ebrehim مدير
عدد المساهمات : 2239 تاريخ التسجيل : 19/10/2011
| موضوع: هذا نوع آخر في التعليل الثلاثاء 12 يونيو 2012, 18:37 | |
| وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعلِ من الأفعال علّةٌ مشهورة من طريق العادات والطباع، ثم يجيءُ الشاعر فيمنع أن تكون لتلك المعروفة، ويضع له عِلَّةً أخرى، مثاله قول المتنبي:
مَا بِه قتلُ أعـاديه ولـكـن يتّقي إخلافَ ما تَرْجُو الذئابُ الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكَهم، وأن يدفع مضارَّهم عن نفسه، وليسلَم مُلكه ويصفُوَ من منازَعاتهم، وقد ادَّعى المتنبي كما ترى أن العِلةَ في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك. واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف هذه العِلّة المدَّعاةِ فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذمّ، كقصد المتنبي هاهنا في أن يبالغ في وصفه بالسَّخاء والجود، وأَنّ طبيعةَ الكرمِ قد غلبت عليه، ومحبَّته أن يُصدِّق رجاء الراجين، وأن يجنِّبهم الخيبة في آمالهم، قد بلغت به هذا الحدَّ، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غَدَت الذئاب تتوقّع أن يتسع عليها الرزق، ويُخْصِب لها الوقت من قَتْلَى عداه، كَرِهَ أن يُخْلِفها، وأن يخيِّبَ رجاءهَا ولا يُسعِفُها، وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العِدَى ويكسِرهم كسراً لا يطمَعون بعده في المعاوَدة، فيستغني بذلك عن قَتْلَهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يُسْرف في القتل طاعةً للغَيْظ والحَنَق، ولا يعفو إذا قَدَر، وما يُشبه هذه الأوصاف الحَميدة فاعرفه. ومن الغريب في هذا الجنس على تَعَمُّقٍ فيه، قول أبي طالب المأموني في قصيدة يمدح بها بعض الوزراء بِبُخارى: مُغرَمٌ بالثناءِ صَبٌّ بكسـب ال مَجْدِ يهتزُّ للسَّماح ارتـياحَـا
لا يَذُوق الإغفـاءَ إلاّ رجـاءً أن يَرَى طيفَ مسْتَمِيحٍ رَوَاحَا وكأنه شَرَطَ الرّواح على معنى أن العُفاة والرَّاجين إنّما يَحْضُرونه في صَدْر النهار على عادة السلاطين، فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقاتِ الإذن قَلُّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برُؤية طيفهم، والإفراط في التعمّق ربما أخلَّ بالمعنى من حيث يُرَاد تأكيدُه به، ألا تَرى أن هذا الكلام قد يُوهم أنه يحتجّ له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخْذِ عطائه، وأنه ليس في طبقة من قيل فيه: عَطاؤُك زَينٌ لامرئٍ إن أَصبتَه بخير وما كُلّ العَطـاءِ يَزِينُ وممّا يدفع عنه الاعتراض ويُوجب قلّةَ الاحتفال به، أن الشاعر يُهِمُّه أبداً إثبات ممدوحه جواداً أو توّاقاً إلى السُّؤَّال فرِحاً بهم، وأن يُبَرِّئه من عبوس البخيل وقطوب المتكلِّف في البذل، الذي يقاتل نفسه عن مالِه حتى يُقال جوادٌ، ومَنْ يهوى الثَّناء والثّراء معاً، ولا يتمكَّن في نفسه معنى قولِ أبي تمام: وَلَمْ يجتمع شَرقٌ وغربٌ لقـاصـدٍ ولا المجدُ في كفِّ امرئٍ والدراهمُ فهو يُسرع إلى استماع المدائح، ويُبطئ عن صِلة المادح، نعم، فإذا سُلِّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خَطَرات الظنون. وقد يجوز شيءٌ من الوَهْم الذي ذكرتُه على قولِ المتنبي:
يُعطي المُبشِّرَ بالقُصَّاد قَبْلَهُم كمن يُبشِّره بالماء عطشانَا وهذا شيءٌ عَرَضِ، ولاستقصائه موضعٌ آخرُ، إن وفَّق اللّه. وأصل بيت الطيف المستميح، من نحو قوله:
