استخلاف
الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات{وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ(33)}. {
وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ}
أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك {
إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي
فيها وهو آدم، أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد
جيل.
{
قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}
أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض
بالمعاصي {
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!!
{
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك
{
وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظّم أمرك ونطهّر ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون
{
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ
عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها.
{
وَعَلَّمَ
آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
أي أسماء المسمّيات كلها،
قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة
والمغرفة {
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي عرض المسميات على
الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت {
فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أي أخبروني
{
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها {
إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أنكم أحق بالخلافة ممن
استخلفته.
والحاصل
أن الله تعالى أظهر فضل آدم للملائكة بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، وخصّه بالمعرفة
التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز
والقصور {
قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} أي
ننزهك يا الله عن النقص ونحن لا علم لنا إِلا ما علمتنا إِياه {
إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ} أي الذي لا تخفى عليه خافية {
الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إِلا
ما تقتضيه الحكمة.
{
قَالَ
يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}
أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها
{
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل
شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها {
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم
بأني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم {
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي ما
تظهرون {
وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق
خلقاً أفضل منكم. وروي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام رأت الملائكة فطرته
العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه
منه.
المنَاسَبَة:أشارت
الآيات السابقة إِلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم
غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم
أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف
والتكريم لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أصل البشرية آدم عليه
السلام.
تكريم
اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له{وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى
وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ(34)} {
وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ}أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة{
اسْجُدُوا لآدَمَ } أي
سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {
فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي سجدوا
جميعاً له غير إبليس {
أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه
{
وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث
استقبح أمر الله بالسجود لآدم.
قصة
آدم وحواء في الجنة{وَقُلْنَا
يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ
الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ
هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ(39)} {
وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
أي اسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {
وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي كلا من ثمار
الجنة أكلاً رغداً واسعاً {
حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما
الأكل فيه
{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تأكلا من هذه الشجرة،
قال أبو عباس: هي الكرمة {
فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أي فتصيرا
من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.
{
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا}
أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها. هذا إذا كان الضمير عائداً إلى
الشجرة، أما إِذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة
{
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم
الجنة.
{
وَقُلْنَا
اهْبِطُوا}
أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله {
إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} {
وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {
وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم.
{
فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}
أي استقبل آدم دعواتٍ من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن
آخر في سورة الأعراف {
قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية
{
فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل ربه توبته {
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ} أي إن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة
للعباد.
{
قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}
كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة
{
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله
عليكم {
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {
فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة
{
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزلت وبما
أرسلت {
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون
في الجحيم أعاذنا الله منها.
العظة
من قصة آدم:1- إذا
توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلاً عظيماً، كما توجهت عنايته إلى التراب
فخلق منه بشراً سوياً، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن
إدراكه.
2- الإنسان
وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع
إبليسَ عدوَّه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل
منها.
3- إن
التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب
وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط
ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.
4- الكبر
والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد
من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى
سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى
الأبد، وأوعده نار جهنم.
المناسبة:اختصت
هذه الآيات من (41-142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءاً كاملاً، لكشف
حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود
الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة
الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم
إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.
ثم
بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب
ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى
الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكَّرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها
عليهم، وذكَّرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة،
وأحياناً بالتذكير بالنعم، وطوراً بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم
وإقامة الحجة عليهم.
ما
طلب الله من بني إسرائيل{يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)وَآمِنُوا بِمَا
أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ(42)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ(43)}. {
يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ}
أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {
اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى
{
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة
{
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {
وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ} أي اخشوني دون غيري.
{
وَآمِنُوا
بِمَا أَنزَلْتُ}
من القرآن العظيم {
مُصدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد
والنبوة {
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب
فحقكم أن تكونوا أول من آمن {
وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً}
أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية
{
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي خافون دون غيري {
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا
تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه {
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي ولا
تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه الصلاة والسلام {
وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان.
{
وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب
محمد عليه الصلاة والسلام.
