العلم بوجود الصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة
كل من العلم بوجود الصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة، أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى؛ بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري معروف في الجبلَّة.
وأيضًا فنفس حدوث الإنسان يعلم به صانعه، وكذلك حدوث كل ما يشاهد حدوثه. وهذه الطريقة المذكورة في القرآن.
وأما حدوث العالم فيمكن أن يستدل عليه بالسمع وبالعقل، فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة وإما بمشاهدة حدوث المحدثات وإما بغير ذلك ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة.
ودلالة المعجزات طريق من الطرق.
وطريق التصديق لا ينحصر في المعجزات.
ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم.
وإما بالعقل فمثل أن يقال: لا ريب أنا نشهد الحوادث كحدوث السحاب والمطر والزرع والشجر وحدوث الشمس وحدوث الإنسان وغيره من الحيوان وحدوث الليل والنهار وغير ذلك- ومعلوم بضرورة العقل أن المحدَث لابد له من مُحدِث وأنه يمتنع تسلسل المحدِثات بأن يكون للمحدِث محدث وللمحدث محدث إلى غير نهاية وهذا يسمى تسلسل المؤثرات والعلل والفاعلية وهو ممتنع باتفاق العقلاء.
وكذلك إذا قيل: الموجود إما أن يكون مخلوقًا وإما أن لا يكون مخلوقًا والمخلوق لابد له من موجود غير مخلوق، فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الموجود إما غني عن غيره وإما فقير إلى غيره والفقير المحتاج إلى غيره لا تزول حاجته وفقره إلا بغني عن غيره، فيلزم وجود الغني على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الحي إما حي بنفسه وإما حي حياته من غيره وما كانت حياته من غيره فذلك الغير أولى بالحياة، فثبت وجود الحي بنفسه على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: العالم إما عالم بنفسه وإما عالم علَّمه غيره ومن علَّم غيره فهو أوْلى أن يكون عالمًا وإذا لم يتعلم من غيره كان عالمًا بنفسه فثبت وجود العالم بنفسه على التقديرين الحاصرين فإنه لا يمكن سوى هذين التقديرين والقسمين.
فإذا كان لا يمكن إلا أحدهما وعلى كل تقدير العالم بنفسه موجود والحي بنفسه موجود والغني بنفسه موجود والقديم الواجب بنفسه موجود لزم وجوده في نفس الأمر وامتنع عدمه في نفس الأمر وهو المطلوب([1]).
المطر معروف عند السلف والخلف أن الله يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد- لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة وخلقه للشجرة والزرع من الحب والنوى فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء؛ بل لابد مما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه.
والبلد الجرز يسوق إليها الماء من حيث أمطر كما قال تعالى:
} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ { فالأرض الجرز لا تمطر ما يكفيها كأرض مصر لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها فإنها أرض إبليز([2]) وإن أمطرت مطرًا كثيرًا مثل مطر شهر خربت المساكن فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر أرضًا بعيدة ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر.
فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان([3]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ج (1) ص (281- 284) (وانظر مجموع الفتاوى) ج (2) ص (446، 447) والفهارس العامة لمجموع الفتاوى ج (1) ص (21- 31).
([2]) الإبليز وطين الإبليز: طين مصر الذي يتركه النيل بعد انسحابه من الأرض يونانية (منجد) وانظر المعجم الوسيط قلت: وكلام ابن تيمية واضح في وصفه.
([3]) ج (3) ص (111).