وبين هذا الجنس وبين نحو
الرّيح تحسدني، فرقٌ، وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح، وهو ردُّ
الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك،
وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها صارت إلى العين من غيرها،
وليست هي التي من شأنها أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ، وأما
هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ، والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه. وممّا
يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط، من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما
تراه من تأوُّلهم في الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض، ولكنها فِطَنٌ ثاقبة
وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات، كقوله: وحُوشِيتَ أن
تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ ألاَ إنَّها تلك
العُزُوم الثَّـواقـبُ
وقال ابن بابك:
فترتَ وما وجدتَ
أبا العلاءِ سِوَى فَرْط
التوقُّد والذَّكاءِ
ولكشاجم، يقوله في علي بن
سليمان الأخفش: ولقد أخطـأَ
قـومٌ زعـمـوا أنها من فَضْل
بَرْدٍ في العَصَبْ
هُو ذَاكَ
الذِّهـن أذكـى نَـارَه وَالمِزَاجُ
المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ
ولا يكون قول المتنبي:
وَمَنازلُ
الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا مَا عُذْرُها في
تَرْكها خَيراتِها
أعجبتَها
شَرَفاً فَطَال وُقُوفُهـا لتأَمُّلِ
الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِـهـا
من هذا في شيء، بأكثر من أن
كلا القولين في ذكر الحُمَّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس،
فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح
حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع
جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة
من النفوس مقصورة عليه? فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى
عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله: أيَدْري مَـا
أَرابَـك مَـن يُريبُ وَهلْ تَرْقَى
إلى الفَلك الخطوبُ
وجسمُك فَوْق
هِـمَّةِ كُـلِّ داءٍ فقُرْبُ أقلِّها
مـنـه عـجـيبُ
إلا أن ذلك الإيهام أحسن من
هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة
تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ:
صدَّت شُرَيْرُ
وأزمعت هَجْرِي وَصَغَت
ضَمائرُها إلى الغَدْرِ
قالت كَبِرتَ
وشِبتَ قلتُ لهـا هذا غُبارُ
وَقَـائعِ الـدَّهْـرِ
ألا تراه أنكر أن يكون الذي
بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة،
ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه
الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول
البحتري: وبياضُ البازيّ. وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر
الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة، ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان
وَجْهه وظهر، كقول الطائي الكبير: ولا يُرَوِّعْك
إيماضُ القَتِير به فَإنَّ ذاك
ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ
وينبغي أن تعلمَ أنّ باب
التشبيهات قد حظِي من هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته،
ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف، فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ
لمعروفَ في طِباع الغَزِل، ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد
الوَحشة، وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل لِسَانه في
الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر، فمن ذلك قول ابن الرومي:
خجِلتْ خدودُ
الورد من تفضيله خَجَلاً
تورُّدُها علـيه شـاهـدُ
لم يَخْجَلِ
الوردُ المورَّدُ لـونُـه إلاَّ وناحِلهُ
الفضـيلةَ عـانـدُ
للنرجس الفضلُ
المُبينُ وإن أبَى آبٍ وحادَ عن
الطـريقة حـائدُ
فصْلُ القضـية
أنّ هـذا قـائدٌ زَهَرَ الرياضِ
وأَنّ هذا طاردُ
شتَّانَ بين
اثنين هـذا مُـوعِـدُ بتَسلُّبِ
الـدُّنـيا وهَـذَا واعـدُ
يَنْهَى النديمَ
عن القبيح بلحظِـه وَعَلَى
المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ
اطلبْ بِعَفْوك
في الملاح سَمِيَّه أبداً فإنك لا
مَـحَـالة واجـدُ
والوَرْدُ إن
فكّرتَ فردٌ في اسمه ما في الملاح له
سمِيُّ واحـدُ
هذي النجومُ هي
التي رَبَّتْهُمـا بِحَيا السحابِ
كما يُربِّي الوالـدُ
فانظر إلى
الأخَوَين مَن أدناهما شَبَهاً بوالده
فذاك الـمـاجـدُ
أين الخدودُ من
العيون نَـفَـاسةً ورِئاسةً لولا
القياسُ الفـاسـدُ
وحَارَبَني فيه
رَيْبُ الزَّمانِ كأنَّ الزَّمانَ
لهُ عاشـقُ
إلاَّ أنه لم يضع عِلّة
ومعلولاً من طريق النصّ على شيء، بل أثبت محاربةً من الزمان في معنى الحبيب، ثم جعل
دليلاً على عِلَّتها جوازَ أن يكون شريكاً له في عشقه، وإذا حقَّقْنا لم يجب لأجل
أن جَعَلَ العِشقِ عِلَّة للمحاربة، وجَمَع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوةِ
لَهُما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل. وذاك أن الكلام في وضع الشاعر
للأمر الواجب علّةً غيرَ معقولٍ كونُها علّةً لذلك الأمر، وكونُ العشق علّةً
للمعاداة في المحبوب معقولٌ معروف غير بِدْعٍ ولا مُنكَر، فإذا بدأ فادّعى أن
الزمان يعاديه ويحاربه فيه، فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردَّت
الريح الرِّداء، فقد وَجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد أو لغيرها، لأن ردَّ الرداء
شأنُها، فاعرفه، فإن مِنْ شَأن حكم المُحصِّل أن لا ينظر في تلاقي المعاني
وتناظُرها إلى جُمَل الأمور، وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّقَ النظر في
ذلك، ويراعَى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل، فأنت في نحو بيت ابن وُهيب تدّعى
صفةً غير ثابتة، وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العِلّة التي ذكرها، وفي نحو بيت الريح،
تذكر صفةً غير ثابتة حاصلةً على الحقيقة، ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعاً
واختراعاً، فافهمه، وهكذا قول المتنبي: مَلامِي
النَّوَى في ظُلْمها غايةُ الظُّلْمِ لعلَّ بها
مِثْلَ الَّذِي بِي مِن السُّقـمِ
فَلَوْ لم
تَغَرْ لم تَزْوِ عَنِّي لِقـاءَكُـم ولو لم
تُرِدْكُمْ لم تكنْ فِيكُمُ خَصْمِي
الدعوى في إثبات الخصومة،
وجَعْلِ النَّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديثُ الغَيرةِ والمشاركةِ
في هوى الحبيب، يثبُتُ بثبوت ذلك من غير أن يفتقر مِنك إلى وَضْعٍ واختراع. ومما
يلحق بالفنّ الذي بدأتُ به قولُه: بِنَفسِيَ ما
