وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل
السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما
بين المُشئِمِ والمُعْرِق، وهو يُرِيكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في
الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويُعطيك البيان من الأعجم،
ويُريك الحياةَ في الجماد، ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت
مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت
لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً، كما يقال: أنا نارٌ في
مُرْتَقَى نَظَرِ الحا سِدِ، ماءٌ جارٍ
مع الإخوان
وكما يجعل الشيء حُلواً
مُرّاً، وصاباً عسلاً وقبيحاً حسَنَاً، كما قال: حَسَنٌ في وجوه
أعدائه أَقْ بحُ من ضَيْفه
رأتْه السوامُ
ويجعل الشيء أسود أبيضَ في
حال، كنحو قوله: له منظَرٌ في
العين أبيضُ ناصعٌ ولكنّه في القلب
أسودُ أسفـعُ
ويجعل الشيء كالمقلوب إلى
حقيقة ضدّه، كما قال: غُرَّةٌ
بُهْمَةٌ ألا إنما كُنْ تُ أغَرَّ
أيَّام كنتُ بَهِيمَا
ويجعل الشيء قريباً بعيداً
معاً، كقوله: "دانٍ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ" وحاضراً وغائباً، كما قال:
أيا غائباً
حاضراً في الفؤادِ سَلامٌ على
الحَاضرِ الغائبِ
ومشرّقاً مغرّباً، كقوله:
لَهُ إليكم نفسٌ
مُـشـرِّقةٌ أن غابَ عنكم
مُغَرِّباً بَدَنُهْ
وسائراً مقيماً، كما يجيء في
وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن:
وجوّابةِ
الأُفْقِ موقـوفةٍ تسيرُ ولَمْ
تَبرحِ الحَضْرَةْ
وهل يخفى تقريبه المتباعدين،
وتوقيفه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجّة، وحُسن تخليصه للكلام، وقد
مُثِّلت تارةً بالهناء ومعالجة الإبل الجَرْبَى به، وأُخرَى بحزِّ القصّاب اللحم
وإعماله السكّين في تقطيعه وتفريقه في قولهم "يَضَع الهِنَاء مَوَاضِع النُقْبِ
ويصيب الحزَّ وويطبِّق المَفْصِل"، فانظر هل ترى مزيداً في التناكر والتنافر على ما
بين طِلاَء القطران، وجنس القول والبيان ثم كرِّرِ النظر وتأمَّلْ كيف حصل
الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر، ما يأْنَس إليه العقل ويحمَده الطبع?
حتى إنّك لربما وجدتَ لهذا المَثَل إذا وردَ عليك في أثناء الفصول، وحين تبيّن
الفاضل في البيان من المفضول قبولاً، ولا ما تجدُ عند فَوْحِ المسك ونشْرِ
الغَالية، وقد وقع ذكرُ الحزّ والتطبيق منك موقعَ ما ينفى الحزازات عن القلب،
ويُزيل أطباقَ الوحشة عن النفس، وتكلُّفُ القول في أن للتمثيل في هذا المعنى الذي
لا يُجارَى إليه، والباعَ الذي لا يُطاوَل فيه، كالاحتجاج للضَّرورات، وكفى دليلاً
على تصرُفه فيه باليد الصَّنَاع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يُريك العدمَ
وجوداً والوجودَ عدماً، والميّت حيّاً والحيَّ ميّتاً أعني جَعْلَهم الرجلَ إذا بقي
له ذكر جميلٌ وثناءٌ حَسَنٌ بعد موته، كأنه لم يمت، وجَعَلَ الذكرِ حياةٌ له، كما
قال: "ذِكْرُ الفتَى عُمْرُه الثَّانِي"؛ وحُكْمَهُمْ على الخامِل الساقطِ القدرِ
الجاهل الدنيء بالموتِ، وتصييرَهُمْ إياه حين لم يكن ما يؤثَر عنه ويُعْرَف به،
كأنه خارجٌ عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود، ولطيفةٌ أخرى له في
هذا المعنى، هي، إذا نظرتَ، أعجبُ، والتعجُّب بها أحقُّ ومنها أوجب، وذلك جعلُ
الموت نفسِه حياةً مستأنفة حتى يقال: إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم فلان عاش
حين مات، يُراد الرجل تحمله الأبيّةُ وكرم النفس والأنَفَة من العار، على أن يسخو
بنفسه في الجود والبأس، فيفعل ما فعل كعب بن مامة في الإيثار على نفسه، أو ما يفعله
الشجاع المذكور من القتال دون حَرِيمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال
الأعداء، حتى يكون له يومٌ لا يزال يُذكَر، وحديثٌ يعاد على مَرِّ الدهور ويُشْهَر،
كما قال ابن نباتة: بأَبِي وأمّـي
كُـلُّ ذِي نَفْسٍ تَعافُ
الضَّيْمَ مُرَّةْ
تَرْضَى بأن
تَرِد الرَّدَى فَيُمِيتها
