الوعود البلفورية:
Balfour Declarations
« الوعود البلفورية» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى مجموعة من التصريحات
التي أصدرها بعض رجال السياسة في الغرب يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في
فلسطين، ويعدون بدعمه وتأمينه نظير أن يقوم اليهود على خدمة مصالح الدولة الراعية،
أي أنها دعوة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة
الصهيونية.
والوعود البلفورية تعبير عن نموذج كامن في الحضارة الغربية يضرب
بجذوره فيها. وهي حضارة تنحو منحى عضويًّا، وتجعل التماسك العضوي مثلاً أعلى.
ونظراً لأن التماسك العضوي هو المثل الأعلى، فإن عدم التجانس يصبح سلبيًّا كريهاً.
وينتج عن هذه الرؤية للكون رفض الآخر في شكل الأقليات. ومن ثم، نجد أن الحضارة
الغربية (والمسيحية الغربية) لم تتوصل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات،
وبالذات اليهود، وإنما همَّشتهم (شعب شاهد) وحوسلتهم (جماعة وظيفية). ومنذ عصر
النهضة الغربية والثورة العلمانية الشاملة، بدأت أزمة الجماعات اليهودية، وظهرت
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تُعَدُّ جزءاً من فكرة العقد الصامت بين
الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم: شعب عضوي منبوذ ـ نافع ـ
يُنقَل خارج أوربا إلى فلسطين؛ ليُوظَّف لصالحها في إطار الدولة الوظيفية.
وقد
صدرت معظم الوعود البلفورية في القرن التاسع عشر، واستمرَّت حتى صدور وعد بلفور عام
(1917) م، الذي حسم مسألة علاقة اليهود بالحضارة الغربية. وسنقوم بمحاولة تحليل عدد
من الوعود البلفورية، وسنقسمها إلى ثلاثة عناصر أساسية.
1 ـ نص الوعد.
2 ـ
الديباجة العلنية (أو الأسباب المعلنة) التي عادةً ما ترد في الوعد نفسه أو في مجال
الدفاع عنه.
3 ـ الدوافع الخفية (العميقة أو الحقيقية) وهي عادةً لا ترد في أيٍّ
من الوعود، وعلينا أن نبحث عنها في نصوص وحقائق تاريخية تشكِّل السياق التاريخي
للوعد البلفوري موضع البحث. ويُعتبَر نابليون بونابرت من أوائل القادة الغربيين
الذين أصدروا وعداً بلفوريًّا، وهو أيضاً أول غاز للشرق في العصر الحديث. وفيما يلي
الجزء المهم من نص الوعد:
(من نابليون القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية
الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين.
أيها الإسرائيليون، أيها
الشعب الفريد، الذين لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبهم اسمهم ووجودهم القومي،
وإن كانت قد سلبتهم أرض الأجداد فقط.
إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين ـ وإن لم تكن لهم مواهب
المتنبئين مثل إشعياء ويوئيل ـ قد أدركوا ما تنبَّأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع من
دمار وشيك لمملكتهم ووطنهم: أدركوا أن عتقاء الإله سيعودون لصهيون وهم يغنُّون،
وسيُولَد الابتهاج بتَملُّكهم إرثهم دون إزعاج، فرحاً دائماً في نفوسهم (إشعياء
(35/ 10 انهضوا إذن بسرور أيها المبعدون. إن حرباً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً،
تخوضها أمة دفاعاً عن نفسها بعد أن اعتبر أعداؤها أرضها التي توارثوها عن الأجداد
غنيمة ينبغي أن تُقسَّم بينهم حسب أهوائهم. وبجرة قلم من مجلس الوزراء تقوم للثأر
وللعار الذي لحق بها وبالأمم الأخرى البعيدة. ولقد نُسي ذلك العار تحت قيد العبودية
والخزي الذي أصابكم منذ ألفي عام. ولئن كان الوقت والظروف غير ملائمة للتصريح
بمطالبكم أو التعبير عنها، بل وإرغامكم على التخلي عنها، فإن فرنسا تقدم لكم إرث
إسرائيل في هذا الوقت بالذات، وعلى عكس جميع التوقعات، إن الجيش الذي أرسلتني
العناية الإلهية به، والذي يقوده العدل ويواكبه النصر، جعل القدس مقرًّا لقيادتي،
وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي لم تَعُد تُرهب مدينة داود. يا ورثة
فلسطين الشرعيين: إن الأمة التي لا تتاجر بالرجال والأوطان، كما فعل أولئك الذين
باعوا أجدادهم لجميع الشعوب (يوئيل 4/ 6 (، تدعوكم لا للاستيلاء على إرثكم بل لأخذ
ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء. انهضوا وأظهروا أن قوة
الطغاة القاهرة لم تُخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال الذين كان تَحالُفهم الأخوي
شرفاً لإسبرطة وروما (مكابيون 12/ 15 (، وأن معاملة العبودية التي دامت ألفي عام لم
تُفلح في إخمادها. سارعوا! إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي قد لا تتكرر لآلاف
السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي
سُلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي في
عبادة يهوه، طبقاً لعقيدتكم، علناً وإلى الأبد. (يوئيل 4/ 20.) وفيما يتعلق بوعد
نابليون البلفوري، يمكن ملاحظة ما يلي:
1 ـ جوهر الوعد هو العبارة التالية:
(تقدِّم فرنسا فلسطين لليهود في هذا الوقت بالذات، وعلى عكس جميع التوقعات ... وهذه
هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين). (تدعوكم (فرنسا) لا للاستيلاء
على إرثكم بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء).
(وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي في عبادة يهوه طبقاً لعقيدتكم،
علناً وإلى الأبد.
2 ـ لا يختلف تصريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر
أعضاء الجماعات اليهودية شعباً غريباً عن وطنه (وهو ما يعني إسقاط المواطنة عنه)
وهو شعب مرتبط بفلسطين. وقد وجَّه نابليون نداءه إلى (الشعب الفريد) و (المبعدين)
الذين عاشوا (تحت قيد العبودية والخزي ... منذ ألف عام) و (ورثة فلسطين الشرعيين)
(أي: الشعب العضوي المنبوذ) بأن يتبعوا فرنسا التي ستقدم لهم إرث إسرائيل، أي: أرض
فلسطين، أي: أنهم سيتم خروجهم من فرنسا وتوطينهم في
فلسطين.
3 ـ ثم نأتي ثالثاً إلى الدوافع الخفية الحقيقية، وليس من الصعب تخمينها،
فنابليون لم يَكُنْ يُكِنُّ كثيراً من الحب أو الاحترام لليهود، وهذا يظهر في
تشريعاته داخل فرنسا. ولذا فإن إرسالهم إلى فلسطين فيه حل للمسألة اليهودية في
فرنسا (والتي كانت قد بدأت في التفاقم). ومع هذا كان نابليون يهدف إلى توظيف اليهود
في خدمة مشاريعه وتحويلهم إلى عملاء له، وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل (وقد
وافقه الزعيم الصهيوني على رأيه). ولعل إشارة نابليون إلى التقاليد المكابية هو
إشارة خفية للدور القتالي (المملوكي) الذي يمكن أن تلعبه الدولة اليهودية المقترحة
في خدمة المصالح الغربية.