يشكوهُ مَن راح طَرْفُهُ ونَرْجِسُهُ
مِمّا دَهَى حُسنَه وَردُ
أراقَتّْ دَمِي
عَمْداً مَحاسنُ وجهه فأضْحَى وفي
عَيْنَيه آثارُه تَبْدُو
لأنه قد أتى لحمرة العين وهي
عارض يَعْرِض لها من حيث هي عينٌ بعلّةٍ يعلم أنها مخترعَة موضوعة، فليس ثمَّ إراقة
دم، وأصْل هذا قول ابن المعتز: قَالُوا اشتكتْ
عَيْنُه فقُلْتُ لَهُـم مِن كَثْرةِ
القَتْل نَالَها الوَصَبُ
حُمْرتُها مِن
دِماءِ مَن قتلَـتْ والدَّمُ في
النَّصْل شاهدٌ عَجَبُ
وبين هذا الجنس وبين نحو
الرّيح تحسدني، فرقٌ، وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح، وهو ردُّ
الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك،
وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها صارت إلى العين من غيرها،
وليست هي التي من شأنها أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ، وأما
هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ، والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه. وممّا
يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط، من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما
تراه من تأوُّلهم في الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض، ولكنها فِطَنٌ ثاقبة
وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات، كقوله: وحُوشِيتَ أن
تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ ألاَ إنَّها تلك
العُزُوم الثَّـواقـبُ
وقال ابن بابك:
فترتَ وما وجدتَ
أبا العلاءِ سِوَى فَرْط
التوقُّد والذَّكاءِ
ولكشاجم، يقوله في علي بن
سليمان الأخفش: ولقد أخطـأَ
قـومٌ زعـمـوا أنها من فَضْل
بَرْدٍ في العَصَبْ
هُو ذَاكَ
الذِّهـن أذكـى نَـارَه وَالمِزَاجُ
المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ
ولا يكون قول المتنبي:
وَمَنازلُ
الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا مَا عُذْرُها في
تَرْكها خَيراتِها
أعجبتَها
شَرَفاً فَطَال وُقُوفُهـا لتأَمُّلِ
الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِـهـا
من هذا في شيء، بأكثر من أن
كلا القولين في ذكر الحُمَّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس،
فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح
حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع
جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة
من النفوس مقصورة عليه? فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى
عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله: أيَدْري مَـا
أَرابَـك مَـن يُريبُ وَهلْ تَرْقَى
إلى الفَلك الخطوبُ
وجسمُك فَوْق
هِـمَّةِ كُـلِّ داءٍ فقُرْبُ أقلِّها
مـنـه عـجـيبُ
إلا أن ذلك الإيهام أحسن من
هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة
تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ:
صدَّت شُرَيْرُ
وأزمعت هَجْرِي وَصَغَت
ضَمائرُها إلى الغَدْرِ
قالت كَبِرتَ
وشِبتَ قلتُ لهـا هذا غُبارُ
وَقَـائعِ الـدَّهْـرِ
ألا تراه أنكر أن يكون الذي
بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة،
ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه
الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول
البحتري: وبياضُ البازيّ. وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر
الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة، ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان
وَجْهه وظهر، كقول الطائي الكبير: ولا يُرَوِّعْك
إيماضُ القَتِير به فَإنَّ ذاك
ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ
وينبغي أن تعلمَ أنّ باب
التشبيهات قد حظِي من هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته،
ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف، فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ
لمعروفَ في طِباع الغَزِل، ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد
الوَحشة، وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل لِسَانه في
الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر، فمن ذلك قول ابن الرومي:
خجِلتْ خدودُ
الورد من تفضيله خَجَلاً
تورُّدُها علـيه شـاهـدُ
لم يَخْجَلِ
الوردُ المورَّدُ لـونُـه إلاَّ وناحِلهُ
الفضـيلةَ عـانـدُ
للنرجس الفضلُ
المُبينُ وإن أبَى آبٍ وحادَ عن
الطـريقة حـائدُ
فصْلُ القضـية
أنّ هـذا قـائدٌ زَهَرَ الرياضِ
وأَنّ هذا طاردُ
شتَّانَ بين
اثنين هـذا مُـوعِـدُ بتَسلُّبِ
الـدُّنـيا وهَـذَا واعـدُ
يَنْهَى النديمَ
عن القبيح بلحظِـه وَعَلَى
المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ
اطلبْ بِعَفْوك
في الملاح سَمِيَّه أبداً فإنك لا
مَـحَـالة واجـدُ
والوَرْدُ إن
فكّرتَ فردٌ في اسمه ما في الملاح له
سمِيُّ واحـدُ
هذي النجومُ هي
التي رَبَّتْهُمـا بِحَيا السحابِ
كما يُربِّي الوالـدُ
فانظر إلى
الأخَوَين مَن أدناهما شَبَهاً بوالده
فذاك الـمـاجـدُ
أين الخدودُ من
العيون نَـفَـاسةً ورِئاسةً لولا
القياسُ الفـاسـدُ
وترتيب الصنعة في هذه القطعة،
أنه عمل أوَّلاً على قلب طرفَي التشبيه، كما مضى في فصل التشبيهات، فشبّه حُمرةَ
الورد بحمرة الخجل، ثم تناسَى ذلك وخَدعَ عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خَجَلٌ
على الحقيقة، ثم لما اطمأنَّ ذلك في قلبه واستحكمت صورته، طَلَبَ لذلك الخجل
عِلّةً، فجعل عِلَّته أنْ فُضِّل على النرجس، ووُضِع في منزلةٍ ليس يرى نفسَهُ
أهْلاً لها، فصار يتَشوَّر من ذلك، ويتخوّف عيبَ العائب، وغميزةَ المستهزئ، ويجدُ
ما يجد مَنْ مُدِح مِدْحةً يَظْهر الكذب فيها ويُفْرِط، حتى تصير كالهُزء بمن قُصِد
بها، ثم زادته الفِطْنة الثاقبةُوالطبع المُثْمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع
حِجاج في شأن النرجس، وجهةِ استحقاقه الفضلَ على الورد، فجاء بحُسنٍ وإحسانٍ لا
تكاد تجد مثله إلاّ له. ومما هو خليقٌ أن يوضع في منزلة هذه القطع، ويلحق بها في
لطف الصنعة، قول أبي هِلالٍ العسكري: زَعَم
البَنَفْسَجُ أنَّـه كـعِـذَارهِ حُسْناً
فسَلُّوا مِن قَفَاه لسـانَـهُ
لَم يَظْلِمُوا
في الحكم إذْ مَثَلوا به فلشَدَّمَا رفع
البَنَفْسَجُ شَـانَـهُ
وقد اتفق للمتأخرين من
المحْدَثين في هذا الفن نُكَتٌ ولطائف، وبِدَعٌ وظرائف، لا يُستكثر لها الكثير من
الثّناء، ولا يضيق مكانُها من الفَضْل عن سَعَة الإطراء، فمن ذلك قول ابن نباتة في
صفة الفرس: وأدهمُ يستمدُّ
الـلـيلُ مـنـه وتَطلُع بين
عَينَـيه الـثُّـريَّا
سَرَى خَلْفَ
الصَّباحِ يطير مَشْياً ويَطْوِي
