الشبهة الرابعة
قول عيسى عليه السلام : " الآب فيَّ و أنا
في الآب " [11]
الإجابة عن هذه
الشبهة:
الاستدلال بأمثال هذه العبارات على
إلـهية المسيح ضعيف و باطل أيضا من عدة وجوه:
أولا: هذه النصوص واجبة التأويل عند
جمهور أهل التثليث لكونهم جميعا لا يؤمنون بظاهرها الحرفي الذي يفيد حلول الله الآب
في عيسى الناصري البشر، لأن جمهور المسيحيين يرون أن الله الابن ـ و ليس الآب ـ
هوالذي تجسد في المسيح عليه السلام، و لذلك فهذا النص يؤولونه بأن المقصود بعبارة:
" الآب فيَّ و أنا في الآب " اتحاد الآب و الابن في الجوهر أي الاتحاد الباطني، و
إن كانا شخصيتين منفصلتين.
ثم يصححون حلول الله الابن
في عيسى البشر الذي كان الناس يرونه ـ رغم أن الله تعالى لا يرى و لا تدركه الأبصار
باتفاق المسيحيين كلهم ـ بأن المسيح كان إنسانا كاملا و إلـها كاملا بنفس الوقت! و
لذلك صح هذا الحلول باعتبار لاهوته، و لكننا سبق و أن بينا بالتفصيل أن هذا باطل و
مخالف لصريح العقل و بديهيات المنطق و الوجدان [12] .
إذن لا مجال للأخذ
بظاهر هذا النص و بمعناه الحرفي بل لا بد من المصير إلى معنى مجازي لهذا الاتحاد
المذكور، و سيأتيك فيما يلي توضيح هذا المعنى المجازي استنادا إلى نصوص متشابهة من
نفس الإنجيل و رسائل القديسين.
ثانيا: في نفس الإصحاح من إنجيل يوحنا
الذي جاءت فيه تلك العبارة، جاء في الآية 20 منه قول المسيح عليه السلام أيضا: " في
ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي و أنتم فيَّ و أنا فيكم " يوحنا: 14 / 20.
كذلك مر معنا في الشبهة الماضية قول المسيح عليه السلام في دعائه الله
تعالى لأجل التلاميذ:
" ليكون الجميع واحدا كما أنك أيها الآب فِـيَّ وأنا
فيك ليكونوا هم أيضا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني... (إلى قوله) أنا فيهم و أنت
فـيَّ ليكونوا مكمِّـلين إلى واحد.." إنجيل يوحنا: 17 / 21 ـ 23.
فالمسيح
عليه السلام لم يقل أن الله تعالى فيه و هو في الله فقط، بل كذلك قال أن الحواريين
أيضا هم في المسيح و المسيح فيهم، و دعا أيضا الله تعالى أن يكون الحواريون في الله
و في المسيح أيضا فقال: ليكونوا هم أيضا فينا!
فإذا كانت الكينونة " في
الله " تعني الإلـهية، فإذن المسيح يدعو الله تعالى أن يصير تلاميذه آلهة! و هذا لا
يقول به مسيحي.
ثم لما كان ـ حسب تلك العبارات ـ الآب في المسيح و المسيح
في التلاميذ، إذن، الآب في التلاميذ أيضا لأن الحالَّ في حالٍٍّ في محلٍٍّ، حالٌّ
أيضا في ذلك المحلِّ، فإذا كان ثبات الله تعالى في المسيح يدل على ألوهيته، فإن
ثبات الله تعالى في التلاميذ يعني ألوهيتهم أيضا!! و هذا ما لا يعتقده مسيحي، إذن
هذا الاتحاد في المحل و هذه الكينونة أو الثبات في الله، ليست مرادة بمعناها
الحرفي، بل المراد منها معنى مجازي، فما هو؟ إن الحواريين أنفسهم و كتَّاب الرسائل
الملحقة بالأناجيل في العهد الجديد حلوا لنا هذا الإشكال بكل وضوح، و هذا ما نراه
في النقطة التالية:
ثالثـا: لقد جاءت مثل هذه التعبيرات مرات عديدة في رسائل العهد الجديد
المكملة للأناجيل، و منها يظهر مرادهم من حلول الله تعالى أو ثباته في شخص، و فيما
يلي بعض هذه النصوص التي تظهر إرادة هذا المعنى المجازي من تعبير الحلول و الثبات
في الله:
(1) جاء في رسالة يوحنا الأولى (4/ 12ـ
15):
" الله لم ينظره أحد قط، إن أحب بعضنا
بعضا فالله يثبت فينا و محبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه و هو فينا
أننا قد أعطانا من روحه. و نحن قد نظرنا و نشهد أن الله قد أرسل الابن مخلِّصا
للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله فا لله يثبت فيه و هو في الله
".