وقد صدرت أيضاً عدة وعود بلفورية ألمانية. ويمكننا هنا
أن نتوقف قليلاً عند واحد من أهم إسهامات (هرتزل) للحركة الصهيونية، وهو أنه إذا
كانت الفكرة الصهيونية إمكانية كامنة في الحضارة الغربية تود أن تتحقق، فلم يكن
بإمكانها أن تخرج من عالم الوجود بالقوة إلى عالم الوجود بالفعل إلا من خلال آليات
محددة، أهمها:
تنظيم المادة البشرية (اليهودية) التي سيتم ترحيلها، وتأسيس إطار
تنظيمي يستطيع أن يتلقَّى الوعود، وأن يقوم بتنفيذها. وحينما أصدر نابليون وعده
البلفوري لم يكن هناك تنظيم يهودي يمكنه تلقِّي هذا الوعد، والعمل على تسخير المادة
البشرية لتنفيذه. وهذا ما أنجزه (هرتزل) بعد أن نشر كتابه (دولة اليهود) الذي وضَّح
فيه ما نسميه «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية». فقرَّر
(هرتزل) أن يأخذ بزمام الأمور، وأن يتوجه للدول العظمى. وقد ساعده في مسعاه هذا
القس (الواعظ) الصهيوني نصف المجنون (هشلر) إذ قدمه إلى أحد كبار المسئولين الألمان
الذي تحدَّث إلى القيصر عن الموضوع. وكانت ثمرة هذه الاتصالات وعد بلفوري ورد في
خطاب من دون إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى (هرتزل) مؤرخ في سبتمبر (1898) وجاء
فيه:
(إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد أن يناقش الأمر (توطين اليهود) مع
السلطان، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في القدس. وقد أصدر
جلالته أوامره بأن تُذلِّل كل الصعاب التي تواجه استقبال وفدكم. وأخيراً يحب جلالته
أن يخبركم عن استعداده أن يأخذ على عاتقه مسئولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها.
وجلالته حينما يكشف لكم عن نواياه، فهو يعوِّل، بطبيعة الحال، على مقدرتكم على
الكتمان. وكم يسعدني أن أنقل لكم هذه المعلومات، وأتمنى أن تنجح في الوصول إلى
القدس في الموعد المحدد. وفي الحقيقة، فإن فشلكم في هذا سيسبب لجلالته خيبة الأمل.
وأترك لكم- بما تتميزون به من لباقة- أن تقرروا ما إذا كنتم تودون الوصول إلى
إستنبول في الوقت الذي يصل فيه جلالته إليها أم لا).
ويمكننا ملاحظة ما
يلي:
1 ـ جوهر الوعد يُوجَد في العبارة: (يحب جلالته أن يخبركم عن استعداده أن
يأخذ على عاتقه مسئولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها (وأنه) على استعداد أكيد أن
يناقش الأمر (توطين اليهود) مع السلطان.
2 ـ وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الديباجة العلنية والنوايا المعلنة، فإننا لن
نجد لها أيَّ أثر، فقيصر ألمانيا لم يكن تحت أية ضغوط للبحث عن مسوغات رومانسية، بل
إن العكس في حالته هو الصحيح؛ إذ كان عليه أن يبرر أمام شعبه مسألة تعاطفه مع
المشروع الصهيوني وتأييده له، بل واستعداده لأن يضع الصهاينة تحت حمايته. وكما قال
في خطابه المؤرخ (29) سبتمبر (1898) م, والمُرسَل إلى دوق بادن، فإن تسعة أعشار
شعبه سيُصدَم صدمة عميقة إذا اكتشف هذه الحقيقة. فاليهود ـ كما يقول ـ هم قتلة
المسيح، وهو يعترف بهذه الحقيقة، ولكنه يضيف قائلاً: (إن الإله قد أنزل بهم العقاب
على ما اقترفوه من آثام، إلا أنه لم يأمر المسيحيين بأن يسيئوا معاملة هذا
الشعب).
3 ـ وأما العنصر الثالث، أي: الدوافع الحقيقية الخفية، فهي موجودة
وبغزارة، في خطاب القيصر المذكور، وفي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في سويسرا عن
المؤتمر الصهيوني الأول (1897) م, فهو في مجال تسويغ تعاونه مع (قتلة المسيح) يورد
الأسباب التالية لتأييد ألمانيا للمشروع الصهيوني:
أ) سينتج عن توطين شعب
إسرائيل رخاء للمنطقة، ولا سيما أن الملايين ستصب في الأكياس العثمانية، الأمر الذي
قد يؤدي إلى شفاء الرجل المريض.
ب) ستُوجَّه طاقة اليهود ومواهبهم إلى أهداف
أكثر نبلاً من استغلال المسيحيين.