نفي إلـهية المسيح في رسائل يوحنا :
ليوحنا،
مؤلف الإنجيل الرابع، ثلاث رسائل صغيرة في كتاب العهد الجديد كما له في آخر العهد
الجديد رؤيا كشفية رمزية اعتبرت سفرا إلهاميا كذلك فضمت للأسفار القانونية للعهد
الجديد.
إن الإنجيل الرابع الذي ألفه يوحنا يختلف عن الأناجيل الثلاثة
المتشابهة التي قبله اختلافا بينا، و هو أكثر حرصا على إضفاء هالة ألوهية على السيد
المسيح عليه السلام، و إن كان صاحبه لا يدعي و لا يقول أبدا بشكل محدد أن المسيح هو
الله، و لذلك فإن أغلب النصوص المتشابهة التي يستند إليها و يتمسك بها المؤلهون
للمسيح مأخوذة من إنجيل يوحنا هذا [20] .
فمن هو يوحنا مؤلف الإنجيل الرابع
و رسائل و رؤيا يوحنا ؟؟
سؤال اختلفت الأوساط المسيحية في الإجابة عنه منذ
القديم. فالكنيسة التقليدية اعتبرت ـ منذ القرن الثاني للميلاد ـ أن يوحنا هذا، هو
نفس " يوحنا بن زبدي " تلميذ المسيح المقرب و أحد الحواريين الاثني عشر. لكن دوائر
مسيحية قديمة أيضا ـ و على رأسها الكاهن كايوس ـ شككت في هذا الأمر [21] .
و قد استمر هذا التشكك في
بعض الأوساط المسيحية الضئيلة في كل قرن من قرون تاريخ المسيحية و حتى عصر التنوير.
و في القرنين الأخيرين طرحت مسألة التحقيق في هوية يوحنا هذا على بساط البحث، و
كانت النتيجة التي توصلت إليها غالبية المفكرين و النقاد المسيحيين هي القطع بأن
مؤلف الإنجيل الرابع ـ و الذي هو نفسه مؤلف الرسائل الثلاث باسم رسائل يوحنا و
الرؤيا الكشفية الأخروية التي في آخر العهد الجديد أيضا ـ ليس الحواري " يوحنا بن
زبدي " بل يوحنا آخر متأخر لم يتتلمذ مباشرة على المسيح عليه السلام بل هو مسيحي من
تلاميذ المدرسة الإسكندرية الفلسفية.
و لو أردنا أن نذكر هنا
آراء أولـئك النقاد و الأدلة التي جعلتهم يذهبون إلى هذا الرأي لشط بنا القلم و
خرجنا عن موضوع الكتاب، لذا نكتفي بهذه الإشارة المختصرة و نحيل الراغب بالتفصيل
إلى المراجع التالية:
1 ـ كتاب The Four Gospels تأليف:B.H.Streeter، طبع:
New York , 1961 , P. 430 - 456..
2 ـ كتاب: The Gospels , Their Origin
& Their Growth تأليف: F. C. Grant، طبع: Faber & Faber , London , 1957،
بحث إنجيل يوحنا فيه.
3 ـ مادة John في دائرة المعارف البريطانية، و تقع في
الجزء 13 منها.
4 ـ كتاب " ما هي النصرانية؟ " للعلامة الشيخ: محمد تقي
العثماني (الباكستاني): الصفحات: 141 ـ 157.(طبع رابطة العالم الإسلامي).
5
ـ كتاب: " إظهار الحق " للعلامة الشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي: ج 1 / ص
154 ـ 167. (طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية... بتحقيق د. محمد ملكاوي.
الرياض).
يبتدأ مؤلف الإنجيل الرابع، إنجيله، بافتتاحية يختص بها دون سائر
الأناجيل الثلاثة، و هي افتتاحية يتبادر من ظاهرها النص على إلـهية الكلمة أي
المسيح، لذا كانت هذه الافتتاحية أحد أهم مستمسكات المؤلهين للمسيح من كتاب العهد
الجديد، إن لم تكن، أهم مستمسكاتهم على الإطلاق.