عرض
لشيء من أخلاق اليهود السيئة{أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ(47)وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ
يُنصَرُونَ(48)} المنَاسَبَة:لا
تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم،
حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا
يتبعونه.
سَبَبُ
النّزول:نزلت
هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على
دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا
يفعلونه.
يخاطب
الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ} أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد {
وَتَنسَوْنَ
أَنفُسَكُمْ} أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير {
وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي حال كونكم تقرؤون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه
الصلاة والسلام {
أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تفطنون وتفقهون أنّ ذلك قبيح
فترجعون عنه؟!.
الخطاب
في الآية لا ينطبق على اليهود فقط، بل على كل من سلك مسلكهم.
فالدين
كلمة تقال وسلوك يفعل فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة، لأن من يراك تفعل
ما تنهاه عنه يدرك أنك خادع وغشاش، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى: {
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:
2-3].
فلا
بد للقول من عمل وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمر أصحابه
بشيء إلا كان أسبقهم إليه، ولذا أمرنا الله تعالى باتخاذه قدوة فقال: {
لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:
21].
وكان
سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يأمر الرعية بشيء بدأ بنفسه وأهله قائلاً: "لقد
بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالاً
للمسلمين".
فلا
بد للعلماء والدعاة أن يكونوا قدوة إذا أرادوا إصلاح المجتمع، وهو المنهج الذي
انتشر به الإسلام في كثير من البلدان كالصين عبر التجار المسلمين الملتزمين بتعاليم
الإسلام.
ثم
بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان
المال فقال {
وَاسْتَعِينُوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها
{
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية،
وبالصلاة التي هي عماد الدين {
وَإِنَّهَا} أي الصلاة {
لَكَبِيرَةٌ}
أي شاقة وثقيلة {
إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي المتواضعين المستكينين الذين
صفت نفوسهم لله {
الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا
يخالجه شك {
أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم
على أعمالهم {
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي معادهم إِليه يوم
الدين.
طلب
الله تعالى منهم في الآية الاستعانة بالصبر والصلاة ثم قال: {
وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ} ولم يقل (وإنهما) فهل المقصود الصلاة فقط، أم الصبر والصلاة
معاً؟
المقصود
الأمران معاً وإنما اقتصر على واحدة لأنهما يؤديان نفس العلاج، كقوله تعالى:
{
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]
ولم يقل (إليهما) لاشتراكهما في نفس العمل وهو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر
فكذلك الأمر بالصبر والصلاة، فلا يتم الصبر بلا صلاة ولا تتقن الصلاة إلا
بالصبر.
والمراد
بالخشوع في قوله تعالى:
{إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وهو الخضوع لمن ترى أنه
فوقك بلا منازع، وهو ما يجعلك تستحضر عظمة الحق سبحانه وتعرف ضآلة قيمتك أمام قدرته
جل جلاله في إبداع هذا الكون الفسيح، وتعلم أن ما عندك هو في قبضة الله يسلبه عنك
في أي لحظة، لأننا تعيش في عالم الأغيار، فعلينا أن نخضع لمن يُغَيّر ولا يتغيّر جل
جلاله وعظمت قدرته.
ثم
ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال {
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي
{
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي فضلت آباءكم {
عَلَى الْعَالَمِينَ} أي
عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء
شرفٌ للأبناء.
{
وَاتَّقُوا
يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}
أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق {
وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً
{
وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {
وَلا هُمْ
يُنصَرُونَ} أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
هذه
الآية وردت مرتين والصدد ذاته، ولكن الآية الأولى {
وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}،
والثانية
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ...} ولا
تكرار في ذلك، لأن الأولى تتعلق بالنفس التي تريد أن تشفع لمن أسرف على نفسه فلا
يقبل منها، ثم تطلب العدل وهو الفدية فلا يقبل منها، وأما الثانية فهي تخص النفس
المسرفة، فتطلب العدل أولاً (ارجعنا نعمل صالحاً) فلا يقبل منها، ثم تبحث عن
الشفعاء فلا تنفعها الشفاعة.
