قصدهم من إقامة المآتم والنياحة على الحسين
الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكا والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب.
وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة؛ فإن هذا ليس واجبًا ولا مستحبًا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله([1]).
ما يروى في مصرعه من الكذب
والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب كما زادوا في قتل عثمان، وكما زادوا فيما يراد تعظيمه من الحوادث، وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك.
والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم كالبغوي وابن أبي الدنيا وغيرهما ومع ذلك فيما يروونه أخبار منقطعة وأمور باطلة.
وأما ما يرويه المصنفون في المصرع بلا إسناد فالكذب فيه كثير مثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تظهر قبل ذلك؛ فإن هذا من الترهات فمازالت هذه الحمرة تظهر ولها سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق، وكذلك قول القائل: إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط هو أيضًا كذب بين.
وأما ما ذكروه من سبي نسائه والدوران بهم في البلدان وحملهم على الجمال بغير أقتاب- فهذا كذب وباطل لم يسبِ المسلمون ولله الحمد هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد r سبي بني هاشم قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا، ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة([2]).
مَنْ أمر بقتل الحسين
الذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا كان له غرض في ذلك؛ بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه كما أمره بذلك معاوية رضي الله عنه .
ولكن كان يختار أن يمنع من الولاية والخروج عليه.
فلما قدم الحسين وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه طلب أن يرجع إلى يزيد، أو يرجع إلى وطنه، أو يذهب إلى الثغر، فمنعوه من ذلك حتى يستأسر، فقاتلوه حتى قُتل مظلومًا شهيدًا رضي الله عنه .
وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك وبكوا على قتله وقال يزيد: لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد- أما والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله. وقال قد كنت أرضي من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز وأرسلهم إلى المدينة؛ لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين ولا أمر بقتل قاتله ولا أخذ بثأره.
ثم لما قتل قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد، ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذاب وادعى أنه يوحى إليه([3]).
مَنْ نكت في ثناياه
الذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قتل حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد، وأنه نكت بالقضيب على ثناياه وكان بالمجلس أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو برزة الأسلمي ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنه شيئًا فقال أنس كان أشبههم برسول الله r وكان مخضوبًا بالوشمة» وفيه أيضًا عن أبي نعيم قال: «سمعت ابن عمر وسأله رجل عن المحرم يقتل الذباب فقال يا أهل العراق تسألون عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن بنت رسول الله r وقال النبي r: «هم ريحانتاي من الدنيا»([4]). وقد روي بإسناد مجهول أن هذا كان أمام يزيد، وأن الرأس حمل إليه، وأنه هو الذي نكت على ثناياه. وهذا مع أنه لم يثبت ففي الحديث ما يدل على أنه كذب فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراق([5]).
الحسين قُتل مظلومًا
وأما الحسين فلا ريب أنه قتل مظلومًا شهيدًا كما قتل أشباهه من المظلومين الشهداء، ولم يكن قصده ابتداء أن يقاتل، وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضي بذلك، وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله. وهو في حقه شهادة له ورفع درجة وعلو منزلة، فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة التي لا تُنال إلا بشيء من البلاء ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما فإنهما تربيا في حجر الإسلام في عز وأمان فهذا مات مسمومًا([6]) وهذا مقتولاً لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء وإذا كان ذلك كذلك فالواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع([7]).
الناس في قتل الحسين ثلاثة أصناف
وصار الناس في قتل الحسين رضي الله عنه ثلاثة أصناف- طرفين، ووسط. أحد الطرفين يقول: إنه قُتل بحق، فإنه أراد أن يشق عصا المسلمين ويفرق الجماعة وقد ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال: «من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه»([8]). قالوا: والحسين جاء وأمر المسلمين على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم.
والطرف الآخر قالوا: بل كان هو الإمام الواجب طاعته الذي لا ينفذ أمر من أمور الإيمان إلا به، ولا تصلى جماعة ولا جمعة إلا خلف من يوليه ولا يجاهد عدو إلا بإذنه ونحو ذلك.
وأما الوسط فهم أهل السنة الذين لا يقولون هذا ولا هذا، بل يقولون قُتل مظلومًا شهيدًا، ولم يكن متوليًا أمر الأمة، والحديث المذكور لا يتناوله فإنه لما بلغه ما فعل بابن عمه مسلم بن عقيل ترك طلب الأمر وطلب أن يذهب إلى يزيد أو إلى الثغر أو إلى بلده فلم يمكنوه وطلبوا منه أن يستأسر لهم وهذا لم يكن واجبًا عليه([9]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ج (3) ص (44).
([2]) ج (3) ص (44) ج (2) ص (322، 323) ج (1) ص (171).
([3]) ج (4) ص (324).
([4]) صحيح البخاري ك (62) ب (22).
([5]) ج (2) ص (323) ج (3) ص (226).
([6]) الحسن، لكن لم يثبت ببينة شرعية أو إقرار معتبر ولا نقل يجزم به أن معاوية هو الذي سمَّه؛ لكن يقال إن امرأته هي التي سمته.
([7]) ج (2) ص (331، 322، 323) ج (2) ص (291، 150 - 152).
([8]) صحيح مسلم رقم الحديث (1852) «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».
([9]) ج (3) ص (322).