و إنما لم أتعرض لها في
الفصل الماضي خلال تفنيدي لشبهات المؤلهين لعيسى من الأناجيل، لأن هذه الافتتاحية
ليست في الواقع من كلام المسيح أو تعاليم إنجيله، بل هي من كلام يوحنا، لذلك أرجأت
الكلام عنها لحين كلامي عن نفي إلـهية المسيح في كلام يوحنا في هذا
الفصل.
لكن قبل البدء في مناقشة و تفنيد العبارات التي يستند إليها المؤلهون
للمسيح من كلام القديس يوحنا، أبدأ بذكر العبارات الصريحة الواضحة ليوحنا نفسه،
التي تؤكد عبودية المسيح لله تعالى و أن الله تعالى إلـه المسيح و خالقه، متبعا نفس
الأسلوب الذي اتبعته مع مناقشة عبارات الأناجيل و عبارات بولس.
______________________
القسم الأول: أقوال يوحنا الصريحة التي تنفي إلـهية المسيح و
تؤكد أنه عبدٌ مخلوقٌ ِللهِ عز و جل:
(1) أما نصه على أن الله
تعالى إلـه المسيح و بالتالي فالمسيح عبد مربوب لله، فقد جاء في رؤيا يوحنا الكشفية
(1 / 6) حين قال:
"... و من لدن يسوع المسيح
الشاهد الأمين و البكر من بين الأموات و سيد ملوك الأرض، ذاك الذي أحبنا فحلنا من
خطايانا بدمه، و جعل منا مملكة من الكهنة لإلــهـه و أبــيـه... "
(2) و أما نصه على أن المسيح مخلوق لله سبحانه
وتعالى ، فجاء وضحا في رسالته الأولى (2/ 1) في قوله:
" أكتب إليك ما يقول الأمين (المسيح)، الشاهد الأمين الصادق،
بدء خليقة الله... "
(3) و أما أن المسيح يستمد
من الله و بالتالي لا يمكن أن يكون إلـهاً لأن الله غني بذاته، فقد جاء ذلك مثلاً
في رؤياه الكشفية أيضا (1 /1) حين يقول:
" هذا
ما كشفه يسوع المسيح بعطاء من الله "
(4) و أما
عن الغيرية الكاملة و التمايز و الاثنينية بين الله: الآب و المسيح عليه السلام
فالأمثلة عليه كثيرة من كلام يوحنا نكتفي بهذا الشاهد من رسالته
الأولى(2/1):
" و إن خطئ أحد فهناك شفيع لنا عند
الآب و هو يسوع المسيح البار "
(5) ثم إن نفس
النصوص الإنجيلية، التي استقيناها في الفصل الأول من إنجيل يوحنا، النافية لإلـهية
عيسى و المثبتة لعبوديته، تصلح كذلك للكشف عن عقيدة يوحنا مؤلف ذلك الإنجيل حول عدم
إلـهية المسيح إذ من البديهي أن الرجل دوَّن في إنجيله ما يعتقده أو أنه كان يعتقد
بما دونه، و نكتفي هنا بإشارة سريعة لثلاث نصوص قاطعة من إنجيل يوحنا:
" قال لها يسوع: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. و لكن
اذهبي إلى أخوتي و قولي لهم: إني أصعد إلى أبي و أبيكم و إلـهي و إلـهكم " إنجيل
يوحنا:20 / 17.
" تكلم يسوع بهذا و رفع عينيه نحو السماء و قال: أيها الآب،
قد أتت الساعة... و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإلـه الحقيقي وحدك، و
يسوع المسيح الذي أرسلته... " إنجيل يوحنا: 17 / 1 ـ 3.
" فقال لهم يسوع:
لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، و لكنكم الآن تطلبون أن تقـتلوني و
أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " إنجيل يوحنا:8/40.
و أعتقد أن
ما ذكر أعلاه يكفي ـ لمن تجرد للحق و أنصف و جانب التقليد و التعصب ـ للتأكد من
عقيدة يوحنا التوحيدية و أنه لم يعلِّم التثليث و لا أن الله هو المسيح، بل أفرد
الله تعالى وحده بالإلـهية، فينبغي أن يبقى هذا بالبال عند مناقشتنا التالية
للشبهات التي استندوا إليها من كلام يوحنا.