والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل، ثم لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ اللّه تعالى، وقد قدّمنا عن الفُضَيل رحمه اللّه: أن ترك العمل لأجل الناس رياء. ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق
العارفين.
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم*10*
، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: نزلت هذه الآية ”وَلاَتَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها” الإسراء:110 في الدعاء.
فصل: اعلم أن فضيلة الذكر غيرُ منحصرةٍ في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كلُّ عاملٍ للّه تعالى بطاعةٍ فهو ذاكرٌ للّه تعالى، كذا قاله سعيدُ بن جُبير رضي اللّه عنه زغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه اللّه: مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا.
فصل: قال اللّه تعالى: ”إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ” إلى قوله تعالى: ”وَالذَّاكِرِينَ اللّه كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ، أعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مغْفِرَةً وأجْراً عَظِيماً” الأحزاب:35.
وروينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:
"سَبَقَ المُفرِّدونَ، قالُوا: ومَا المُفَرِّدونَ يا رَسُولَ اللّه؟! قالَ: الذَّاكِرُونَ اللّه كَثِيراً وَالذَّاكرَاتُ".
قلت: روي المفرِّدون بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
واعلم أن هذه الآية الكريمة *المراد بالآية هنا هي قوله تعالى: ”والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات، أعدّ اللّه لهم مغفرة وأجراً عظيماً” الأحزاب:35*
مما ينبغي أن يهتمَّ بمعرفتها صاحبُ هذا الكتاب.
وقد اختُلِفَ في ذلك، فقال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس: المراد يذكرون اللّه في أدبار الصلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ اللّه تعالى. وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات حتى يذكر اللّه قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء: من صلَّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول اللّه تعالى: ”والذَّاكِرِينَ اللّه كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ” هذا نقل الواحدي.
وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"إذا أيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا ـ أَوْ صَلَّى ـ رَكعَتينِ جَمِيعاً كُتِبَا في الذَّاكِرِينَ اللّه كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ" هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم.
وسئل الشيخ الإمام أبو عمر بن الصَّلاح رحمه اللّه عن القدر الذي يصيرُ به من الذاكرينَ اللّه كثيراً والذاكرات، فقال: إذا واظبَ على الأذكار المأثورة *13*، كان من الذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات، واللّه أعلم.
فصل: أجمع العلماءُ على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحْدِث والجُنب والحائض والنفساء، وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والدعاء وغير ذلك. ولكنَّ قراءة القرآن حرامٌ على الجُنب والحائض والنفساء، سواءٌ قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراءُ القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النَّظَرُ في المصحف، وإمرارُه على القلب. قال أصحابُنا: ويجوز للجُنب والحائض أن يقولا عند المصيبة: ”إنَّا للّه وإنَّا إليه راجعون”، وعند ركوب الدابة: ”سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقرنين” *14*، وعند الدعاء: ”ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار”، إذا لم يقصدا به القرآن، ولهما أن يقولا: بسم اللّه، والحمد للّه، إذا لم يقصدا القرآن، سواءٌ قصدا الذكر أو لم يكن لهما قصد، ولا يأثمان إلا إذا قصدا القرآن، ويجوزُ لهما قراءةُ ما نُسخت تلاوتُه "كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما". وأما إذا قالا لإِنسان: خذ الكتاب بقوّة، أو قالا: ادخلوها بسلام آمنين، ونحو ذلك، فإن قصدا غيرَ القرآن لم يحرم، وإذا لم يجدا الماء تيمَّمَا وجاز لهما القراءة، فإن أحدثَ بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث. ثم لا فرق بين أن يكون تَيمُّمُه لعدم الماء في الحَضَر أو في السفر، فله أن يقرأ القرآن بعده وإن أحدث. وقال بعضُ أصحابنا: إن كان في الحضر صلَّى به وقرأ به في الصلاة، ولا يجوزُ أن يقرأ خارجَ الصلاة، والصحيحُ جوازه كما قدّمناه، لأن تيمُّمَه قام مقام الغسل. ولو تيمَّمَ الجنبُ ثم رأى ماء يلزمُه استعمالُه فإنه يحرمُ عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجُنب حتى يغتسل. ولو تيمَّم وصلَّى وقرأ ثم أراد التيمّم لحدثٍ أو لفريضةٍ أخرى أو لغير ذلك لم تحرم عليه القراءة.
هذا هو المذهب الصحيح المختار، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يحرمُ، وهو ضعيف.
أما إذا لم يجد الجُنبُ ماءً ولا تُراباً فإنه يُصلِّي لحُرمة الوقت على حسب حاله، وتحرمُ عليه القراءة خارجَ الصلاة، ويحرمُ عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة.
وهل تحرمُ الفاتحة؟ فيه وجهان: أصحُّهما لا تحرمُ بل تجبُ، فإن الصَّلاةَ لا تصحُّ إلا بها، وكما جازت الصلاةُ للضرورة تجوزُ القراءة. والثاني تحرمُ، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها مَن لا يُحسن شيئاً من القرآن. وهذه فروعٌ رأيتُ إثباتها هنا لتعلقها بما ذكرتُه، فذكرتها مختصرة وإلا فلها تتمّات وأدلة مستوفاة في كتب الفقه، واللّه أعلم.