ويُعيش ذِكْـرَهْ
وإنه لَيأتيك من الشيء الواحد
بأشباهِ عِدة، ويشتقّ من الأصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثَمَرٌ على حِدَة، نحو أن
الزَّند بإيرائه يُعطيك شَبَه الجواد، والذكيِّ الفَطِنِ، وشَبَه النُجح في الأمور
والظفر بالمراد وبإصلادِه شَبَه البخيل لا يعطيك شيئاً، والبليد الذي لا يكون له
خاطر يُنتج فائدةً ويُخرج معنًى وشَبَه من يخيب سَعْيُه، ونحو ذلك ويعطيك من القمر
الشهرة في الرجل والنباهة والعِزَّ والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان
بعد الكمال، كقولهم هلا نَمَا فعاد بدراً، يراد بلوغ النَجْل الكريم المبلغَ الذي
يُشبِه أصلَه من الفضل والعقل وسائر معاني الشرفِ، كما قال أبو تمام:
لَهَفِي على تلك
الشواهد مِنْهُما لو أُمْهلَتْ
حتى تَصِيرَ شمائلاَ
لَغدا سكونهما
حجًى وصِباهما كَرَماً وتلك
الأريحيّة نـائلاَ
إنّ الهلالَ إذا
رأيتَ نُـمُـوَّهُ أَيقنتَ أن
سيصيرُ بدراً كاملاَ
وعلى هذا المثل بعينه، يُضرَب
مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعزّ من طبقة إلى أعلى منها، كما قال البحتري:
شَرَفٌ تزيَّدَ
بالعراق إلى الذي عهِدُوه
بالبَيْضاء أو بِبَلَنْجَـرَا
مِثْلَ الهلال
بدَا فلم يَبْرَحْ بـه صَوْغُ
اللَّيالي فيه حتى أقمَرا
ويعطيك شَبَه الإنسان في
نَشْئِه ونَمائه إلى أن يبلغ حدَّ التمام، ثم تراجُعِه إذا انقضت مُدَّة الشباب،
كما قال: المرءُ مِثْلُ
هلالٍ حين تُبصرهُ يبدو ضئيلاً
ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ
يَزدادُ حتّى
إذا ما تَمَّ أعْقَبـه كَرُّ الجديدين
نقصاً ثم يَنْمَحِقُ
وكذلك يتفرَّع من حالتي تمامه
ونُقصانه فروعٌ لطيفة، فمن غريب ذلك قولُ ابن بابك: وأعَرْتَ شَطْرَ
المُلك ثَوْبَ كماله والبدرُ في
شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ
قاله في الأستاذ أبي علي، وقد
استوزره فخرُ الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبيّ وخلع عليهما وقولُ أبي بكر
الخوارزمي: أراك إذا أيسرتَ
خَيَّمتَ عندنـا مقيماً وإن
أعسرتَ زُرتَ لِمَامَا
فما أنت إلا
البدرُ إن قَلَّ ضَوءهُ أَغَبَّ وإن
زَادَ الضياءُ أقَـامَـا
المعنى لطيف، وإن كانت
العبارة لم تساعده على الوجه الذي يجب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتَي الحضور وقتٌ
يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نورُه، لم يُوال الطلوع كل ليلة،
بل يظهر في بعض الليالي، ويمتنع من الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك، لأنه على
نقصانه يطلع كل ليلة حتى يكون السِّرارُ، وقال ابن بابك في نحوه:
كذا البدرُ
يُسْفِـرُ فـي تِـمِّـه فإن خاف نَقْص
المَحَاقِ انْتَقَبْ
وهكذا يُنظر إلى مقابلته
الشَّمسَ واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سببَ زيادته ونقصه وامتلائه من النور
والائتلاق، وحصولهِ في المُِحَاق، وتفاوُتِ حاله في ذلك، فتُصاغ منه أمثَالٌ،
وتُبَيَّن أشباهٌ ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة: قد سَمِعْنا
بالعِزِّ من آلِ سـاسـا نَ ويُونانَ في
العُصور الخوالِي
والملوكِ
الأُلَى إذا ضاع ذِكْـرٌ وُجِدُوا في
سـوائر الأمـثـالِ
مَكْرُماتٌ إذا
البليغُ تـعـاطَـى وَصْفَها لم
يجدْهُ فـي الأقـوال
وإذا نحن لم
نُضِفْـه إلـى مـد حِكَ كانت
نهايةً في الكـمـال
إن جمعنَاهُمَا
أضرَّ بها الـجـم عُ وضاعت فيه
ضَياعَ المُحال
فهو كالشمس
بُعْدُها يملأ البَـدْ ر وفي قُرْبها
ُمحاقُ الهـلالِ
وغير ذلك من أحواله كنحو ما
خرج من الشَّبَه من بُعده وارتفاعه، وقُرب ضَوئِه وشُعاعه، في نحو ما مضى من قول
البحتري: "دانٍ على أيدي العفاة" البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع،
كقوله: كالبدرِ من حيثُ
التَفَتَّ رَأَيتَه يُهدَي إلى
عينيك نوراً ثاقبَا
في أمثال لذلك تكثر، ولم
أعرِضْ لما يُشبَّه به من حيث المنظر، وما تُدركه العين، نحو تشبيهِ الشيء بتقويس
