تتمة
النِّعَم العشر على بني إسرائيل{وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ
وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ(57)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى
لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ
مُفْسِدِينَ(60)} المنَاسَبَة:بعد
أن ذكّر تعالى بني إسرائيل بالنعم، بيَّن لوناً من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم
لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإِحسان، فما أقبحهم من أمة
وما أخزاهم!!
قال الطبري: لما تاب بنو إِسرائيل من عبادة العجل أمر الله
تعالى موسى أن يختار من قومه رجالاً يعتذرون إِليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى
سبعين رجلاً من خيارهم كما قال تعالى {
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهّروا ثيابكم ففعلوا، وخرج
بهم إِلى "طور سيناء" فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله،
ودنا القوم حتى إِذا دخلوا في الغمام وقعدوا سجوداً، وعلموا من حال موسى أن الله
يكلمه يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إِليهم فقالوا لموسى {
لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.
{
وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى}
أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إِلى الله من عبادة العجل
فقلتم {
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي لن نصدّق لك بأنَّك رسول من عند الله
{
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي حتى نرى الله
علانية.
وسؤالهم
رؤية الله جهرة، هو سؤال عناد وحماقة، لأن الله تعالى فوق المادة،
{لا
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
والدليل
على ذلك أن الإنسان ذاته مكوّن من روح ومادة، وقد أوصله علمه عبر السنين الطوال من
حلقات البحث المتسلسلة إلى إدراك بعض الجوانب المادية في جسمه، ولكنه عجز عن إدراك
حقيقة الروح فضلاً عن رؤيتها
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا
قَلِيلا}[الإسراء:
85]،
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا عجز عن
إدراك هذه الروح التي في جسده وهي مخلوقة فكيف يطمع أن يدرك، أو يرى الله جهرة وهو
الخالق المصوِّر؟!
{
فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ}
أي أرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم {
وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي ما
حلّ بكم ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إِسرائيل
وقد أهلكت خيارهم، ومازال يدعو ربه حتى أحياهم قال تعالى {
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوماً وليلة، فقُاموا
وعاشوا ينظر بعضهم إِلى بعض كيف يحيون {
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا
الله على إِنعامه عليكم بالبعث بعد الموت.
ثم
ذكّرهم تعالى بنعمته عليهم وهم في التيه لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين
وقتالهم وقالوا لموسى {
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} فَعُوقِبُوا
على ذلك بالضياع أربعين سنة يتيهون في الأرض فقال تعالى: {
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس وجعلناه عليكم
كالظُلَّة {
وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي أنعمنا عليكم
بأنواعٍ من الطعام والشراب من غير كدٍّ ولا تعب،والمنُّ كان ينزل عليهم مثل العسل
فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى: طير يشبه السماني لذيذ
الطعم.
{
كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله {
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أنهم إذ كفروا هذه النعم الجليلة، ما ظلمونا ولكن
ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم.
قال
الشيخ الشعراوي: إن الدنيا عالم أغيار، والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك، إما أن
تتركها بالموت أو تتركك وتزول عنك. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط، كل شيء زال
وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة، ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرّد على دينه قد ظلم
نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعاً في نفوذ أو مال زال عنه فترة قصيرة ولم
يدم. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة
عاجلة.
{
وَإِذْ
قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}
أي واذكروا أيضاً نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التيه، ادخلوا بيت المقدس
{
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي كلوا منها أكلاً واسعاً
هنيئاً {
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وادخلوا باب القرية ساجدين لله
شكراً على خلاصكم من التيه {
وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي قولوا يا ربنا حطَّ عنا
ذنوبنا واغفر لنا خطايانا {
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أي نمح ذنوبكم
ونَكَفِّرْ سيئاتكم {
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي نزيد من أحسن إحساناً،
بالثواب العظيم، والأجر الجزيل.
{
فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا}
أي غَيَّر الظالمون أمر الله فقالوا {
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
حيث دخلوا يزحفون على "أدبارهم" وقالوا على سبيل الاستهزاء "حِنْطة" وهي القمح،
ليطوعوا اللفظ لأغراضهم فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في
المخالفة وسخرية من أوامر الله. {
فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا
مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزلنا عليهم طاعوناً وبلاءً {
بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ} أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله، روي أنه مات بالطاعون في
ساعة واحدة منهم سبعون ألفاً.
{
وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}
أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه
{
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا
العيون منه {
فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي فضرب فتدفق
الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم.
