اعلم أن الكلام هو الذي يُعطي
العلومَ منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صُوَرها، ويجني صنوفَ ثَمَرها، ويدلُّ
على سرائرها، ويُبْرِزُ مكنون ضمائرها، وبه أبان اللّه تعالى الإنسان من سائر
الحيوان، ونبّه فيه على عِظَم الامتنان، فقال عزّ من قائل: "الرَّحْمَنُ عَلَّمَ
القُرْآنَ، خَلَقَ الإنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ" "الرحمن1-4"، فلولاه لم تكن
لتتعدَّى فوائدُ العلمِ عالِمَه، ولا صحَّ من العاقل أن يَفْتُق عن أزاهير العقلِ
كمائمه، ولتعطَّلَت قُوَى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوَتِ القضيّة في
مَوْجُودَها وفانيها، نَعمْ، ولوقع الحيُّ الحسَّاس في مرتبةِ الجماد، ولكان
الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيتِ القلوب مُقْفَلةً تَتَصَوَّنُ على
ودائعها، والمعاني مَسْجُونَةً في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرُّفها معقولةً،
والأذْهان عن سلطانها معزولةً، ولما عُرف كفرٌ من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر
فرقٌ بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين، ثم إنّ الوصف الخاصَّ به، والمعنى المثبِتَ
لنسبه، أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها، ويقرِّر كيفياتها التي
تتناولها المعرفةُ إذا سَمَتْ إليها، وإذا كان هذا الوصفُ مقوِّمَ ذاته وأخصَّ
صِفاته، كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر، وبه أولى وأجدر، ومن ها هنا يبيّن
للمحصل، ويتقرّر في نفس المتأمِّل، كيف ينبغي أن يَحْكُمْ في تفاضُل الأقوال إذا
أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدّل القسمةَ بصائب القِسطاس والميزان،
ومن البيّن الجليّ أن التبايُنَ في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من
الرذيلة، ليس بمجرَّد اللفظ، كيف والألفاظ لا تُفيد حتى تُؤلَّف ضرباً خاصّاً من
التأليف، ويُعْمَد بها إلى وجه دونِ وجهٍ من التركيب والترتيب، فلو أنك عَمَدت إلى
بيت شعرٍ أو فَصْل نثرٍ فعددت كلماته عَدّاً كيف جاء واتَّفق، وأبطلت نضدَهُ ونظامه
الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيّرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد،
وبنَسَقِه المخصوص أبان المراد، نحو أن تقول في: "من الطويل قِفا نَبْكِ من ذِكْرَى
حَبيبٍ ومنزل" منزل قفا ذكرى من نبك حبيب، أخرجته من كمال البيان، إلى مجال
الهَذَيان، نعم وأسقطت نسبتَهُ من صاحبه، وقطعت الرَّحمِ بينه وبين مُنْشِئه، بل
أحَلْت أن يكون له إضافةٌ إلى قائل، ونَسَبٌ يَخْتَصّ بمتكلم، وفي ثبوت هذا الأصل
ما تَعْلم به أنّ المعنى الذي له كان هذه الكلم بيتَ شعرٍ أو فصلَ خطابٍ، هو
ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحُكْمُ -
أعني الاختصاص في الترتيب - يقع في الألفاظ مرتَّباً على المعاني المرتَّبَة في
النفس، المنتظمةِ فيها على قضيّة العقل، ولا يُتّصوَّر في الألفاظ وُجُوبُ تقديم
وتأخير، وتخصُّصٍ في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وُضِعَت المراتبُ والمنازلُ في الجمل
المركَّبة وأقسام الكلام
المدَّونة
فقيل: من حق هذا أن يَسبق
ذلك، ومن حقِّ ما هاهنا أن يقع هنالك، كما قيل في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل،
حتى حُظِر في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلاّ سابقاً، وفي آخَرَ أن يوجد إلا
مبنيَّاً على غيره وبه لاحقاً، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام، وإن الصفة لا
تتقدم على الموصوف إلا أنْ تُزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام، فإذا رأيت
البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثْراً، ثم يجْعَلُ الثناءَ عليه من
حيث اللّفظ فيقول: حُلْوٌ رشيق، وحَسَنٌ أَنيقٌ، وعذبٌ سائغٌ، وخَلُوبٌ رائعٌ،
فاعلم أنه ليس يُنبئك عن أحوالٍ ترجعُ إلى أجْراس الحروف، وإلى ظاهر الوضعِ
اللغويّ، بل إلى أمرٍ يقع من المرء في فؤاده، وفضلٍ يَقْتدحُه العقلُ من زِناده،
وأمَّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شِرْكٍ من المعنى فيه، وكونِه من أسبابهِ
ودواعيه، فلا يكاد يَعْدُو نمطاً واحداً، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في
استعمالهم، ويتداولُونه في زمانهم، ولا يكون وَحْشِياً غريباً، أو عامّياً سخيفاً،
سُخْفُهُ بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضتْه من الحكم والصفة، كقول العامة
أشْغَلتَ وانفسد، وإنما شرطتُ هذا الشرط، فإنه ربما استُسخف اللفظ بأمر يرجعُ إلى
المعنى دون مجرَّد اللفظ، كما يحكى من قول عبيد اللّه بن زياد لما دُهش: افتحوا لي
سيفي، وذلك أن الفتح خلاف الإغلاق، فحقُّه أن يتناول شيئاً هو في حكم المُغلقَ
والمسدود، وليس السَّيف بمسدود، وأقصى أحوالِهِ أن يكون كونُه في الغِمْد بمنزله
كَوْنِ الثوب في العِكْمِ، والدرهم في الكيس، والمتاعِ في الصندوق، والفتح في هذا
الجنس يتعدَّى أبداً إلى الوِعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا
يقال: افتحِ الثوبَ، وإنما يقال: افتحِ العِكْمَ وأخرجِ الثوب و افتحِ الكيس، وها
هنا أقسام قد يُتَوهَّمُ في بَدْءِ الفكْرة، وقبلَ إتمام العِبرة، أنَّ الحُسْنَ
والقبحَ فيها لا يتعدَّى اللفظَ والجَرَسَ، إلى ما يُناجِي فيه العقلُ النفسَ، ولها
إذا حُقّق النظر مَرجِعٌ إلى ذلك، ومُنْصَرَفٌ فيما هنالك، منها: التجنيس
والحشو.