الهلالِ ودقّته، والوجه بنوره وَبَهْجته، فإنّا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان
الشَّبه فيه معنويّاً.فصلٌ آخر وإن كان مِمَّا مَضَى، إلا أن
الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثَّلاً، في الأكثر ينجلي لك بعد أن
يُحْوِجك إلى غير طلبه بالفكرة وتحريك الخاطرِ له والهِمَّة في طلبه، وما كان منه
ألطف، كانت امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابُه أشدُّ، ومن المركوز في الطبع
أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله
أحلَى، وبالمزِيَّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضَنَّ
وأَشْغَف، ولذلك ضُرب المثل لكل ما لَطُف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال:
وهُنَّ
يَنْبِذْنَ من قَوْلٍ يُصِبْنَ بِهِمَوَاقِعَ الماءِ مِنْ ذِي
الغُلَّةِ الصَّادِي
وأشباه ذلك مما يُنال بعد
مكابدة الحاجة إليه، وتقدُّم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون
التعقيد والتعمية وتعمُّد ما يَكْسِب المعنى غمُوضاً، مشرِّفاً له وزائداً في فضله،
وهذا خلافُ ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا إن خَيْر الكلام ما كان معناه إلى قلبك
أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أُرد هذا الحدَّ من الفِكْرِ والتعب، وإنما
أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: فإن المِسْكَ
بعضُ دمِ الغَزَالِ
وقوله: ومَا التأنيثُ
لاِسْمِ الشمسِ عَيْبٌ ولا التذكيرُ
فَخْرٌ للـهـلالِ
وقوله: رأيتُك في الذين
أَرَى مُلُوكاً كأنَّك
مُسْتَقيمٌ في مُحـالِ
وقول النابغة:
فإنَّك كاللَّيل
الَّذِي هو مُـدْرِكـي وَإنْ خِلْتُ
أنّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
وقوله: فإنك شمسٌ
والملوكُ كواكـبٌ إذَا طَلَعتْ لم
يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ
وقول البحتري:
ضَحوكٌ إلى
الأبطال وهو يَرُوعهم وللسيف حدٌّ حين
يَسْطُو وَرَوْنَـقُ
وقول امرئ القيس:
"بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابد هَيْكَلِ" وقوله: ثم انصرفتُ وقد
أَصَبْتُ ولم أُصَبْ جَذَعَ
البَصِـيرةِ قَـارِحَ الإقـدامِ
فإنك تعلم على كل حالٍ أن هذا
الضرب من المعاني، كالجوهر في الصَدَف لا يبرز لكَ إلاّ أن تشُقَّه عنه، وكالعزيز
المُحْتجب لا يُريك وجهه حتى تستأذِن عليه، ثم ما كلُ فكر يهتدي إلى وجهِ الكَشْفِ
عمَّا اشتمل عليه، ولا كُلّ خاطر يؤذَن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شقّ
الصَدَفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كلُّ من دنا من أبواب الملوك،
فُتحت له وكان: مِنَ النَّفَرِ
البِيضِ الَّذِينَ إذَا اعتَزَوْاوهابَ رجالٌ حَلْقَةَ
البَابِ قَعْقَعُوا
أو كما قال:
تَفَتَّحُ
أبوابُ الملوك لِوجهه بغير حِجَابٍ
دُونَهُ أو تَملُّقِ
وأما التعقيد، فإنما كان
مذموماً لأجل أن اللفظ لم يرتَّب الترتيبَ الذي بمثله تحصُل الدَّلالة على الغرض،
حتى احتاج السامع إلى أن يطلبَ المعنى بالحِيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله:
ولذا اسمُ أغطية
العيون جفونُها من أنّها عَمَلَ
السيوفِ عواملُ
وإنما ذُمَّ هذا الجنس، لأنه
أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكَدَّكَ بسُوء الدَّلالة وأودع
لك في قالب غير مستوٍ ولا مُمَلَّس، بل خشِنٍ مُضرّس حتى إذا رُمْتَ إخراجَه منه
عَسُر عليك، وإذا خرج خرج مُشوَّه الصورة ناقصَ الحُسن، هذا وإنما يزيدك الطلبُ
فرحاً بالمعنى وأُنْساً به وسروراً بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأمّا إذا
كنتَ معه كالغائص في البحر، يحتمل المشقّة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يُخرج
الخرَزَ، فالأمرُ بالضدّ مما بدأتُ به، ولذلك كان أحقَّ أصناف التعقُّد بالذم ما
يُتعبك، ثم لا يُجدي عليك، ويؤرِّقك ثم لا يُورق لك، وما سبيله سبيلُ البخيل الذي
يدعوه لؤمٌ في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضَعَته في بُخْله، وحِرمان
