أبرز من كانت إليهم الفتيا في عصر الصحابة:
الخلفاء الراشدون و سيدنا عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عوف و عبد الله بن عمر و هؤلاء التسعة كانوا في ذلك العصر بمثابة الأئمة الأربعة في عصرنا.
ســؤال: لماذا انحصرت الفتيا ببعض الصحابة و لم يفتوا كلهم؟
الجواب: لأن عامة الصحابة لا وقت و لا قدرة لهم على الاجتهاد ، فمنهم من كان يشتغل بالزراعة و منهم من كان يشتغل بالتجارة و منهم من كان يشتغل بالجهاد و هكذا و حتى يصل الإنسان لرتبة يستطيع معها الاجتهاد لا بد له من علم غزير و ذلك يحتاج عادة إلى وقت و تفرُّغ. فكان عامة الصحابة يأخذون بفتاوى واحد من هؤلاء التسعة غالباً كما نأخذ نحن اليوم بفتاوى واحد من الأئمة الأربعة.
ســؤال: لماذا لم يمد الله تعالى بحياة النبي صلى الله عليه و سلم ليجيب على هذه الأسئلة التي حدثت و استجدت في عصر الصحابة ؟
الجواب: لكي يعلِّم الله سبحانه وتعالى هذه الأمة الاجتهاد وكيفية استنباط الأحكام من النصوص وحتى يخفف عنها لأن في اختلاف الفقهاء سعة.
ســؤال: الحكم في شرع الله تعالى أليس واحداً؟ فكيف لنا أن نأخذ بقول أكثر من إمام؟
الجواب: إنَّ الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا عمِّيَت علينا دلائل حكم شرعي وتشابهت الأدلة ولم نستطع أن نصل إلى الحكم بيقين، فإنَّ من رحمة الله تعالى بعباده أنه لا يطالبهم إلا ببذل الجهد في معرفة حكمه تعالى. مثال ذلك: الاجتهاد في القِبلة في الصلاة، هي حقيقة واحدة ولكن في حال لم تتبيَّن ولم يُتمكن لأربعة أشخاص من تحديدها جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى جهة ما، حسب اجتهاده الشخصي وصلاتهم صحيحة بالاتفاق حتى و لو صلى كل واحد منهم إلى جهة مختلفة عن جهة الآخر.
سؤال: يدَّعي أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: كان بعض من هؤلاء الصحابة عندهم روح واسعة لفهم النص و كانوا يتجاوزون النص إلى ما يسميه علماء القانون اليوم بروح النص. ويقول أحمد أمين إنَّ في مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعمر كان عبقرياً وكان لا يقف عند حرفيّة النص بل كان يتجاوزه إلى المصالح وإلى العلل وإلى روح التشريع الإسلامي. ها هو في أكثر من حالة خالف النص و عمل بالمصلحة، مثال ذلك كما يدَّعي أحمد أمين:
1- قال الله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم... "، عطَّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
2- يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، سرق بعض الناس في عام المجاعة متاعاً فلم يقم عليم عمر الحد.
3- قضى عمر بأنَّ الرجل الذي قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً بكلمة واحدة، تطلق ثلاثاً، و هذا مخالف لقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، ومخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: " كان الطلاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، طلاق الثلاث واحداً، و كان ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فقال عمر لقد استعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فمن استعجل أناة الله ألزمناه به. فطلاق الثلاثة بكلمة واحدة يُعتبر ثلاث طلقات. ويضيف أحمد أمين فيقول، إنَّ عمر في كل ذلك إنما كان عبقرياً و ذكياً لأنه لم يتمسك بحرفية النص و إنما رأى المصلحة وجرى وراءها و إن خالفت النص و هذا هو المطلوب كما يزعم أحمد أمين. فهل كان من بين الصحابة من كان يتجاوز حرفِيَّة النصوص و يأخذ بروح النص كما يقول بعض الناس اليوم، و يأخذ بالمصالح التي تعتمد عليها النصوص، بمعنى آخر هل كان الصحابة أصحاب نزعة تحررية؟
الجواب: كلام أحمد أمين المضلل قد يدفعنا بناءً لما تقدم إلى القول بأنَّ الربا حلال و المتاجرة بالخمر و السِّلم مع اليهود كذلك ! و أما القول أن المصلحة قد تكون في مخالفة النص من كتاب الله تعالى، فهذا كفر و العياذ بالله تعالى، لأنه من أعلم بمصلحة الناس من رب الناس، من خالق الناس الذي يعلم سرهم ونجواهم و يعلم ما كان و ما سيكون و ما لم يكن ولو كان كيف يكون. و الحقيقة أنه ما وُجِدَ قط إنسان أكثر حيطة في التمسك بالنص و حرفيته من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد مر معنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها سابقاً في هذا البحث كيف كان ينادي بالناس هل منكم من سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً في هذا ؟!!! لكن من الذي يستطيع أن يطبق النص؟ إنَّ أقدر الناس على تطبيق النص، أفهمهم للنص و أعرفهم و أعلمهم للقواعد العربية و أصول الدلالات في منطوق النص و مفهومه الموافق و مفهومه المخالف و دِلالة الخطاب و فحواه. وعمر كان من أعلم الناس بقواعد تفسير النصوص، و تعالوا ننظر معاً ماذا فعل عمر؟.
بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..} [التوبة: 60]، هناك في اللغة العربية اسم موصول للفقراء أي للذين يتصفون بالفقر، للمساكين أي للذين يتصفون بالمسكنة، للعاملين عليها أي للذين يقومون بجباية الزكاة، للمؤلفة قلوبهم أي للذين تشعرون بالحاجة إلى أن تؤلفوا قلوبهم ... الفقراء، إن زال الفقر عنهم لن يعودوا أهلاً لأخذ الزكاة، ومناط وجوب إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم أن يشعر المسلمون أنهم بحاجة إلى تأليف قلوب من وفدوا إلى الإسلام من جديد. إذاً مناط الحكم أن ننظر إلى واقعنا، فإذا كان هذا الواقع عزيز قوي وكان من دخل في الإسلام، وحده يعزه و يغنيه و يحميه، إذا وجدنا أنَّ الأمر كذلك فإنَّ مناط دفع الزكاة إليهم ارتفع. أما إن كان الإسلام في ضعف فيكون حكم إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم عندئذ سارياً، وقد كان الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزيزاً لا بل في أعزِّ أحواله.
بالنسبة للمسألة الثانية، وهي أنَّ رجلاً سرق في عام المجاعة و كان أجيراً و علم عمر أنَّهم كانوا يبخسون حقه فقال لهم: " والله لولا أني أعلم أنكم تظلمونه و لا تعطونه حقه لقطعتُ يده "، و الآن عام مجاعة ، فجمعاً بين النصوص التالية: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، و قوله صلى الله عليه و سلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإنَّ الحاكم لأن يخطىء في العفو خيراً من أن يخطىء في العقوبة "، و هذا قانون عام في القضاء و بدلاً من العقوبة يعزِّر القاضي المذنب ويعاقبه و لكن لا يقطع يده. إذاً عمر عمل بالنص و لكنه علم بالحديث الذي خصص الآية وقضى بموجبه و ليس كما زعم الجاهل بأنه ترك النص و تبع المصلحة التي رآها مناسبة و في ذلك دليل على أنَّ الحديث يبين و يشرح كلام الله تعالى الذي قال في كتابه العزيز: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. هذا من جهة و من جهة أخرى، فإنَّ للسرقة نصاباً حتى تُقطع يد السارق فإن سرق شيئاً قيمته دون النصاب يُعَزَّر ولا تُقطَع يده. والمبلغ الذي سرقه الرجل ربما ليس بذاك المبلغ الكبير أو احتمال أن يكون سرقه ليسد ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
ملاحظة: ينبغي قبل أن نطبق هذه القاعدة أن نعلم ما معنى الضرورة وما الفارق بين الضرورات والحاجيات و التحسينيات؟.
