلك، يكون قد أضلهم عن أساس الدين و
أمرهم بعبادة غيره، و هذا لا يليق بمن يُدَّعى فيه أنه أتى لخلاص العالم، بل لا
يليق بمن انتصب للإرشاد و الهداية من عامة الناس، فضلا عمن صرح بأنه رسول هاد مرشد
[7] .
ثانيا: هذا
التعبير الذي أطلقه عيسى على نفسه، بأنه و الآب واحد، أطلقه بعينه تماما على
الحواريين عندما قال في نفس إنجيل يوحنا هذا: " و لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل
أيضا من أجل الذي يؤمنون بي بكلامهم [8] ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب
فـيَّ و أنا فيك، ليؤمن العالم أنك أرسلتني، و أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني،
ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم و أنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد"
إنجيل يوحنا: 17/ 20 ـ 23.
إذن فالوحدة هنا ليس المقصود منها معناها
الحرفي، أي الانطباق الذاتي الحقيقي، و إنما هي وحدة مجازية أي الاتحاد بالهدف و
الغرض و الإرادة، و هذا ظاهر جدا من قوله " ليكونوا هم أيضا واحدا فينا "و قوله: "
ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد، أنا فيهم و أنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد "،
حيث دعى الله تعالى أن تكون وحدة المؤمنين الخلَّص مع بعضهم البعض مثل وحدة المسيح
عليه السلام مع الله سبحانه وتعالى ، و لا شك أن وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض و
صيروتهم واحدا ليست بأن ينصهروا مع بعض ليصبحوا إنسانا واحدا جسما و روحا!! بل
المقصود أن يتحدوا بع بعضهم بتوحد إرادتهم و مشيئتهم و محبتهم و عملهم و غرضهم و
هدفهم و إيمانهم...الخ أي هي وحدة معنوية، فكذلك الوحدة المعنوية بين الله تعالى و
المسيح.
و يؤكد ذلك أنه عليه السلام دعا الله
تعالى لوحدة الحواريين المؤمنين ليس مع بعضهم البعض فحسب بل مع المسيح و مع الله
تعالى أيضا، بحيث تجعل الجميع واحدا، فلو كانت وحدة المسيح مع الله هنا تجعل منه
إلـها، لكانت وحدة الحواريين مع المسيح و مع الله تجعل منهم آلهة أيضا!! و للزم من
ذلك أن المسيح يدعو الله تعالى أن يجعل تلاميذه آلهة، و خطور ذلك ـ كما يقول الإمام
أبي حامد الغزالي [9] ـ ببال من خلع ربقة العقل، قبيح، فضلا عمن يكون له أدنى خيار
صحيح، بل هذا محمول على المجاز المذكور، و هو أنه عليه السلام سأل الله تعالى أن
يفيض عليهم من آلائه و عنايته و توفيقه إلى ما يرشدهم إلى مراده اللائق بجلاله بحيث
لا يريدون إلا ما يريده و لا يحبون إلا ما يحبه و لا يبغضون إلا ما يبغضه، و لا
يكرهون إلا ما يكرهه، و لا يأتون من الأقوال و الأعمال إلا ما هو راض به، مؤثر
لوقوعه، فإذا حصلت لهم هذه الحالة حسن التجوز.
و يدل على صحة ذلك أن إنسانا
لو كان له صديق موافق غرضه و مراده بحيث يكون محبا لما يحبه و مبغضا لما يبغضه
كارها لمايكرهه، حسن أن يقال: أنا و صديقي واحد. و يتأكد هذا المعنى المجازي لعبارة
المسيح عليه السلام إذا لا حظنا الكلام الذي جاء قبلها و أن المسيح كان يقول أن
الذي يأتي إلي و يتبعني أعطيه حياة أبدية و لا يخطفه أحد مني، لأن أبي الذي هو أعظم
من الكل هو الذي أعطاني أتباعي هؤلاء و لا أحد يستطيع أن يخطف شيئا من أبي، أنا و
أبي واحد، يعني من يتبعني يتبع في الحقيقة أبي لأنني أنا رسوله و ممثل له و أعمل
مشيئته فكلانا شيء واحد. و هذا مثل قوله تعالى عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :
" من يطع الرسول فقد أطاع الله "، و أعتقد أن قصد الوحدة المجازية واضح جدا.
و قد جاء نحو هذا التعبير بالوحدة المجازية مع الله، عن بولس أيضا في إحدى
رسائله و هي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (6 / 16 ـ17) حيث قال: " أم لستم تعلمون
أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول: يكون الاثنان جسدا واحدا؟ و أما من
التصق بالرب فهو روح واحد "، و عبارة الترجمة العربية الكاثوليكية الجديدة: " و لكن
من اتحد بالرب صار و إياه روحا واحدا ".
فكل هذا يثبت أن الوحدة هنا لا تفيد
أن صاحبها هو الله تعالىعينه ـ تعالى الله عن ذلك ـ و إنما هي وحدة مجازية كما
بينا.
و يشبه هذا عندنا في الإسلام ما جاء في الحديث القدسي الشريف الصحيح
الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه و آله و سلم
أنه قال: إن الله تعالى يقول "... و ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله
التي يمشي بها... الحديث "[10]
و لا شك أنه ليس
المقصود من الحديث أن الله تعالى يحل بكل جارحة من هذه الجوارح، أو أنه يكون هذه
الجوارح بعينها!! لأن هذا من المحال، بل المقصود أنه لما بذل العبد أقصى جهده في
عبادة الله و طاعته، صار له من الله قدرة و معونة خاصتين، بهما يقدر على النطق
باللسان، و البطش باليد.. وفق مراد الله عز و جل و طبق ما يشاؤه الله تعالى و يحبه.
و الله أعلم.
و لذلك يقول من أقدر شخصا على أن يضرب بالسيف، و لولاه لما
قدر على ذلك: أنا يدك التي ضربت بها.