ما
يستخلص من الآيات [44-48]:1- الصدق
مع الناس من الصفات الأساسية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومِنْ مقتضى هذا
الصدق أن يكون قوله مطابقاً لفعله حتى يؤثر في الآخرين، ومَنْ خالف ذلك فهو ممقوت
عند الله لقوله سبحانه: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا
لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] خصوصاً إذا كان هذا المُخالِف مِنَ
العلماء.
2- لا
بد للطاعة من صبر، ولا بد لترك المعصية من صبر، وخير معين على ذلك الدخول على الله
تعالى وطلب العون منه أثناء الصلاة بكل خضوع وتذلل وافتقار، لأن أقرب ما يكون العبد
إلى ربه وهو ساجد في صلاته.
3- موازين
الآخرة غير موازين الدنيا، فالمجرم في الدنيا يمكن تخليصه وتبرئته بالوساطات
والشفاعات عند مَنْ لا يخافون الله تعالى، وأما في الآخرة فهو خاضع لقوله تعالى:
{
وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}،
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى
بِنَا حَاسِبِينَ}.
4- الشفاعة
المرفوضة يوم القيامة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله
تعالى: {
وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ…} النفس
الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله تعالى:
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله:
{وَلا
تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقد وردت
أحاديث كثيرة تفيد ذلك.
5- تفضيل
بني إسرائيل على العالمين ليس على إطلاقه.
فمن
حيث الزمان فهو مرتبط بفترة زمانية سابقة لالتزامهم بشرع الله تعالى
{فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وغضب عليهم
ولعنهم.
ومن
حيث الأشخاص، لا تقتضي هذه الأفضلية بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم،
فهو تفضيل من حيث الجملة لا من حيث التفصيل.
نِعَمُ
الله العشر على بني إسرائيل {وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ(49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(50)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ
ظَالِمُونَ(51)ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ(53)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)} المنَاسَبَة:لَمَّا
قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على
سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي،
واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر... إِلى آخره وكل
هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.
{
وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُمْ}
أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {
مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي
صلى الله عليه وسلم إِذ أنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {
يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه. والسوء هو المشتمل
على ألوان شتى من العذاب كالجلد والأعمال الشاقة ونحوها.
{
يُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءكُمْ}
أي يذبحون الذكور من الأولاد {
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يستبقون
الإِناث على قيد الحياة للخدمة {
وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ
عظيم لكم من الله تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من
الفاجر.
قوله
تعالى {
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ورد في موضع آخر بـ
{
وإذ أنجيناكم من آل فرعون…}،
وهناك فرق كبير بين كلمة "نَجَّى" وكلمة "أَنْجى"، فكلمة نَجّى تكون وقت نزول
العذاب، وكلمة أَنْجى تمنع عنهم العذاب، الأولى للتخليص من العذاب والثانية لإبعاده
نهائياً ففضل الله عليهم كان على مرحلتين: الأولى أنه خلّصهم من عذاب واقع عليهم،
والثانية أبعدهم عن آل فرعون فخلّصهم منه نهائياً.
{
وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}
أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها
{
فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق
وأغرقنا فرعون وقومه، وذلك أن موسى عليه السلام عندما رأى فرعون وجيشه يتّجهون إلى
البحر ليعبروه أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة، فلا يلحق بهم آل فرعون، أوحى
الله تعالى إليه:
{وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ
مُغْرَقُونَ} أي اتركه كما هو حتى يتبعكم فرعون وجيشه ليهلكوا {
وَأَنْتُمْ
تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء
أوليائه وإِهلاك أعدائه.
والله
تعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون ليذهب غيض قلوبهم على أعدائهم،
وتحتمل معنى آخر وهو أن ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا
البلاء وفي نفس الوقت تطمئنون إلى أن عدوكم لن يطاردكم مرة أخرى لأنكم رأيتم مصرعه
بأُمّ أعينكم.
وفرعون:
لقب لكل مَنْ ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتُبّع
لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.
{وَإِذْ
وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}
أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون
{
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي عبدتم العجل {
مِنْ بَعْدِهِ} أي
بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {
وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في
تلك العبادة ظالمون لأنفسكم.