وأما المسألة الثالثة، فقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، لا علاقة له بالموضوع الذي أفتى به عمر، و إنما هي بيان للطلاق وأنه ينبغي أن يفرق بين الطلقة والأخرى وإلا كان آثماً، أي من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد كان آثماً. أما من لم يتق الله تعالى وارتكب المحرَّم فقال لزوجته أنت طالق بالثلاث فهذا لن يجعل الله تعالى له مخرجاً لأن الله تعالى قال: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ... "، وهذا لم يتق الله تعالى، وارتكب الحرام و طلق زوجته ثلاثاً بمجلس واحد ، لم يجعل الله له مخرجاً. فإذاً القرآن يقضي بأن من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث. وهناك أحاديث صحيحة كثيرة نصَّت على أنَّ الرجل إن طلق ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث ولكنه طلاق بدعي مكروه، ومن ذلك حديث رواه الشيخان عن عويمر العجلاني رضي الله عنه وقد اتهم زوجته بالزنا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدله على الملاعنة التي أنزلها الله تعالى في محكم كتابه. و لكنه لم يكن يعرف أنَّ نتيجة الملاعنة التفريق الأبدي، وعندما علم ذلك جلس أمام ركبتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: " يا رسول الله كذبتُ عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ". فإذاً عويمر العجلاني طلق زوجته في مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً بكلمة واحدة ، و لولا أنَّ هذا كان جارياً في عصر النبوة لما قال ذلك.
وحديث فاطمة التي قالت لسيدنا عمر طلقني زوجي البتة فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه و سلم نفقة و لا سكنى ، كلمة البتة كناية عن ثلاث طلقات و في ذلك دليل أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام أفتى أنه طلقها ثلاثاً.
أيضاً ما رواه الشافعي و الترمذي و النسائي و كثيرون عن ركانة رضي الله عنه أنه طلق زوجته قائلاً أنت طالق البتة، و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نادماً فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: " آلله ( أي أقسم عليك بالله ) ما أرَدتَ ( بكلمة البتة ) إلا واحدة ؟ فقال ركانة: " والله ما أردتُ بها إلا واحدة ". فأعادها رسول الله صلى الله عليه و سلم له، فلو لم تكن كلمة البتة تعني ثلاثاً لَما سأل النبي صلى الله عليه و سلم ركانة ماذا أراد من قوله البتة، و لو لم يكن طلاق الثلاثة في المجلس الواحد يقع لما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ركانة عن قصده بكلمة البتة. أما حديث مسلم الذي يرويه عن طاووس و عن ابن عباس: " كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و في صدر من خلافة عمر ثم قال عمر إنَّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فمن استعجل أناة الله ألزمناه بها "، قال ابن جرير الطبري في شرح هذا الحديث و أبو وليد الباجي و النووي في شرحه على صحيح مسلم، معناه أي كان الرجل في صدر الإسلام إذا أراد أن يطلِّق زوجته ثلاث تطليقات لا يستعمل إلا نفس اللفظة أي لفظه البتة فيقول: " أنت طالق البتة "، و إذا أراد أن يطلق طلقة واحدة قال : " أنت طالق البتة ". فالبتة كناية عن طلقة واحدة أو ثلاث حسب النية، و كان الشائع الأغلب في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و شطر من عهد عمر أنه يقصد بذلك طلقة واحدة. هذا هو الغالب والعام لأنه نادر جداً من الصحابة من طلق ثلاث مرات دفعة واحدة لأنَّ ذلك محرَّم. فكان الرجل إذا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أبي بكر و قال له إني طلقتُ زوجتي البتة، صحيح أنَّ البتة كناية عن طلاق الثلاث و لكن الشائع الأغلب أنه يقصد بها واحدة، لذلك كان يُسأل عن نيته، فإذا قال واحدة حُكِمَ له بواحدة. ولمّا كانت خلافة عمر تغيَّر حال الناس و أخذ كثير من الناس يطلق ثلاث طلقات بكلمة واحدة، و شاع بينهم استعمال لفظ البتة على الثلاث، لذلك حكم عمر على من قال له إني طلقتُ زوجتي البتة أنه طلقها ثلاثاً إلا أن يُقسِم أنه ما قصد إلا واحدة ذلك لأننا نحكم على الألفاظ حسب العرف فإذا كان عرف الناس أن يطلِّقوا طلاق البتة و يقصدون به ثلاثاً وقع ثلاثاً كما أصبح العرف في عصرنا لمن قال لزوجته أنت عليّ حرام وقع طلاقاً و هذا اللفظ في أصله كناية و لكن لما شاع استعمال الناس له على أنه طلاق أصبح يُفتى لمن قال هذا اللفظ لزوجته أنه طلقها. و هذا الذي قال به عمر من أن من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وقعت ثلاث تطليقات و بانت منه بينونة كبرى و هو ما قاله جمهور علماء الحديث و أجمعت عليه الأمة. إذاً هذا الحديث في وادٍ و ما استدلَّ عليه و فهمه أحمد أمين في واد آخر!
