مكارم
الأخلاق ضرورة اجتماعية
(إن
أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين متعاونين
سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
ولو فرضنا احتمالاً أنه
قام مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط، من غير أن يكون وراء
ذلك غرض أسمى فإنه لابد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل
التقادير.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية، لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات،
ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان،
تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار، ثم
إلى الدمار.
من الممكن أن تتخيل مجتمعاً من المجتمعات انعدمت فيه مكارم الأخلاق
كيف يكون هذا المجتمع؟
كيف تكون الثقة بالعلوم والمعارف والأخبار وضمان الحقوق
لولا فضيلة الصدق؟!
كيف يكون التعايش بين الناس في أمن واستقرار، وكيف يكون
التعاون بينهم في العمل ضمن بيئة مشتركة، لولا فضيلة الأمانة؟
كيف تكون أمة
قادرة على إنشاء حضارة مثلى لولا فضائل التآخي والتعاون والمحبة والإيثار؟
كيف
تكون جماعة مؤهلة لبناء مجد عظيم لولا فضيلة الشجاعة في رد عدوان المعتدين وظلم
الظالمين، ولولا فضائل العدل والرحمة والإحسان والدفع بالتي هي أحسن؟
كيف يكون
إنسان مؤهلا لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه، صارفة له
عن كل عطاء وتضحية وإيثار؟
لقد دلت التجربات الإنسانية، والأحداث التاريخية، أن
ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة،
ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها،
ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائماً، صاعدين
وهابطين.
وذلك لأن الأخلاق الفاضلة في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة
التي تعقد بها الروابط الاجتماعية، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد
لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد عليه، ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت
الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط، لا بقوة الجماعة، بل
ربما كانت القوى المبعثرة فيها بأساً فيما بينها، مضافاً إلى قوة عدوها.
وإذا
كانت الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم فإن النظم الإسلامية
الاجتماعية تمثل الأربطة التي تشد المعاقد إلى المعاقد، فتكون الكتلة البشرية
المتماسكة القوية، التي لا تهون ولا تستخذي.
وإذا أردنا أن نوضح بالأمثلة حقيقة
كون الأخلاق تمثل المعاقد التي تعقد بها الروابط الاجتماعية تواردت علينا أمثلة
كثيرة جدا.
1 - فلنأخذ فضيلة الصدق مثلا من أمثلة مكارم الأخلاق.
إن الصدق
بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم معقد من معاقد الروابط الاجتماعية، تنعقد عليه
ثقة المجتمع بما يحدث به ويخبر عنه في مجال التاريخ والأخبار، وفي مجال العلوم
المختلفة، وفي مجال المعاملات المادية والأدبية، وفي مجال العهود والوعود
والمواثيق، وغير ذلك من مجالات.
ونستطيع أن نبني على هذه المقدمة أنه متى انهارت
في الفرد فضيلة الصدق انقطعت ما بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى، وغدا الناس لا
يصدقونه فيما يقول، ولا يثقون به فيما يحدث به أو فيما يعد، فلا يكلون إليه أمراً،
ولا يعقدون بينهم وبينه عهداً، ولا يواسونه إذا اشتكى لهم من شدة، لأنهم يرجحون في
كل ذلك كذبه، بعد أن أمست رذيلة الكذب هي الخلق الذي خبروه فيه، ...
2 - ولنأخذ
فضيلة الأمانة مثلا من أمثلة مكارم الأخلاق.
إن
الأمانة بوصفها خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم معقد آخر من معاقد الروابط
الاجتماعية، تنعقد عليه ثقة الناس بما يضعون بين يديه من مال أو سلطان، وبما
يمنحونه من وجاهة وتقديم، وبما يكلون إليه من أمور عامة أو خاصة.
ونستطيع أن
نبني على هذه المقدمة، أنه متى انهارت في الإنسان فضيلة الأمانة انقطعت ما بينه
وبين مجتمعه رابطة من الروابط الاجتماعية، وغدا الناس لا يأمنونه على أي شيء ذي
قيمة معتبرة لديهم، خاصاً كان ذلك أو عاماً، لأنهم يقدرون أنه سوف يسطو عليه لنفسه،
بعد أن أمست رذيلة الخيانة هي الخلق الذي خبروه فيه.
3 - ولنأخذ فضيلة العفة
مثلاً من أمثلة مكارم الأخلاق.
إن العفة بوصفها خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم
معقد من معاقد الروابط الاجتماعية، تنعقد عليه ثقة الناس به في أعراضهم، وبهذه
الثقة تأمنه الأسرة على عرضها إذا غابت، ويأمنه الجار على عرضه إذا ترك منزله،
وتأمنه الزوجة إذا خرج إلى عمله أن لا يختان نفسه، والمرأة العفيفة كذلك تكون
موضعاً للثقة بها عند الغيبة عنها.
ومتى انهارت في الإنسان فضيلة العفة لم يأمنه
الناس على أعراضهم، ولم يأمنوه على بلادهم ومصالحهم العامة، لأنهم يقدرون أن
أعداءهم سوف يسهل عليهم صيده من مغمز عفته المنهارة، ثم تسخيره في خدمة أغراضهم،
وبذلك تنقطع ما بينه وبين مجتمعه رابطة من الروابط الاجتماعية.
وهكذا نستطيع أن
نقيس على هذه الأمثلة سائر مكارم الأخلاق، كالعدل، والجود، والوفاء، بالعهد والوعد،
والإحسان، والعطف على الناس، وغير ذلك من فضائل الأخلاق.
وانهيار كل خلق من
مكارم الأخلاق يقابله دائماً انقطاع رابطة من الروابط الاجتماعية، وبانهيارها
جميعاً تنهار جميع المعاقد الخلقية في الأفراد، وبذلك تنقطع جميع الروابط
الاجتماعية، ويمسي المجتمع مفككاً منحلاً) (1).
_________
(1) ((الأخلاق
الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 29).