وَإنّي لأسْتَغْشِي وما بِيَ نَعْسةٌ لعلَ خيالاً منكِ يَلْقَى خيالـيَا وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضاً من باب ما استُؤنف له علّةٌ غير معروفة، إلاّ أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة، وذلك أنه قد يُتصوَّر أن يُريد المُغرَمُ المتيَّم، إذا بَعُدَ عهده بحبيبه، أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصَّةً فاعرفه. ومما يلحق بهذا الفصْل قوله: رَحَل العزاءُ برحْلَتي فكأنني أتبعتُه الأَنفاسَ للتـشـييعِ وذلك أنه علّل تصعُّد الأَنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة، وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه، وهو التحسّر والتأسّف، والمعنى: رحل عنِّي العزاء بارتحالي عنكم، أي: عنده ومعه أو به وبسببه، فكأنه لما كان محلّ الصبر الصَّدْر، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضاً، صار العزاءُ وتنفُّس الصَّعَداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك، كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاءً لحق الصُّحبة. ومما يلاحِظُ هذا النوع، يجري في مسلكه ويَنْتظم في سِلْكه، قولُ ابن المعتز: عاقبتُ عَيْني بالدَّمع والسَّهَـر إذ غار قلبي عَلَيك من بَصَري
وَاحتملتْ ذاك وهـي رَابـحةٌ فيكَ وفازت بلذَّة الـنّـظـرِ وذاك أن العادة في دمع العين وسَهرها أن يكون السببَ فيه إعراضُ الحبيب، أو اعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب المُوجِبة للاكتئاب، وقد ترك ذلك كله كما تَرَى، وادّعى أن العلة ما ذكره من غَيْرةِ القلب منها على الحبيب وإيثارِه أن يتفرَّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب وامتثال رَسْمه، رامَ للعين عقوبةً، فجعل ذاك أن أبكاها، ومَنَعها النوم وحماها، وله أيضاً في عقوبة العين بالدَّمع والسهر، من قصيدة أوّلها:
قُلْ لأَحلَى العباد شِكـلاً وقـدَّا أَبجِدٍّ ذَا الهجرُأمْ لـيس جِـدَّا
ما بِذَا كانت المُنَى حدَّثَتْـنـي لَهْفَ نفسي أَراك قد خُنتَ ودَّا
ما تَرَى في مُتَيَّمٍ بـكَ صَـبٍّ خاضِعٍ لا يرى من الذُلِّ بُـدَّا
إن زَنَتْ عينُه بغيرك فاضربْ ها بطُول السُهاد والدَّمْع حَدَّا قد جعل البكاءَ والسهاد عقوبةً على ذنبِ أَثبته للعين، كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا غير صورته هناك، فالذنب هاهنا نَظَرُها إلى غير الحبيب، واستجازتُها من ذلك ما هو محرَّم محظور والذنب هناك نظَرُها إلى الحبيب نفسه، ومزاحمتها القلب في رؤيته، وغَيْرةُ القلب من العين سببُ العقوبة هناك، فأمّا هاهنا فالغيرة كائنة بين الحبيب وبين شخصٍ آخر فاعرفه. ولا شُبْهة في قصور البيت الثاني عن الأول، وأنّ للأوّل عليه فضلاً كبيراً، وذلك بأن جعل بعضَه يغار من بعض، وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه، وهو تمام الظَّرْف واللطف، فأمّا الغيرة في البيت الآخر، فعلى ما يكون أبداً، هذا ولفظ زَنَتْ، وإن كان ما يتلوها من أحكام الصنعة يُحَسّنها، وورودُها في الخبر العينُ تزني، ويؤنِس بها، فليست تَدَعُ ما هو حكمها من إدخال نُفْرةٍ على النفس. وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في أعجب صورة وأظرفها، فانظر إلى قول القائل: أَتتني تُؤَنِّبني بـالـبـكـا فأهلاً بهَا وبتأنِـيبـهَـا
تقولُ وفي قولها حِشْـمةٌ أتبكي بعَيْنٍ تراني بـهـا
فقلت إذا استحسنتْ غيرَكم أمرتُ الدُّموع بتأديبـهـا أعطاك بلفظة التأديب، حُسْنَ أدب اللبيب، في صيانة اللَّفظ عما يُحرج إلى الاعتذار، ويؤدّي إلى النِّفار، إلا أن الأُستاذية بعدُ ظاهرةٌ في بيت ابن المعتز، وليس كل فضيلة تبدُو مع البديهة، بل بعَقِب النَّظرِ والرويَّة، وبأن يفكَّر في أول الحديث وآخره، وأنت تعلم أنه لا يكون أبلغ في الذي أراد من تعظيم شأن الذنب، من ذكر الحدّ، وأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بلفظة زنت، ومن هذه الجهة يلحَقُ الضَّيْمُ كثيراً من شأنُه وطريقُه طريقُ أبي تمام، ولم يكن من المطبوعين، وموضعُ البَسْط في ذلك غير هذا فَغَرَضي الآن أن أُرِيَك أنواعاً من التخييل، وأضَعَ شِبْهَ القوانين ليُستعان بها على ما يُراد بعدُ من التفصيل والتبيين. | |
|