(2) و جاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل
كورنثوس (6 / 16):
" فإنكم أنتم هيكل الله
الحي، كما قال الله: أني سأسكن فيهم و أسير بينهم و أكون لهم إلـها و هم يكونون لي
شعبا "
قلت: فمن هذه النصوص يتضح جليَّاً أن
مرادهم من تعبير ثبات الله تعالى في المؤمنين المطيعين، هو أنه تعالى معهم و مؤيد
لهم و محب و ناصر لهم و أنه تعالى جعل إرادتهم مثل إرادته و مشيئتهم كمشيئته، إذ لو
كان ثبات الشخص في الله أو ثبات الله فيه مشعرا بالاتحاد و مثبتا للألوهية للزم أن
يكون الحواريون، بل جميع أهل كورنثوس و جميع الصالحين آلهة!!، فكذلك تماما ثبات
الله تعالى في المسيح و ثبات المسيح فيه معناه أن ما يقوله المسيح و يفعله هو قول
الله تعالى و فعله و مطابق لمشيئته و منطلق من تأييده و محبته و رضوانه، فإرادتهما
متحدة و هدفهما واحد.
الشبهة الخامسة
قول المسيح عليه السلام : " الذي رآني فقد
رأى الآب " يوحنا:14 / 9.
مناقشة
هذه الشبهة :
لفهم هذه العبارة لا بد أن
نلاحظ تمام الكلام الذي جاءت في وسطه. لقد جاءت هذه العبارة ضمن حوار، رواه يوحنا
في إنجيله (14/1 ـ 10)، جرى بين المسيح عليه السلام و تلاميذه الإثني عشر، في
العشاء الأخير، و فيه يقول المسيح:
" لا تضطرب
قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة. و إلا فإني كنت قد
قلت لكم. أنا أمضي لأعد لكم مكانا. و إن مضيت و أعددت لكم مكانا آتي أيضا و آخذكم
إلى حيث أنا تكونون أنتم أيضا. و تعلمون حيث أنا أذهب و تعلمون الطريق. قال له
توما: يا سيد لسنا نعلم أين تذهب كيف نقدر أن نعرف الطريق ؟ قال له يسوع: أنا هو
الطريق و الحق و الحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم
أبي أيضا. و من الآن تعرفونه و قد رأيتموه. قال له فيليبس: يا سيد أرنا الآب و
كفانا. قال له يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته و لم تعرفني يا فيليبس. الذي رآني فقد
رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟ ألست تؤمن أني أنا في الآب و الآب فـيَّ؟
الكلام الذي أكلمكم به ليس أتكلم به من نفسي لكن الآب الحالَّ فيَّ هو يعمل الأعمال
"
و الآن نقول: إن الاستدلال بقول المسيح “ من
رآني فقد رأى الآب “ على ألوهيته، استدلال في غاية الضعف، لأن المجاز في هذا
التعبير، خاصة لمن يلاحظ السياق الذي جاء به، أوضح من أن يُسْتدل عليه.
فأولاً: لا يمكن أن يكون المعنى الحرفي مرادا، حتى عند جمهور النصارى، لأنه
لا أحد منهم يعتقد أن ذلك الـمُشَاهَد، أي جسم عيسى المادي، هو الله تعالى أي الآب
الذي في السموات نفسه! لأن الآب تعالى ليس بجسم و لا يُحَدُّ و لا يُرى، باتفاق
جميع النصارى، لذلك يؤولون الرؤية هنا بالمعرفة و يقولون أن المعنى أن من عرفني و
عرف حقيقتي اللاهوتية فقد عرف الآب، لكن سبق و بينا أنه من المحال أن يكون الشخص
الواحد بعينه إلـها و بشرا بنفس الوقت، فهذا التأويل باطل.
إذن هم متفقون
معنا على أن مثل هذا التعبير لا يراد به معناه الظاهري الحرفي أي تطابق المفعول به
الأول للرؤية مع المفعول به الثاني لها، تطابقا حقيقيا تاما بكونهما شيئا واحدا، بل
يراد به معنى مجازي، فلا بد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل و تساعد عليه
النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.
مثلاً في
إنجيل لوقا (10/16) يقول المسيح عليه السلام لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين
اثنين إلى البلاد للتبشير :
" الذي يسمع منكم
يسمعني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني "
و لا يوجد
حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله عليه السلام : " من يسمعكم يسمعني "، على أن
المسيح حالٌّ بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته !
و كذلك جاء في إنجيل متى (10/40) أن المسيح عليه السلام قال
لتلاميذه:
" من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل
الذي أرسلني ".