فضله، حتّى يَأْبَى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرِّض له
باباً ثانياً من الاحتمال تناهياً في سُخفه أو كالذي لا يُؤيسك من خيره في أول
الأمْرِ فتستريحَ إلى اليأس، ولكنه يُطمِعُك ويَسْحَب على المواعيد الكاذبة، حتى
إذا طال العناء وكثر الجهد، تكشَّف عن غير طائل، وحصلتَ منه على نَدَمٍ لتَعبك في
غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسُّفه في اللفظ، وذهابه به في نحوٍ من
التركيب لا يهتَدِي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمَي الإعرابُ في طريقه،
ويَضِلُّ في تعريفه، كقوله: ثَانِيه في
كَبِد السَّمَاء ولم يكن لاثنين ثانٍ إذ
هُما فِي الغَارِ
وقوله: يَدِي لمن شاءَ
رَهْنٌ لَمْ يَذُق جُـرَعـاً مِنْ رَاحتَيْكَ
دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ
ولو كان الجنس الذي يوصف من
المعاني باللطافة ويُعَدّ في وسائط العُقود، لا يُحوِجك إلى الفكر، ولا يحرِّك من
حِرصك على طلبه، بمنعِ جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصل بعد الصدّ، والقرب
بعد البعُد، لكان باقلَّي حارٌ وبيتُ معنًى هو عين القلادة وواسطة العقد واحداً،
ولَسقط تفاضُلُ السامعين في الفهم والتصوّر والتبيين، وكان كلُّ من روى الشعر
عالماً به، وكلُّ من حَفِظه إذا كان يعرف اللغة على الجملة ناقداً في تمييز جيّده
من رديئه، وكان قول من قال: زَوَامِلُ
للأشعارِ لا عِلْمَ عِنْدهُم بجيِّدها إلا
كَعِلْمِ الأبـاعِـرِ
وكقول ابن الرومي:
قلتُ لمن قال لي
عرضتُ على الأخ فَشِ مَا
قُـلـتَـه فَـمَـا حَـمِـدهْ
قَصرَّتَ بالشعر
حين تَـعـرِضُـهُ على مُبينِ
العمَـى إذا انـتَـقَـدَهْ
مَا قَـالَ
شـعـراً ولا رواهُ فــلا ثَعْـلَـبَـهُ
كـان لا ولا أَسَـــدَهْ
فإن يَقُل
إنّنـي رويتُ فـكـالـدَّف ترِ جهلاً
بـكـلّ مـا اعـتَـقَـدهْ
وما أشبه ذلك، دعوَى غير
مسموعةٍ ولا مؤهَّلةٍ للقبول، فإنما أرادوا بقولهم ما كان معناه إلى قلبك أسبقَ من
لفظه إلى سمعك، أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلّ
بالدَّلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غُفْلاً مِثْلَ ما
يتراجعه الصبيانُ ويتكلَّم به العامّة في السوق. هذا وليس إذا كان الكلامُ في غاية
البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوُضوح، أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً،
فإن المعانيَ الشريفة اللطيفةَ لا بُدَّ فيها من بناءِ ثانٍ على أوّل، وردِّ تالٍ
على سابق، أفَلستَ تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبَدْرِ أُفْرطَ فِي
العُلُوِّ" إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصوَّر حقيقة المرادِ منه ووجه المجاز في
كونه دانياً شاسعاً، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرِضُ البيت الثاني عليك
من حَالِ البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتردّ البَصَرَ من هذه إلى تلك،
وتنظر إليه كيف شَرَطَ في العلوِّ والإفراطَ، ليشاكل قوله شاسع، لأن الشُّسُوع هو
الشديد البُعد، ثم قَابَله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جِدُّ
قريب" فهذا هو الذي أردتُ بالحاجة إلى الفكر، وبأنَّ المعنى لا يحصُل لك إلا بعد
انبعاثٍ منك في طلبه، واجتهادٍ في نيله، هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى
إلى الفكر في تحصيله، فهل تشكّ في أن الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بَزَّه لديك، قد
تحمّل فيه المشقّة الشديدة، وقطع إليه الشُّقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دُرِّه حتى
غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابدَ منه الامتناع والاعتياص؛ ومعلومٌ أن الشيء إذا عُلم
أنه لم يُنَل في أصله إلا بعد التَّعب، ولم يُدرَك إلا باحتمال النَّصَب، كان للعلم
بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخْذِ الناس بتفخيمه، ما يكونَ لمباشرة الجهد
