الشبهة السابعة
قوله عليه السلام : " و ليس أحد صعد إلى
السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء "
[14]
الرد على هذه الشبهة:
أولا: في هذه
الآية، جملة محرفة مضافة، و هي جملة " الذي هو في السماء " الأخيرة. و قد أقر بذلك
شراح الأناجيل، كما جاء ذلك في كتاب تفسير الكتاب المقدس حيث قال: " الذي هو في
السماء: هذه العبارة لم ترد في أقدم المخطوطات " [15] .
و لذلك فإن الترجمة
العربية الجديدة المنقحة للكتاب المقدس التي قامت بها الرهبانية اليسوعية، حذفت هذه
الجملة من ترجمتها و أوردت النص كما يلي: " فما من أحد يصعد إلى السماء إلا الذي
نزل من السماء و هو ابن الإنسان ".
ثانيا: لوأخذنا النزول من السماء على
معناه الحرفي فليس فيه أي إثبات لإلـهية المسيح، إذ أن نزول الشخص أو الكائن من
السماء إلى الأرض لا يفيد إلـهيته لا من قريب ولا من بعيد، فكثير من الكائنات
الملكوتية نزلت من السماء، كجبريل مثلا الذي كان ينزل من السماء إلى الأرض حاملا
رسالات الله أو منفذا أمرا من أوامر الله عز و جل، كما أنه في كثير من الأحيان،
هبطت بعض الملائكة إلى الأرض آخذة لباسا بشريا، كالملائكة الثلاثة، الذين جاؤوارا
لزيارة إبراهيم عليه السلام و بشارته ثم ذهبوا إلى لوط عليه السلام ليطمئنوه حول
نزول العذاب على قومه الفاسقين.
فأقصى ما يفيده مثل هذا النص، لو أخذ على
معناه الحرفي، هو أن المسيح كان مخلوقا بالروح قبل أن يلد كإنسان على الأرض، ثم لما
جاء وقته نزل بأمر الله إلى الأرض و ولد كسائر البشر بالجسد و الروح. فأين في هذا
أي دليل على ألوهيته؟!
ثالثا: والحقيقة أن هذا التعبير بنزول المسيح من السماء لا يقصد به معناه
الحرفي بل هو ذو معنى مجازي، و لفهمه على وجهه الصحيح لا بدَّ أن نقرأ ذلك النص و
تلك الآية ضمن سياقها سباقها و لحاقها، فقصة هذا الكلام تبدأ من أول الإصحاح الثالث
في إنجيل لوقا هكذا:
" كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيسا
لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلا و قال له يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما
لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه. أجاب يسوع
و قال له: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.
قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد و هو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه
ثانية و يولد؟ أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء و الروح
لا يقدر أن يرى ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، و المولود من الروح هو روح.
لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق. الريح تهب حيث تشاء و تسمع صوتها لكنك
لا تعلم من أين تأتي و لا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح. أجاب نيقوديموس و
قال له: كيف يمكن أن يكون هذا؟ أجاب يسوع و قال له: أنت معلم إسرائيل و لست تعلم
هذا؟ الحق الحق أقول لك، إننا إنما نتكلم بما نعلم و نشهد بما رأينا و لستم تقبلون
شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات. و
ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء "
يوحنا: 3 / 1 ـ 13.
قلت: بتأمل هذا النص يتبين
لنا أن المسيح عليه السلام يمثل للولادة الروحية الجديدة بالولادة من فوق أو
الولادة من الروح، و أن من لم يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله، فالولادة من
فوق أو من الروح، تعبير مجازي عن الانقلاب الروحي الشامل للإنسان الذي يشرح الله
تعالى فيه صدره و يفتح قلبه و بصيرته لنوره، فتتغير كل رغباته و هدفه في الحياة حيث
يخرج عن عبادة ذاته و حرصه على الدنيا لتصبح إرادته مستسلمة و موافقة لإرادة الله و
يصبح هدفه هو الله تعالى و رضوانه و محبته و صحبته و جواره في دار السلام لا غير،
فكأنه بهذا ولد من جديد، و من هذا المنطلق يقول المسيح عن نفسه أنه نزل من السماء:
أي أنه رسول الله و مبعوث السماء، اجتباه الله و قدسه و جعله سفيره إلى الخلق، فهذا
معنى نزوله من السماء، بدليل مقارنته و مشابهته عليه السلام بين هذا النزول من
السماء و بين الولادة من فوق التي يجب أن يحصل عليها كل إنسان لكي يرى ملكوت الله.