خَلْفَه الأفـلاكَ طَـيّاً
فلَمّا خاف
وَشْكَ الفَوْتِ مـنـه تَشَبَّثَ
بالقـوائم والـمُـحَـيَّا
وأحسن من هذا وأحكم صنعةً
قولُه في قطعة أخرى: فكأنما لَطَمَ
الصباحُ جـبـينَـهُ فاقتصَّ منه
وخَاضَ في أَحشائهِ
وأول القطعة:
د جَاءَنا
الطِّرْفُ الذي أهْـدَيْتَـهُ هَادِيه يَعْقِد
أرضَه بـسـمـائهِ
َوِلايةً
وَلَّيتَـنـا فـبَـعَـثْـتَـهُ رُمحاً سَبيبُ
العُرفِ عَقْدُ لِوائِه
ختال منه على
أَغَرَّ محـجَّـلٍ ماءُ الدَّياجي
قطرةٌ مـن مـائهِ
كأنما لَطَمَ
الصَّبـاحُ جـبـينَـهُ فاقتصَّ منه
وخَاضَ في أحشائِه
تمهِّلاً
والبرقُ مـن أسـمـائه مُتبرقعاً
والحُسْنُ من أكـفـائِه
مَا كانت
النِّيران يَكْمُنُ حَـرُّهـا لَوْ كان
للنِّيران بعـضُ ذَكـائِه
لا تَعْلَقُ
الألحاظُ في أَعطـافِـه إلاَّ إذا
كفكفتَ مـن غُـلَـوائهِ
لاَ يُكمِلُ
الطرْفُ المحاسنَ كُلَّها حَتَّى يكونَ
الطَّرْفُ من أُسَرائِه
ومما له في التفضيلِ الفَضْلُ
الظاهرُ لحسن الإبداع، مع السلامة من التكلُّف، قوله: وماءٍ عَلى
الرَّضْرَاض يَجْري كأنَّهُ صحائفُ تِبْرٍ
قد سُبِكْـنَ جـداولاَ
كأنّ بها من شدة
الـجَـرْيِ جِـنَّةً وقَدْ
ألبستهُنَّ الـرِّياحُ سَـلاَسـلاَ
وإنما ساعده التوفيقُ، من حيث
وُطّئ له من قبلُ الطريقُ، فسبق العُرْفُ بتشبيه الحُبُك على صفحات الغُدْران بحلَق
الدروع، فتدرَّج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل، كما فعل ابن المعتزّ في قوله:
وأنهارِ ماءٍ
كالسلاسل فُجـرّت لتُرضِع أولادَ
الرياحين والزَهْرِ
ثم أتمّ الحِذْق بأن جعل
للماء صفة تَقْتَضي أن يُسَلْسَل، وقَرُبَ مأخذُ ما حاول عليه، فإن شدة الحركة وفرط
سرعتها من صفات الجنون، كما أن التمهُّل فيها والتأنّي من أوصاف العقل، ومن هذا
الجنس قولُ ابن المعتزّ في السيف، في أبيات قالها في الموفَّق، وهي:
وفَارسٍ
أَغْمَدَ فـي جُـنّةٍ تُقطّع السيفَ
إذا ما وَرَدْ
كأنها ماءٌ
علـيه جَـرَى حتى إذا ما غاب
فِيهِ جَمَدْ
في كفّهِ عَضْبٌ
إذا هـزَّهُ حسِبتَهُ من
خَوْفِه يَرْتَعِـد
فقد أراد أن يخترع لهزّةِ
السيف عِلّةً، فجعلها رِعْدَة تناله من خوف الممدوح وهَيْبَته، ويُشبه أن يكون ابن
بابك نظر إلى هذا البيت وعلَّق منه الرعدة في قوله: فإن عَجَمَتْني
نيُوبُ الخطـوبِ وأَوْهَى
الزمانُ قُوَى مُنَّتِـي
فَمَا اضطرب
السيفُ من خِيفةٍ ولا أُرعِدَ
الرمحُ مـن قِـرَّةِ
إلا أنه ذهب بها في أسلوب
آخر، وقصد إلى أن يقول إنّ كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد، لا يوجبُ أن يكون
ذلك من آفة وعارض، وكأنه عكس القضيّة فأبَى أن تكون صفة المرتعد في الرمح للعلل
التي لمثلها تكون في الحيوان. وأمَّا ابن المعتزّ فحقّق كونها في السيف على حقيقة
العلّةِ التي لها تكون في الحيوان فاعرفه. وقد أعاد هذا الارتعادَ على الجملة التي
وصفتُ لك، فقال: قالُوا طواهُ
حُزنُهُ فـانـحـنَـى فقلتُ والشـكُّ
عـدُوُّ الـيقـين
ما هَيَفُ
النَّرجِس مـن صَـبْـوَةٍ ولا الضَنَى في
صُفرة الياسمينْ
ولا ارتعادُ
السَّـيفِ مـن قِـرَّةٍ ولا انعطافُ
الرمح من فَرْطِ لينْ
ومما حقُّه أن يكون طرازاً في
هذا النوع قولُ البحتري: يَتَعثَّرْنَ في
النُّحور وفي الأَوْ جُهِ سُكْراً
لمَّا شَربْنَ الدمَّاءَ
جعل فِعلَ الطاعنِ بالرماح
تعثُّراً منها، كما جعل ابن المعتزّ تحريكه للسيف وهزَّه له ارتعاداً، ثم طلب