فيه، وملاقاةِ الكرب دونه، وإذا عثرتَ بالهُوَيْنَا على كنزٍ من الذهب، لم تُخرجك
سُهولةُ وجوده إلى أن تَنْسَى جملةً أنه الذي كدَّ الطالب، وحمّل المتاعب، حتى إن
لم تكُنْ فيك طبيعةٌ من الجُود تتحكَّم عليك، ومحبّة للثناء تستخرج النفيس من يديك
كان من أقوى حجج الضَّنّ الذي يخامر الإنسان أن تقول: إن لم يكدَّني فقد كدَّ غيري،
كما يقول الوارث للمال المجموع عفواً إذا لِيمَ على بخله به، وفرطِ شُحّه عليه: إن
لم يكنْ كَسْبِي وكدَّي، فهو كَسْب أبي وجدي، ولئن لم ألْقَ فيه عناءً، لقد عانَى
سَلَفِي فيه الشدائد، ولقُوا في جَمْعِهِ الأمَّرين، أفأضيِّع ما ثَمَّرُوه،
وأُفَرِّق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أُنفِقَتِ الأْعمارُ في بنائه، والمُبيد لما
قُصِرت الهمَمُ على إنمائه?، وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من
التسهيل والتقريب، وردّ البعيد إلى المألوف القريب، ما يُعْطي البحتريُّ، ويبلغ في
هذا الباب مبلغه، فإنه لَيروض لك المُهْرَ الأرِنَ رياضةَ الماهر، حتى يُعْنِق من
تحتك إعناقَ القارِح المذلَّل، وينزِعَ من شِمَاس الصعب الجامح، حتى يلين لك لِينَ
المنقاد الطَّيع، ثمَّ لا يمكن ادعاءُ أنَّ جميع شعره في قلّة الحاجة إلى الفكر،
والغِنَى عن فضل النظر، كقوله: فُؤادِي مِنكَ
مـلآنُ وسِرّي فِيك
إعلانُ
وقوله: عَن أيِّ ثَغْرٍ
تَبتَسِمْ
وهل ثَقُل على المتوكل
قصائدُه الجيادُ حتى قلَّ نشاطه لها واعتناؤه بها، إلا لأنَّه لم يفهم معانيها كما
فهم معانيَ النوع النازل الذي انْحَطَّ له إليه? أتُراك تستجيز أن تقول إن
قوله"مُنَى النَّفْسِ في أسماءَ لَوْ يَسْتَطِيعُها" من جنس المعقَّد الذي لا
يُحمَد، وإن هذه الضَّعيفة الأسْر، الواصلة إلى القلوب من غير فكر، أوْلى بالحمد،
وأحقّ بالفضل. هذا والمعقَّد من الشعر والكلام لم يُذَمَّ لأنه مما تقعُ حاجةٌ فيه
إلى الفكر على الجملة، بل لأنّ صاحبه يُعْثِرُ فِكرَك في متصرَّفه، ويُشيكُ طريقك
إلى المعنى، ويُوعِّر مذهبَك نحوه، بل رُبّما قَسَّم فكرَك، وشعَّب ظَنَّك، حتى لا
تدري من أي تتوصّل وكيف تطلب. وأمّا الملخَّص فيفتح لفكرتك الطريقَ لمستوى
ويمهَّده، وإن كان فيه تعاطُفٌ أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكُه
سلوكَ المتبين لوِجهته، وتقطعَهُ قَطْعَ الواثق بالنُّجْح في طِيِّته، فترِدَ
الشريعة زرقاءَ، والروْضة غنّاءَ، وصادفت نهجاً مستقيماً، مذهباً قويماً، وطريقةً
تنقاد، وتبيّنت لها الغاية فيما ترتاد? فقد قيل: قُرَّةُ العين، وسَعَة الصدر،
ورَوْحُ القلب، وطِيب النفس، من أربعة أمور الاستبانة للحجّة، والأُنس بالأحبّة،
والثَّقة بالعُدّة، والمعاينة للغاية، وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في
الفكر والنظر من الفضيلة: وأين تقع لذّةُ البهيمة بالعَلُوفة، ولذّة السَّبُع
بلَطْع الدَّم وأكلِ اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد
إدمان قرعه، وبَعْدُ، فإذا مُدّت الحَلَباتُ لجري الجياد، ونُصِبت الأهداف لتعرف
فضل الرُّماة في الإبعاد والسّدَاد، فرهانُ العقول التي تستَبق، ونِضالها الذي
تمتحِن قواها في تعاطيه، هو الفِكر والروّيةُ والقياس والاستنباط، ولن يبعُد
المَدَى في ذلك، ولا يدقّ المرمَى إلا بما تقدم من تقرير الشَّبه بين الأشياء
المختلفة، فإنّ الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقةَ في النوع، تستغني بثبوت
الشَّبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تعمُّل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبته فيها،
وإنما الصّنعة والحِذْق، والنظرُ يَلْطُف وَيدِقّ، في أن تجمع أعناقُ المتنافرات
والمتباينات في رِبْقة، وتُعقَد بين الأجنبيّات معاقدُ نسَب وشُبْكة، وما شرُفت
صنعةٌ، ولاذُكر بالفضيلة عملٌ، إلا لأنهما يحتاجان من دِقّة الفكر ولُطف النظر
نَفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على مَن زَاوَلَهما والطالب
لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلاّ من جهة إيجاد
الائتلاف في المختلفات، وذلك بَينٌ لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي
تُنسَب إلى الدِقة، فإنك تجدُ الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشدّ
اختلافاً في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤمُ بينها مع ذلك أتمّ، والائتلافُ أبينَ،
كان شأنها أعجبَ، والحذْقُ لمصوّرها أوجبَ، وإذا كان هذا ثابتاً موجوداً، ومعلوماً
معهوداً، من حال الصُوَر المصنوعة والأشكال المؤلَّفة ، فاعلم أنها القضيّة في
التمثيل واعمل عليها، واعتقِد صحّة ما ذكرتُ لك من أنّ أخْذَ الشَبَهِ للشيء مما
يخالفُه في الجنس وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال، حتى يكون هذا شخصاً يملأ المكان،
وذاك معنًى لا يتعدَّى الأفهام والأذهان وحتى إن هذا إنسانٌ يعقِلُ، وذاك جمادٌ أو
مَوَات لا يتّصف بأنه يعلَم أو يجهل وهذا نورُ شمس يبدو في السماء ويطلُع، وذاك
معنى كلامِ يُوعى ويُسمع وهذا روحُ يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمةٌ تؤثَر وتُحمَد،
كما قال: إنَّ المكارم
أرواحٌ يكونُ لهـا آلُ المهلَّب
دُونَ النَّاس أجسادَا
وهذا مقالُ متعصّبٍ مُنكِر
للفضل حَسُودٍ، وذاك نارٌ تلتهب في عُود، وهذا مِخلاف ،وذاك وَرَق خِلاَف، كما قال
ابن الرُّومِيّ: بَذَل الوعدَ
للأخِلاّءِ سَمْحـاً وأبَى بَعْدَ
ذاكَ بَذْلَ العَطَاءِ
فغدَا كالخِلافِ
يُورِقُ للعَي نِ ويأبى
الإثمار كلَّ الإباء
وهذا رجلٌ يروم العدُوُّ
تصغيره والإزراءَ به، فيأبى فضلُه إلاّ ظهوراً، وقدرُه إلا سموّاً، وذاك شهابٌ من
نار تُصوَّبُ وهي تعلو، وتُخْفَض وهي ترتفع، كما قال أيضاً: ثم حَاوَلْتَ
بالمُثَيْقِيلِ تصْغـي ري فما زِدْتني
سِوَى التَّعظيم
كالذي طَأَطَأَ
الشِّهابَ ليخفَـى وهو أدنى لهُ
إلى التَّضْـريم
وأخذ هذا المعنى من كلامٍ في
حِكَم الهند، وهو: إن الرجل ذا المروءة والفضل لَيكُونُ خاملَ المنزلةِ غامضَ
الأمر، فما تبرح به مُروءته وعقلُه حتى يستبين ويُعرَف، كالشعلة من النار التي
يصوِّبها صاحِبُها وتأبَى إلاّ ارتفاعاً. هذا هو الموجب للفضيلة، والداعي إلى
الاستحسان، والشفيع الذي أحْظَى التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغَف والوَلوع
من قلوب العقلاء الراجحين، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للممثَّل، ولم تتصادف
هذه الأشياء المتعادية على حكم المشبّه، إلا لأنه لم يراعِ ما يَحْضُر العَين، ولكن
ما يستحضر العَقْلُ، ولم يُعْنَ بما تنال الرؤية، بل بما تعلَّق الروّية، ولم ينظر
إلى الأشياء من حيث تُوعَى فتحويها الأمكنة بل من حيث تعِيها القلوب الفَطِنة، ثم
على حسَب دِقّة المسلَك إلى ما استُخْرج من الشَّبه، ولُطْفِ المذهب وبُعد
التَّصَعُّد إلى ما حصل من الوِفاق، استحقَّ مُدرِكُ ذلك المدحَ، واستوجب التقديمَ،
واقتضاكَ العَقْلُ أن تنوِّه بذكره، وتقضي بالحُسْنَى في نتائج فكره، نَعَم، وعلى
حسَب المراتِب في ذلك أعطيتَه في بعضٍ منزلةَ الحاذِق الصُّنَع، والمُلهم المؤيَّد،
والألمعي المُحَدَّث، الذي سبق إلى اختراع نوعٍ من الصنعة حتى يصيرَ إماماً، ويكونَ
مَنْ بعدَه تبعاً له وعِيالاً عليه وحتى تُعرَف تلك الصَّنعةُ بالنسبة إليه، فيقال
صنعة فلان، و عمل فلان ووضعتَهُ في بعضٍٍ موضعَ المتعلمَّ الذكيُّ، والمقتدي
المُصيب في اقتدائه، الذي يُحسن التشبُّهَ بمن أخذ عنه، ويُجيد حكاية العمل الذي
استفادَ، ويجتهد أن يزداد. واعلم أني لست أقول لك إنك متى أَلَّفتَ الشيء ببعيد عنه
في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييدٍ وبعد شرطٍ، وهو أن
تصيبَ بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهاً صحيحاً معقولاً، وتجد للمُلاءمة
والتأليف السويّ بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب
تشبيهك، من حيث العقل والحَدْس، في وضوح اختلافهما من حيث العَين والحِسّ، فأمَّا