و لو رجعنا لتفسير الكتاب
المقدس لوجدناه يفسر العبارة بتفسير غير بعيد عما ذكرناه فيقول: " (12) لم يصعد أحد
إلى السماء، و مع ذلك فقد أراد الله أن يكون هناك نزول من السماء إلى الأرض (13) قد
أتى يسوع من السماء بمعرفة كاملة لله، ليعلن اللهَ للناس " [16] .
الشبهة الثامنة
قول
المسيح عليه السلام : " قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن "
مزيد من البسط للشبهة
:
و مثل ذلك أيضا قول النبي يحيى (يوحنا
المعمدان) عن المسيح: " هذا (أي المسيح) الذي قلت فيه: إن الآتي بعدي قد تقدمني
لأنه كان من قبلي " إنجيل يوحنا: 1/15.
كما توجد بعض النصوص الأخرى التي
تفيد حسب ظاهرها ـ لكن بأقل صراحة من المذكور أعلاه ـ أن عيسى عليه السلام كان قبل
خلق هذا العالم و ذلك كالعبارات التي جاءت في دعاء عيسى عليه السلام لأجل التلاميذ،
في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا:
" و الآن مجدني أيها الآب عن ذاتك
بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم " يوحنا: 17 / 5.
" أيها الآب أريد
أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك
أحببتني قبل إنشاء العالم "يوحنا:17/24.
الرد على هذه الشبهة:
أولا: كون الشخص وجد قبل إبراهيم أو قبل
يحيى (عليهما السلام) أو حتى قبل آدم أو قبل خلق الكون كله، لا يفيد، بحد ذاته،
ألوهيته بحال من الأحوال، بل أقصى ما يفيده هو أن الله تعالى خلقه قبل خلق العالم
أو قبل خلق جنس البشر، مما يفيد أنه ذو حظوة خاصة و مكانة سامية و قرب خصوصي من
الله سبحانه وتعالى ، أما أنه هو الله، فهذا يحتاج لنص صريح آخر، و ليس شيء من
العبارات المذكورة أعلاه بنص في ذلك على الإطلاق، و هذا لا يحتاج إلى تأمل كثير.
ثانيا: هذا إن
أخذنا ذلك التقدم الزماني على ظاهره الحرفي، مع أنه من الممكن جدا أن يكون ذلك من
قبيل المجاز، بل قرائن الكلام تجعل المصير إلى المعنى المجازي متعينا، و هذا يحتاج
منا لذكر سياق تلك العبارة من أولها:
جاء في
إنجيل يوحنا (8 / 56 ـ 59):
"... و كم تشوق
أبوكم إبراهيم أن يرى يومي، فرآه و ابتهج. قال له اليهود: كيف رأيت إبراهيم، و ما
بلغت الخمسين بعد؟ فأجابهم: ((الحق الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم))
فأخذوا حجارة ليرجموه، فاختفى و خرج من الهيكل " [17] .
فقبلية عيسى المسيح
على إبراهيم هنا، لا يمكن أن تكون قبلية حقيقية في نظر النصارى، لا باعتبار ناسوت
المسيح المنفك عن اللاهوت طبقا لاعتقادهم، لأن ولادة عيسى الإنسان كانت بعد إبراهيم
عليه السلام اتفاقا، و لا باعتبار حصول الحقيقة الثـالثـة المدعاة له أي تعـلُّـق
اللاهوت بالناسوت [18] ، لأن ذلك تم مع ولادة المسيح من العذراء و روح القدس الذي
تم أيضا بعد إبراهيم اتفاقا.