شبهة أخرى: عندما انتصر جيش عمر في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص و فتح المسلمون العراق، غنم المسلمون غنائم كثيرة و أموال منقولة و غير منقولة. أمَّا الأموال غير المنقولة فقد اعتُبِرَت أنها سواد العراق و هي مثل غوطة دمشق أراضٍ واسعة شاسعة كلها مزروعة. سيدنا عمر قسم الأموال المنقولة على الجيش و لكنه لم يقسم السواد و ذلك بعد أن شاور الصحابة مثل سيدنا معاذ و علي و عثمان و جمهور الصحابة كانوا معه في ذلك.
يقول بعض المستشرقين: تعاطى عمر مع روح النص حين فعل ذلك لأنه خلاف الآية القائلة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[الأنفال: 41].
الجواب على هذه الشبهة ما يلي: قال عمر و وافقه على ذلك جمهور الصحابة، لو قسمنا هذه الأراضي الشاسعة سيمتلكها المسلمون في هذا العصر وتأتي الأجيال الأخرى و ليس لهم شيء، فرأى أنه من الخير أن تكون هذه الأراضي ملكاً لبيت مال المسلمين حتى تستغني الأجيال به إلى ما شاء الله. و لكن يا ترى هل تجاوز عمر بذلك النص؟
قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]. إذاً استناداً على قول الله تعالى هذا تُعطى هذه الأموال غير المنقولة لله أي للمصالح العامة و للرسول ( و مِن بعدِه لبني هاشم ) و لذي القربى و اليتامى و المساكين و الفقراء و الأجيال الآتية من بعدهم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ}.لذلك قال عمر إذا وزعتُ هذه الأراضي الآن و امتلك كل واحد منكم قسماً منها، كيف يمكن أن أنفذ أمر الله في أن أجعل في هذه الأراضي حصصاً للأجيال القادمة ؟!!! أما ما جاء في سورة الأنفال، فالمقصود به الغنائم المنقولة. و الآن بعد هذا التوضيح أليس هذا تمسُّكاً بالنص من سيدنا عمر؟ و لكن من يفقه؟ و من يعلم كيف يستخرج الأحكام من النصوص؟ و هذا لا يعني أنَّ الإنسان لا يبحث عن المصلحة و لكن المصلحة تكون مع النص لأنَّ الله تعالى أعلم أين تكون مصلحة العباد. أمّا ما ليس فيه نص كالمصالح المرسلة، فها هو عمر الذي خطط لبناء الكوفة و البصرة حيث أرسل مهندسه و أمر أن تكون الشوارع الأساسية عرض 30 ذراع و الشوارع الفرعية عرض 20 ذراع، والبيوت التي تُبنى على الشوارع الأساسية لا مانع من أن يكون ارتفاعها عالياً و البيوت التي من ورائها أخفض.
عندما فُتِحَت العراق و الشام جمع عمر مجلس شوراه و قال لهم رأيتُ التجارة بأيدي الأقباط و إني آمركم أن تتجروا فقال له بعض الحاضرين يا أمير المؤمنين أمر كُفيناه أي الأقباط كفونا العمل، كأنه يقول أنَّ الله تعالى جعلهم خدّاماً لنا، فلماذا نتاجر ؟ قال عمر: "لأن قلتم هذا والله ليكوننَّ رجالكم تَبَعاً لرجالهم و ليكوننَّ نساؤكم تبعاً لنسائهم ". فإذاً كان عمر كغيره من الصحابة الكرام يهتم بمصلحة المسلمين، و هذه الأمثلة التي ذكرناها من المصالح المرسلة . أما إذا كان هناك نص، فكان عمر و باقي الصحابة أكثر من يتمسك به لأنهم يعلمون حقاً أن المصلحة مع النص {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].