أن تستكرهَ الوصف وتَرومَ أن تُصوَّره حيث لا يُتَصوّر، فلاَ لأنك تكون في ذلك
بمنزلة الصَّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصَوْغه الشكلَ بين شكلين لا يلائمانه ولا
يقبَلانه، حتى تخرج الصورة مضطربةً، وتجيء فيها نتوّ، ويكون للعين عنها من تفاوتها
نُبوّ، وإنما قيل: شبَّهت، ولا تعني في كونك مشبِّهاً أن تذكر حرف التشبيه أو
تستعير، إنما تكون مشبِّهاً بالحقيقة بأن ترى الشَّبه وتبيَّنه، ولا يمكنك بيانُ ما
لا يكون، وتمثيلُ ما لا تتمثَّله الأوهام والظنون، ولم أُرد بقولي إنّ الحذق في
إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تُحِدث هناك مشابهةً ليس لها
أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خَفِيّة يدقُّ المسلك إليها، فإذا
تغلغل فكرُك فأدركها فقد استحققتَ الفضل، ولذلك يُشَبَّه المدقِّق في المعاني
بالغائص على الدُرّ، ووِزان ذلك أن القِطَع التي يجيء من مجموعها صورة الشَّنْف
والخاتم أو غيرهما من الصور المركبّة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها
تناسُبٌ، أمكنَ ذلك التناسُب أن يلائِم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصَلَ الوصلَ
الخاصَّ، لم يكُنْ ليحصل لك من تأليفها الصورةُ المقصودةُ، ألا ترى أنّك لو جئت
بأجزاء مخالفةٍ لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك
الأُولَى، طلبتَ ما يستحيل? فإنما استحققت الأُجرة على الغَوْص وإخراج الدُّر، لا
أن الدُرّ كان بك، واكتَسَى شرفَه من جهتك، ولكن لمّا كان الوُصول إليه صعباً
وطلبُه عسيراً، ثم رُزقت ذلك، وَجَبَ أن يُجْزَل لك، ويُكبَّر صنيعُك، ألا ترى أن
التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لَطُفَ وحسُن، لم يكن ذلك
اللُّطف وذلك الحُسن إلا لاتفاقٍ كان ثابتاً بين المشَّبه والمشبَّه به من الجهة
التي بها شَبَّهتَ، إلاّ أنه كان خفياً لا ينجلي إلا بعد التأنُّق في استحضار الصور
وتذكُّرها، وعرض بعضها على بعض، والتقاطِ النُّكتة المقصودة منها، وتجريدِها من
سائر ما يتّصل بها، نحو أن تُشَبّه الشيءَ بالشيء في هيئة الحركة، فتطلب الوفاق بين
الهيئة والهيئة مجرّدةً من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف? كما فعل
ابن المعتز في تشبيه البَرْق حيث قال:يث قال: وكأنَّ البَرْقَ
مُصَحَفُ قَار فَانطِباقاً
مَرّةً وانفِتَاحَـا
لم ينظر من جميع أوصاف البرق
ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساطٍ يعقبه انقِباضٌ، وانتشارٍ
يتلوه انضمامٌ، ثم فَلَى نفسَه عن هيئات الحركات لينظر أيُّها أشبه بها، فأصاب ذلك
فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويُطبقه أُخرى،
ولم يكن إعجابُ هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدَّ
الاختلاف فقط، بل لأنّ حَصلَ بإزاء الاختلاف اتفاقٌ كأحسن ما يكون وأتمَّه، فبمجموع
الأمرين شدّة ائتلافِ في شدّة اختلاف حلا وحسُن، ورَاقَ وفَتَن، ويدخل في هذا الوضع
الحكاية المعروفة في حديث عَدِيّ بن الرِّقاع، قال جرير أنشدني عدي: "عَرَف الديارَ
تَوَهُّمَاً فاعتادَهَا". فلّما بلغ إلى قوله "تُزْجِي أَغَنَّ كَأنَّ إبْرَةَ
رَوْقِهِ". رحِمتُه وقلتُ قد وقع ما عساه يقول وهو أعرابيٌّ جِلْفٌ جافٍ? فلما قال:
"قَلَمٌ أَصَابَ من الدَّوَاة مِدَادَها" استحالت الرَّحمة حسداً فهل كانت الرحمة
في الأولى، والحسد في الثانية، إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضرُ
له في أوّل الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محلّ الظنّ شبَهٌ، وحين أتمَّ
التشبيه وأدَّاه صادفه قد ظِفَر بأقرب صفةٍ من أبعد موصوف، وعثر على خبيءٍ مكانُه
غيرُ معروفٍ، وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كفّ البخيل:
كفَاك لم
تُخْلَقَا للـنَّـدَى ولم يَكُ
بُخْلُهما بِـدْعَـهْ
فكفٌّ عن الخير
مقبوضةٌ كما نُقضت مِئةٌ
سَبْعـهْ
وكفٌّ ثـلاثةُ
آلافـهـا وتِسْعُ مِئيها
لها شِرْعَـهْ
وذلك أنه أراك شكلاً واحداً
