نزول القرآن الكريم:الراجح أنَّ القرآن له تنزلان:
الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. يقول الله تعالى في كتابه العزيز مبيناً هذا المعنى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4]، أي في ليلة القدر وليست ليلة النصف من شعبان كما يعتقد كثير من عامة الناس .
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
الثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرَّقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة.
يقول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا} [الإسراء: 106].
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 2].
هذه الآيات وكثير غيرها، تفيد أنَّ جبريل عليه السلام نزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنَّ هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به نزوله منجَّماً أي على دفعات، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أنَّ المقصود النزول على سبيل التدرج، فالتنزيل لما نزل مفرقاً والإنزال أعم يفيد النزول دفعة واحدة كما كان حال التوراة و الإنجيل، قال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ} [ آل عمران: 1- 4].
وقد نزل القرآن منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة سنة بمكة على الرأي الراجح، وعشر بالمدينة، وكان ينزل بحسب الوقائع والأحداث خمس آيات وعشر آيات وأكثر أو أقل.
الحكمة من نزوله منجَّماً:
1- تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه بإنزال الوحي علي مراراً وتكراراً. قال تعالى: {كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، [الفرقان: 32 ].
قال السخاوي: " في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، و لهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له ".
2- التحدي والإعجاز.
3- تيسير حفظه وفهمه وتدبر معانيه والوقوف عند أحكامه .
4- مراعاة حال المخاطَبين بالوحي وعدم مفاجأتهم بما لا عهد لهم به ومسايرة الحوادث والتدرج في التشريع .
وأوضح مثال على ذلك، التدرج في تحريم الخمر: فقد نزل قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}، [النحل: 67 ] أشارت الآية إشارة خفية إلى أن الخمر ليس رزقاً أي لا ينتفع به. ثم نزل قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، ثم قال تبارك وتعالى مُصَرِّحاً بالنهي والتحريم القاطع في سورة المائدة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
5- الدلالة القاطعة على أنَّ القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، إذ لو كان من كلام البشر لوقع فيه التفكك و الانفصام و استعصى أن يكون بينه التوافق والإنسجام، يقول تعالى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82 ]. فأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم -وهي ذروة الفصاحة و البلاغة بعد القرآن الكريم- لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة، دقيق السبك، مترابط المعاني، رصين الأسلوب ومتناسق الآيات والسوَر