للتعثُّر عِلَّة، كما طلب هو للارتعاد فاعرفه. ومن هذا الباب قول عُلبة:
وكأن السَّماءَ
صَاهَرَت الأَرْ ضَ فصَار
النِّثارُ من كافورِ
وقول أبي تمام:
كأنّ السحاب
الغُرّ غَيَّبن تَحْتَها حَبِيباً فما
تَرْقَا لهنّ مَدَامِـعُ
وقول السريّ يصف الهلال:
جاءَك شَهْرُ
السُّرُورِ شوّالُ وغال شَهْر
الصِّيامِ مغتالُ
ثم قال:
كأنـه قَـيْدُ
فِـضّةٍ حَـرِجٌ فُضَّ عن
الصائمين فاخْتالوا
كل واحد من هؤلاء قد خدع نفسه
عن التشبيه وغالطها، وأَوْهَمَ أن الذي جرى العُرْف بأن يؤخذ منه الشَّبه قد حضر
وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى حُصوله حتى نصب له عِلَّة، وأقام
عليه شاهداً، فأثبت عُلبة زفافاً بين السماء والأرض، وجعل أبو تمام للسحاب حبيباً
قد غُيّب في التراب، وادَّعى السريُّ أن الصائمين كانوا في قَيْدٍ، وأنه كان
حَرِجاً، فلما فَضَّ عنهم انكسر بنصفين، أو اتسع فصار على شكل الهلال، والفرق بين
بيت السريّ وبيتي الطائييَّن، أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامّيٌّ جارٍ على
الألْسُن، وجعلُ القَطْرِ الذي ينزل من السحاب دموعاً، ووَصْفُ السحابِ والسماءِ
بأنها تبكي، كذلك، فأمّا تشبيه الهلال بالقَيْدِ فغير معتاد نفسه إلاّ أنَّ نظيرَه
معتاد، ومعناه من حيث الصورة موجود، وأعني بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال
بالسِّوار المنفصم، كما قال: حاكياً نِصفَ
سِوارٍ مِنْ نُضارٍ
يتوقَّـدْ
وكما قال السري نفسه:
ولاح لنا الهلال
كشطر طَوْقٍ على لَبَّاتِ
زَرقاءِ اللـبـاسِ
إلا أنه سَاذَجٌ لا تعليل فيه
يجب من أجله أن يَكُون سِوَاراً أو طَوْقاً، فاعرفه، ورَأيت بعضهم ذكر بَيْت السريّ
الذي هو: "كَأنَّه قَيْد فِضَّة حَرَجٌ" مع أبيات شعر جمعه إليها، أنشدَ قطعةَ ابن
الحجاج: يا صَاحِبَ
البَيْتِ الَّـذِي قد مَاتَ
ضَيْفاه جمِيعَا
مَالِي أَرى
فَلَكَ الرَّغي فِ لدَيك
مُشْتَرِفاً رَفِيعَا
كالبدرِ لا
نرجـو إلـى وَقْت المَسَاءِ
له طُلوعَا
ثم قال إنّه شبَّه الرغيف
بالبدر، لعِلَّتين إحداهما الاستدارة، والثانيةُ طلوعه مَساءً، قال وخيرُ التشبيه
ما جمع مَعْنيين، كقول ابن الرمي: يا شبيه البدْر
في الحُس نِ وفي بُعد
المَـنَـالِ
جُدْ فقد
تنفجِرُ الـصَّ خرةُ
بالمـاءِ الـزُّلالِ
وأنشد أيضاً لإبراهيم بن
المهدي: ورحمتَ أطفالاً
كأفْراخ القَطَا وحنينَ وَالِهةٍ
كقَوْسِ النَّـازِعِ
ثم قال ومثله قولُ السَّري:
"كأنه قَيْدُ فِضَّةٍ حَرَجٌ" وهو لا يشبه ما ذكره، إلا أنْ يَذهبَ إلى حديثِ أنه
أفاد شكلَ الهلال بالقيد المفضوض، ولونَه بالفضة، فأمَّا إن قصد النكتة التي هي
موضع الإغراب، فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد، لأن شيئاً من تلك الأبيات لا
يتضمَّنُ تعليلاً، وليس فيها أكثر من ضمّ شَبَهٍ إلى شبه، كالحنين والانحناء من
القوس، والاستدارة والطلوع مساءً من البَدْر، وليس أحد المعنيين بِعِلّة للآخر،
كيف? ولا حاجة بواحد من الشبهين المذكورين إلى تصحيحِ غيره له. ومما هو نظيرٌ لبيت
السريّ وعلى طريقة قول ابن المعتزّ: سَقَاني وقد
سُلَّ سَيفُ الصبـا حِ والليلُ من
خَوْفه قَدْ هَرَبْ
لم يقنع هاهنا بالتشبيه
الظَّاهر والقولِ المرسَل، كما اقتصر في قوله: حتى بدا الصباحُ
من نقابِ كما بدا
المُنْصلُ من قِرابِ
وقوله:
أمّا الظلامُ
فحِينَ رَقَّ قَـمِـيصُـهُ وأَتى بياضُ