في اليدين، مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضاً، لأن أحدهما من
مرتبة العشرات والآحاد، والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حَصَل الاتفاق كأشدَّ
ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف، كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد، كان
التشبيه بديعاً، قال المرزباني وهذا ما أبدع فيه الخليل، لأنه وصف انقباض اليدين
بحالين من الحساب مُختلفين في العدد، متشاكلين في الصورة، وقوله هذا إجمالُ ما
فصّلتُه، ومما ينظُرُ إلى هذا الفصل ويُداخِله ويرجع إليه حين تحصيله، الجنْسُ الذي
يُرَاد فيه كونُ الشيء من الأفعال سبباً لضدّه، كقولنا أحسن من حيث قَصَدَ الإساءة
ونفع من حيث أراد الضُّرَّ، إذْ لم يقنع المتشاغِلُ بالعبارة الظاهرة والطريقة
المعروفة، وصَوَّرَ في نفس الإساءة الإحسانَ، وفي البخلِ الجودَ، وفي المنع
العطاءَ، وفي موجب الذمّ موجِبَ الحمد، وفي الحالة التي حقُّها أن تُعَدَّ على
الرجل حُكْمَ ما يُعتدّ له، والفعلِ الذي هو بصفة ما يُعاب ويُنكر، صفةَ ما
يَقْبَلُ المنّة ويُشكَر، فيدُلُّ ذلك بما يكون فيه من الوِفاقِ الحسن مع الخِلاف
البيِّن، على حِذق شاعره، وعلى جُودة طبعه وحِدّة خاطره، وعلوّ مصعَده وبُعْد غوصه،
إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيقُ في تلخيص الدلالة، وكَشَفَ تمام
الكشف عن سُرر المعنى وسِرِّه بحسن البيان وسِحْره، مثالُ ما كان من الشعر بهذه
الصِّفة قولُ أبي العتاهية: جُزَيَ البخيلُ
عليَّ صالـحةً عنّي بخِفَّته
على ظَهْـرِي
أُعلِي وأُكْرِم
عـن يديه يدي فَعَلَتْ
ونَزَّهَ قـدرُهُ قَـدْرِي
ورُزقتُ من
جَدْواهُ عافـيةً أن لا يضيق
بشُكْرِه صَدْرِي
وغَنِيتُ
خِلْواً من تفضُّـلِـه أَحْنُو عليه
بأحْسَن الـعُـذْرِ
مَا فاتني
خَيْرُ امرئٍ وَضَعتْ عنّي يَداه
مَؤُونةَ الشُّـكْـرِ
ومن اللطيف مما يُشبه هذا قول
الآخر: أعتَقَنِي سُوءُ
ما صنعتَ من ال رِقِّ فيا
بَرْدَهَا على كَـبِـدِي
فَصِرتُ عبداً
للسُّوءِ فيك ومـا أحسنَ سُوءٌ
قبلي إلـى أَحَـدِ
- ebrehim كتب:
- واعلم أنّ مما اتفق العقلاءُ
عليه، أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه،
ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع
من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب
إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع على أن
تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ
وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمْتَدَح، وأوجب
شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى
بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع،
ووقعُه أشده، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر،
وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه
أَلَدّ، وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم
أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع
أَبْعث، وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه
والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي
الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ
وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى
في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري:
دانِ على أيدي
العُفاةِ وشَاسِـعٌعن كل نِدٍّ في
النَّدَى وَضَرِيبِ
كالبدرِ أفرط في
العلوِّ وضَوْءُهلِلْعُصْبة
السَّارينَ جِدُّ قَـريبِ
وفكِّر في حالك وحالِ المعنى
معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله
له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد
وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما
في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك،
وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن
تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا
الآية، وتُنشد نحو قول الشاعر:
[center]زَوَامِلُ
ل