ســؤال: هل وقع الخلاف في الاجتهاد في أحكام الشريعة الإسلامية ومتى و قع و لماذا ؟
الجواب: أمَّا في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالخلاف لم يقع ولا سبيل أصلاً للخلاف ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حي يُمكِن الرجوع إليه في أي أمر.
وبعد وفاته عليه الصلاة و السلام، بدأ الخلاف الاجتهادي يظهر في بعض المسائل الفرعية التي لا تتعارض مع أصول الدين للأسباب التالية:
1- تفاوت الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌ حسب وضعه ومقدار تفرغه وملازمته له . ونتيجة لذلك كان إذا وقعت مشكلة، تسائل الصحابة عن حكمها، والذي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيئاً ، يفتي بظاهر القرآن. أما الذي حفظ وروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدراً أكبراً فهو يذكر أنَّ هذا الموضوع قد أوضح النبي عليه الصلاة و السلام حكمه، فهو يختلف في فتواه عن الأول الذي لم يسمع و القاعدة تقول: من حفظ حجة على من لم يحفظ. من هنا كان لا بد أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت إذا عرضت على أبي بكر أو عمر حادثة جديدة ولم يُسمَع من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها شيئاً، جمع الصحابة وقال: " أنشدكم الله رجلاً سمع من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوى في هذه القضية ". وكان من عادة عمر رضي الله عنه إذا سُئِلَ في موضوع أن يبحث عنه في كتاب الله ثم السنّة فإن لم يكن قد سمع في المسألة شيئاً نادى في الناس: " من سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة شيئاً " ؟ فإن لم يجبه أحد قال: " هل قضى أبو بكر في هذا الموضوع من قبلي شيئاً "؟ فإن قال له قائل إنَّ أبا بكر قد سُئِلَ وقضى في هذا الأمر بكذا، قضى عمر بمثل ما قضى به أبو بكر رضي الله عنهما وإلا اجتهد عمر.
مثال: دية الأصابع، رجل قُطِعَت إصبعه، الخنصر أو البنصر أو السبابة أو الوسطى، ما هو القدر الذي ينبغي أن يؤخذ من الجاني كدية لهذا الإنسان؟ فكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الموضوع وهو لا يذكر في هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجتهد في الأمر، وأراد أن يجعل دية كل إصبع على حسب فائدة تلك الإصبع، ولكنه تريَّث و أخذ يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فجاء من أخبره أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قضى بأنَّ في كل إصبع عشراً من الإبل متساوية يعني في قطع الأصابع العشرة دية كاملة. فرجع عمر رضي الله عنه وقال: " إن كدنا لنقضي في هذا برأينا ".
مثال آخر دية الجنين: سُئِلَ سيدنا عمر رضي الله عنه عن دية الجنين، اعتدى إنسان على امرأة حامل فأسقطت جنيناً، ما الجزاء؟ وقف عمر يناشد المسلمين أن يكون فيهم رجلاً سمع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراً في الدية. معلوم في القرآن أنَّ عقاب من اعتدى على إنسان و مات، هو القصاص فإن عفى وليَّه تصبح عقوبته دفع الدية، هذا هو الحكم العام و الجنين يُعتبَر إنساناً و مات، وعلى هذا يأخذ الجاني الحكم نفسه، إما القصاص و إما الدية.
و لكن عمر تريَّث، لعل في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً خاصاً. فقام أحد الصحابة وقال إنَّ جمل ابن مالك جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كانت له زوجتان فتخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى فألقت جنيناً ميتاً، فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم للجنين بغُرَّة يعني بنصف عشر الدية (خمسة من الإبل) فتهلل وجه عمر باسماً وقال: " إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا ".
ومن أسباب الاختلاف في الاجتهاد أيضاً:
2- عدم الاتفاق على صحة نسبة حديث ما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم.
3- عدم الاتفاق على معنى كلمة أو جملة في كتاب الله تعالى أو حديث المصطفى عليه الصلاة و السلام و ذلك بسبب ورود لفظ يحتمل معنيين.
4- اختلاف الفتوى بسبب الرأي: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب أو سنّة وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس وكانوا يعبِّرون عنه بالرأي.
5- قياس الفرع على الأصل: البعض يرى إنَّ هذا الفرع يشبه ما نص الله تعالى عليه في آية كذا.
نعرض لطائفة من أمثلة الخلاف بين الصحابة في بعض الفتاوي:
- عُرضت مشكلة على ابن مسعود رضي الله عنه: رجل عقد نكاحه على امرأة و لم ينص في هذا العقد على مهر و مات قبل الدخول بها، فما الذي تستحقه هذه المرأة ؟ أفتى ابن مسعود بأنَّ لها كامل مهرها أي صداق مثلها من النساء. بينما سيدنا علي كرَّم الله وجهه عندما سمع بهذه القضية قال: " أنا أختلف معه في هذه المسألة، هذه المرأة إذا مات زوجها ليس لها إلا الميراث، تأخذه و ليس لها ما وراء ذلك شيء وعليها العدة و لا صداق لها ". سبب هذا الخلاف أنَّ هذه المسألة ليس فيها نص واضح صريح من كتاب الله تعالى، كل ما في الأمر قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
يقول سيدنا علي: " أرأيت لو أنَّ زوجها لم يمت و لكن طلق ، ليس لها شيء بنص كلام الله عز و جل ". فسيدنا علي قاس وفاة الزوج على طلاقه لها. قال ابن مسعود: " الرجل الذي يطلق يطلق بقصد الاختيار و يترتب على ذلك أشياء كثيرة، لكن مات الزوج و حبل الزوجية موجود، ولا يسبب الموت انقطاع الزوجية عند جمهور العلماء، فالموت لا يُقاس على الطلاق لأن الطلاق عمل اختياري والموت أمر قصري ".
مسألة أخرى: المرأة التي توفي عنها زوجها و هي حامل، ما عدتها ؟
سيدنا عمر رضي الله عنه قال : عدتها وضع حملها. و قال سيدنا علي و ابن عباس : عدتها بأبعد الأجلين، أي أيهما كان أبعد وضع حملها أم مضي أربعة أشهر و عشراً تأخذ به . قال جمهور الفقهاء انَّ عدة المرأة تنتهي بوضع حملها و القول بأبعد الأجلين مرجوح ، و دليل ذلك ما أخرجه البخاري و مسلم عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة و هو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع و هي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاة زوجها ، فلما طهرت من دم النفاس تجمَّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: " ما لي أراكِ متجمِّلة ، لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنتِ بناكح حتى يمر عليكِ أربعة أشهر و عشرا " ! قالت سبيعة: " فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي و أمرني بالتزوج إن بدا لي ". و قد رُوِيَ أنَّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة لما احتُجَّ به عليه.