أصل
هذا الذهب الذي صنع لهم السامريُّ منه عجلاً من الحليّ التي أخذوها خِلسة من نساء
آل فرعون أثناء خدمتهم لهن، ولذا فتنهم الله بالمال الحرام، لأن المال الحرام لا
يأتي منه خير، بل ينقلب على صاحبه شراً ووبالاً، فلا بد من أخذ العبرة مما حصل لهم،
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله طَيّب ولا يقبل إلا طيّباً"
[رواه مسلم].
{
ثُمَّ
عَفَوْنَا عَنْكُمْ}
أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك
الاتخاذ المتناهي في القبح {
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة
الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.
{
وَإِذْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}
أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته
بالمعجزات {
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما
فيها من أحكام.
والكتاب:
هو التوراة. وأمّا الفرقان: فقد اختلفوا في تفسيره، فقيل هو مرادف للكتاب من باب
التأكيد، وقيل هي الأشياء التي يُفَرق الله بها بين الحق والباطل ولقد عَلَّمها
الحق تعالى لموسى عليه السلام، وتطلق هذه الكلمة على كل ما يُفَرق بين الحق والباطل
ولذلك سمى الله يوم بدر بقوله:
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
ثم
بَيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه
بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم
{
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي بعبادتكم للعجل {
فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {
فَاقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {
ذَلِكُمْ} أي القتل
{
خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره
خير لكم عند الخالق العظيم {
فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {
إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع
التوبة.
وقوله
تعالى:
{فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} جزاء لها على عبادة غير الله، فكان تكفير
الذنب أن ترد هذه النفس إلى بارئها بالقتل، وقد أوقفهم موسى عليه السلام صفوفاً
وأمر الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل وعندما قتل منهم قرابة سبعين
ألفاً استصرخ موسى وهارون ربهما وقالا: "البكية البكية، أي: أبكوا عسى أن يعفوا
الله عنهم، ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله.
ما
يستخلص من الآيات [49-54]:1- لكل
ظالم متكبر نهاية وخيمة، ففرعون كان هلاكه بالإغراق، وقارون بالخسف وغيرها بشتى
أنواع البلاء الذي ذكره القرآن {
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين
جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة.
ولكل
مستضعف مظلوم فرج قريب ونصر محقق طال الزمن أو قصر، كما جاء في الحديث القدسي:
"وعزتي وجلال لأنصرنك ولو بعد حين".
2- نصرة
المظلوم على عدوه نعمة إلهية تستوجب الشكر، ولذا اتخذ بنو إسرائيل يوم عاشوراء الذي
أنجاه الله فيه من الغرق عيداً يتقربون فيه إلى الله بالصيام، وعندما قدم رسول الله
صلى اللهعليه وسلم المدينة ووجدهم على ذلك، قال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟
فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى
شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم
فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بصيامه [رواه مسلم]. وقال الترمذي:
وروي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود"، واحتج بهذا
الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق.
والشكر
هو: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، كما قال سهل بن
عبيد الله.
3- المبادرة
إلى التوبة هي السبيل إلى التخلص من المعصية، والله جل جلاله {
غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، بل إنه تعالى يغفر جميع
الذنوب {
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].
4- الصبر
هو مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله عوضه الله صحبة
أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياء
وجعل منهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين [البحر المحيط
1/194].
إلا
أن الصبر لا يعني أبداً الرضا بالضيح، فالمسلم لا يعرف الذل والخنوع، بل عليه أن
يقاوم الظلم والاستبداد بالوسائل التي شرعها الله له {
إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ}.
5- إن
الله تعالى ذكر لنا في هذه الآيات طريقة تخلص بني إسرائيل من أوزارهم بالقتل ليظهر
عظيم فضله على هذه الأمة المحمدية حيث إنه تعالى خَفَّف عنها ووضع عنها الأغلال
التي كانت على الأمم السابقة، قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام:
{
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] استجابة لدعاء عباده الذي علمهم إياه في سورة البقرة {
رَبَّنَا
وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
فمن
ارتكب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وِزْراً لا يتعلق بحقوق الآخرين أجزأته
التوبة النصوح بينه وبين الله تعالى.