و لا يمكن أن يكون قصده سبق المسيح على
إبراهيم باعتبار لاهوته الأزلي المدَّعى، بقرينة أن بداية الكلام كانت عن رؤية
إبراهيم لهذا اليوم، أي يوم بعثة المسيح و رسالته، و ابتهاج إبراهيم به، فالكلام
إذن عن رؤية المسيح المبعوث في الأرض، و هذا تم بعد إبراهيم اتفاقا، فلم يبق إلا أن
يكون المراد بالقبلية علم الله السابق بتقدير إرسال عيسى عليه السلام في هذا الوقت،
و ما يترتب عليه من الإرشاد و الرحمة بالعباد. فإن قيل: أيُّ خصوصية للمسيح في ذلك،
إذ أن هذا المحمل ـ أي علم الله السابق ـ مشترك بينه و بين سائر الأنبياء، بل جميع
البشر؟
فالجواب: أنه عليه السلام لم يذكر ذلك في
معرض الخصوصية، و إنما ذكره قاطعا به استبعاد اليهود لسرور إبراهيم و فرحه بيومه، و
تصحيحا لصدقه فيما أخبر و لصحة رسالته، ببيان أن دعوى رسالته ثابتة في نفس الأمر و
مقررة سابقا و أزلا في علم الله القديم [19] .
و قد ورد مثل ذلك في ألفاظ
خاتم المرسلين سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: "كنت نبيا و آدم بين
الروح و الجـسـد " [20] .
الشبهة التاسعة
قول المسيح عليه السلام لليهود: " كيف
يُـقال لمسيح أنه ابن داود، و داود نفسه يقول في كتاب المزامير (( قال الرب لربي:
اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك)) فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف
يكون المسيح ابنه؟ " [21]
الرد على هذه الشبهة :
الحقيقة أن من يتأمل تلك الجملة التي استشهد بها السيد المسيح عليه
السلام من سفر المزامير معتبرا إياها بشارة في حقه، يراها دليلا واضحا على نفي
إلـهية المسيح لا على إثبات إلـهيته!
فعبارة المزامير تقول: [قال الرب (أي
الله سبحانه وتعالى) لربي (أي المسيح) اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً
لقدميك]، و بناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو
الله أيضا، و ذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ: قال الله لِـلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل
أعداءك موطئا لقدميك!! و كيف يجلس الله عن يمين نفسه!؟ ثم إذا كان ربي الثانية إلها
فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه و
لا يحتاج إلى من يسخرهم له، هذا كله عدا عن أن مخاطبة الله لإلـه آخر تعني وجود
إلهين اثنين و هذا يناقض عقيدة التوحيد التي هي أساس الرسالات السماوية! فهذا كله
يؤكد أن ربي الثانية ليس الله و لا بإلـه ثان بل لا بد أن يكون معناها شيئا غير
ذلك، فما هو؟
الحقيقة أن ما يريده المسيح عليه السلام من عبارته تلك هو
تذكير اليهود بمقامه العظيم ـ الذي تشير إليه عبارة نبيهم داود عليه السلام ـ قائلا
لهم: كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي
المبشر به و الذي سيجعله الله دائنا لنبي إسرائيل يوم الدينونة: ربَّاً له: أي سيدا
له و معلما ؟!
و بمراجعة بسيطة للأناجيل ندرك أن لفظة الرب تستخدم بحق
المسيح بمعنى السيد و المعلم، و قد سبقت الإشارة لذلك و لا مانع أن نعيدها هنا، فقد
جاء في إنجيل يوحنا (1/38): " فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟ " و جاء
فيه أيضا: (20/16): " قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي
تفسيره يا معلم ".
هذا ما ذكرته بنفسي دون الاطلاع على النص الأصلي لتلك
البشارة كما جاء في الترجمة العربية الحديثة للكتاب المقدس، التي قامت بها
الرهبانية اليسوعية ببيروت (1989)، فلما راجعت هذا النص وجدت ترجمتهم له عين ما
توصلت إليه، فقد جاء في المزمور 110 / آية 1 ما يلي: " قال الرب لســـيَّدي: اجلس
عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك ". و الحمد لله الذي أظهر الحق.