الصُّبْح كالسَّيف الصَّدي
ولكنه أحبّ أن يحقّق دعواه
أنّ هناك سيفاً مسلولاً، ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن هاهنا تشبيهاً، وأنّ القصد
إلى لونِ البياضِ في الشكل المستطيل، فتوصَّلَ إلى ذلك بأَن جعل الظَّلام كالعدوّ
المنهزم الذي سُلّ السَّيف في قَفَاه، فهو يهرب مخافَة أن يُضْرب به، ومثل هذا في
أن جعل الليلَ يخافُ الصبحَ، لا في الصنعة التي أنا في سياقها، قولُه:
سَبقنا إليهَا
الصُّبْحَ وهو مُقـنَّـعٌ كَمِينٌ وقلبُ
اللَّيلِ منه على حَذَرْ
وقد أخذ الخالديُّ بيته
الأوّل أخْذاً، فقال: والصُّبحُ قد
جُرِّدت صَوارِمُه والليلُ قد همَّ
منه بالهَـربِ
وهذه قطعة لابن المعتزّ، بيتٌ
منها هو المقصود: وانظُر إلى
دُنْيَا ربِيعٍ أقـبـلـتْ مِثْلَ البَغيِّ
تبـرَّجـتْ لـزُنـاةِ
جاءَتـك زائرةٌ
كـعـــامٍ أوّلٍ وتَلبَّستْ
وتعطَّـرَتْ بـنـبـاتِ
وَإذا تَعرَّى
الصُبحُ من كـافـورِهِ نَطَقتْ صُنوفُ
طُيورِها بِلُغـاتِ
والوَرْدُ يضحكُ
من نَواظر نَرْجسٍ قَذِيَت وآذنَ
حَيُّهـا بـمَـمَـاتِ
هذا البيت الأخير هو المراد،
وذلك أن الضَحِك في الوَرْد وكلِّ ريحان ونُوْرٍ يَتَفَتَّح، مشهور معروف، وقد
علَّله في هذا البيت، وجعل الوَرْد كأنه يعقل ويميّز، فهو يَشْمَت بالنرجس لانقضاء
مُدّته وإدبار دَوْلته، وبُدُوِّ أمارات الفناء فيه، وأعاد هذا الضحك من الورد
فقال: ضَحِكَ الوَرْدُ
في قَفَا المَنْثُورِ واسْتَرحْنَا من
رِعْدَةِ المَقرُورِ
أراد إقبال الصيف وحَرّ
الهواء، ألا تراه قال بعده: وَاستَطَبْنا
المَقِيلَ في بَرْد ظِلّ وَشَمِمْنَا
الرَّيحانَ بالكـافـورِ
فالرحيلَ
الرحيلَ يا عَسْكرَ الل ذّاتِ عن كُلِّ
رَوْضةٍ وغَدِيرِ
فهذا من شأنِ الورد الذي
عابَه به ابن الرومي في قوله: فَصْل القضية أن
هـذا قـائد زَهَرَ الرياضِ
وأن هذا طاردُ
وقد جعله ابن المعتز لهذا
الطَّرْدِ ضاحكاً ضحكَ مَن استولى وظفر وابتَزَّ غيرَه على وِلاية الزَّمان
واستبدَّ بها، ومما يشوب الضحِكَ فيه شيءٌ من التَّعليل قوله أيضاً:
مَات الهَوى
مِنّي وضاع شَبَابـي وقَضَيْتُ من
لَـذَّاتـه آرَابـي
وإذا أردتُ
تَصَابياً في مجلـسٍ فالشَّيْبُ
يضحَك بِي مَع الأَحبابِ
لا شكّ أن لهذا الضحك زيادةَ
معنًى ليست للضحك في نحو قول دعبل: "ضَحِكَ المَشِيبُ بِرَأْسِه فبَكَى" وما تلك
الزيادة إلا أنه جعل المشيبَ يضحك ضَحِكَ المتعجِّبِ من تعاطي الرجل ما لا يليق به،
وتكلُّفه الشيءَ ليس هو من أهله، وفي ذلك ما ذكرتُ من إخفاءِ صُورة التشبيه،
وأَخْذِ النفس بتناسيه، وهكذا قوله: لَمَّا رأونا في
خَمِـيسٍ يلـتـهـبْ في شَارِقٍ
يَضْحَك مِنْ غَيرِ عجبْ
كَأنَّهُ صَبَّ
علـى الأرض ذَهـبْ وقد بَدَت
أسيافُنا مـن الـقُـرُبْ
حَتىَّ تكونَ
لِمـنـاياهُـمْ سَـبَـبْ نرفُلُ في
الحَدِيد والأرضُ تجِـبْ
وحَنَّ شَريانٌ
ونَبْعٌ فاصطَخبْ تَتَرَّسُوا
مِنَ القتالِ بالهَـرَبْ
المقصودُ قولُه يضحك من غير
عَجَبْ، وذاك أنّ نفيه العلّة إشارةٌ إلى أنه من جنس ما يُعلَّل، وأنّه ضَحِكٌ
قَطْعاً وحقيقةً، ألا ترى أنّك لو رحبتَ إلى صريح التشبيه فقلت هيئتُه في تلألؤه
كهيئة الضاحك، ثم قلت من غير عجب، قلت قولاً غير مَقْبُولٍ، واعلم أنك إن عددتَ
قولَ بعض العرب: ونَثْرَةٍ تهزأُ
بالنِّصـالِ كأنّها من خِلَع
الهلالِ
الهِلال الحيّة هاهنا، واللام
للجنس في هذا القبيل، لم يكن لك ذلك.