و مثله ما جاء في إنجيل لوقا
(9/48) من قول المسيح عليه السلام في حق الولد الصغير:
"من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني و من قبلني يقبل الذي
أرسلني"
و وجه هذا المجاز واضح و هو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو
ممثلا عن نفسه فكل ما يُـعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص
المرسِـل أيضا.
فالآن نعود لعبارتنا وللنص الذي جاءت فيه، فنرى أن الكلام
كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح و أنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق
إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته و أفعاله و أقواله و تعاليمه
هي طريق السير و الوصول إلى الله، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له
متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم و ما زلت تريد رؤية الله، و معلوم أن الله تعالى ليس
جسما حتى يرى، فمن رأى المسيح و معجزاته و أخلاقه و تعاليمه التي تجلى فيها الله
تبارك و تعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله، ثم شرح المسيح ذلك ـ و هنا بيت القصيد ـ
فقال: " إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب الحال في يعمل أعماله
صدقوني أني في الآب و الآب فيَّ "، و هنا نعيد للأذهان إجابتنا عن الشبهة السابقة و
أن حلول الله في الشخص و العكس المقصود منه، بلغة الإنجيل، تـو لِّـي الله لهذا
الشخص و نشوء التوافق الكامل بينه و بين الله في الإرادة و الهدف و القصد و المشيئة
و المحبة أو بتعبير الصوفية المحو عن النفس و الفناء في الله.
و حاصل
الكلام أن المسيح لما كان رسولَ الله و كلمتَه و روحا منه و كان لا يتكلم إلا بأمره
و وحيه و كانت أعماله و معجزاته و تعاليمه كلها من عند الله و بأمر الله و برضا
الله و فيها تجلى الله و عرف مراده و تجلت صفاته، كان ممثلا عن الله، و بالتالي حسن
التجوز بالتعبير من أن من رآه فقد رأى الله.
و
نحو هذا المجاز كثير في العهد القديم كذلك، فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى على
لسان النبي إرميا:
" أكلني ابتلعني بختنصر ملك
بابل، جعلني كإناء فارغ، بلعني كتنين، ملأ بطنه من رخصتي و طردني " سفر إرميا: 51 /
34.
و جاء نحو هذا المجاز أيضا، في القرآن الكريم، كثيراً كقوله تعالى: " و
ما رميت إذا رميت و لكن الله رمى " الأنفال/ 17. أو قوله سبحانه: " إن الذين
يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " الفتح / 10، أو قوله تعالى : " من
يطع الرسول فقد أطاع الله " النساء / 80.
الشبهة السادسة
قول عيسى عليه السلام : " أما أنا فمن فوق.
أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم "
قالوا: ففي هذا النص أكد
اختلافه عنا نحن البشر و أنه ليس من هذا العالم المادي بل هو من فوق و أنه نزل إلى
الأرض من السماء، فكل هذا يدل على أنه إلـهٌ نزل و تجسَّـد.
الرد على هذه الشبهة :
بالنسبة للآية الأولى فإن عيسى عليه السلام
قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا، فقد جاء في إنجيل يوحنا هذا (15/19): " لو
كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته و لكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم
من العالم لذلك يبغضكم العالم "
و في الإصحاح
17 من هذا الإنجيل أيضا يقول عيسى في دعائه لأجل التلاميذ:
" أنا قد أعطيتهم كلامك و العالم أبغضهم لأنهم ليسوا من
العالم كما أني لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من
الشرير. ليسوا من العالم كما أني لست من العالم " يوحنا: 17 / 14 ـ 15.
فقال
في حق تلاميذه أنهم ليسوا من العالم و سوَّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا
العالم، فلو كان هذا مستلزما للألوهية كما زعموا، للزم أن يكونوا كلهم آلهة ـ و
العياذ بالله ـ [13] ، بل التأويل الصحيح لتلك الآية الإنجيلية هو: أنا لست من
أبناء هذه الدنيا، أي الراكنين إليها المطمئنين بها الراغبين بها، بل من طلاب الله
و الآخرة، الذين ليس في قلبهم تعلق و حب إلا لِلَّه، فأنا من أهل ذلك العالم العلوي
القدسي عالم الأطهار و الملائكة، لأنه هو قبلتي و وجهتي و منه جئت برسالة الله و
إليه أعود بعد أدائها.
فتعبيره نوع من المجاز، و
هو مجاز شائع معروف، يقال فلان ليس من هذا العالم، يعني هو لا يعيش في الدنيا و لا
يهتم بها و لا بمفاتنها بل همُّـهُ كله الله و الدار الآخرة فقط.