وهنا
ينبغي أن نقف وقفة، فالإنسان حين يستسقي الله يطلب منه أن ينزل عليه ماء من السماء،
والحق جل جلاله كان قادراً على إنزاله من السماء، ولكنه تعالى أرادها معجزة لبني
إسرائيل فسقاهم من الحجر التي تحت أرجلهم، ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي بالماء من
الحجر الصلب، وأن نبع الماء من متعلقات "كُنْ فيكون" وإن اقتضت حكمته تعالى ربط
الأسباب بمسبباتها.
وصح
هذا فقد تعنت بنو إسرائيل وقالوا لموسى عليه السلام: هب أننا في مكان لا حجر فيه،
من أين ينبع الماء؟ فلا بد أن نأخذ معنا الحجر حتى عطشنا ضربت الحجر وشربنا. وقد
نسوا أن سقوا بكلمة "كُنْ" لا بالحجر، ولكنهم قوم لا يؤمنون إلا بما يرونه بأُمِّ
أعينهم.
{
قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}
أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا {
كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير
كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله {
وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ
مُفْسِدِينَ} أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي
والفساد.
ما
يستخلص من الآيات [55-60]:1- تذكير
القرآن بني إسرائيل المعاصرين بما أنعمه الله من نعم على أصولهم فيه دلالة على أن
الفرع يتأثر بسلوك الأصل إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. ولذا قال الحق تعالى:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وقال أيضاً في كنز الغلامين اليتيمين:
{وَأَمَّا الْجِدَارُ
فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، فكان صلاح
الأب أو الجد سبباً في صلاح الابن وحفظ ما تركه له من مال.
2- أفاد
قوله تعالى:
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أن الله تعالى لا
تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، وهو معنى قوله:
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:
23].
3- تفجير
الماء من الحجر، هي من المعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وكان
الله قادراً على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن
يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، لكي يسعوا إلى الأخذ بها. وكذلك الحال بالنسبة
لسائر المعجزات، وكذلك تقريب لفهم المعجزة.
4- تحريف
الكالم وتبديله صفة عريقة في بني إسرائيل، فقال لهم الله تعالى:
{وَقُولُوا
حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ} فقالوا: حِنْطَة، أي: القمح، وموسى عليه السلام بين
أظهرهم، فكيف وقد غاب عنهم؟ فاليوم يتفقون معك على شيء وغداً يحرفونه ويبدلونه
والعرب في سباتهم نائمون.
5- أفادت
آية:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} تقرير سنة الاستسقاء بإظهار سنة العبودية
والفقر والذلة مع التوبة النصوح، وتكون بخروج الإمام -أو من ينوب عنه- مع المسلمين
إلى المصلى للخطبة والصلاة والدعاء لما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازيني قال:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى
ركعتين".
وذهب
أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير،
واحتج بحديث أنس في الصحيحين، وردّ عنه القرطبي بقوله: ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان
دعاء عُجِّلت إجابته فاكتفى به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان
بيّن فعله بحديث مسلم السابق. [انظر القرطبي ج1/418].
6- دَلَّ
قوله تعالى
{كُلُوا واشْرَبوا} وقوله
{ وَلا تَعْثَوا في الأرْضِ
مُفْسِدين} على إباحة النعم والتمتع بها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها
وأضرارها.
بعض
مطامع اليهود وجزاؤهم {وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي
هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ(61)} {
وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى}
أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المنّ
والسلوى {
لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} أي على نوع واحدٍ من الطعام
وهو المنُّ والسلوى وقد وُصِفَ الطعام هنا بأنه واحد مع أنه مكوّن من صنفين لأنه
كان يأتيهم من جهة واحدة من السماء، فتطلعت أنظارهم الأرض، فقالوا: {
فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ}أي ادع الله أن
يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من
الحبوب والبقول {
مِنْ بَقْلِهَا} من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث
{
وَقِثَّائِهَا} يعني القتَّة التي تشبه الخيار {
وَفُومِهَا} أي
الثوم {
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} أي العدس والبصل
المعروفان.
أراد
الله تعالى أن يرفع من قدرهم فأنزل عليهم المنّ والسلوى من غير تعب منهم ولكنهم
فضلوا الحنين إلى طعام العبيد، فطلبوا ما تخرجه الأرض من بقلها وقثائها وفومها
وعدسها وبصلها. فعتب الحق جلّ جلاله عليهم لعلهم يرجعون.
{
قَالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
أي قال لهم موسى مُنْكِراً عليهم: ويْحَكُم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون
البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟
فائدة:
تدخل الباء بعد كلمة الاستبدال على المتروك، فتقول: اشتريت الثوب بدرهم، أي أخذت
الثوب وتركت الدرهم. فبنو إسرائيل تركوا الذي هو خير وهو المنّ والسلوى وأخذوا الذي
هو أدنى، بمعنى أنه دونه رتبة في الخيرية، لا بمعنى أنه دنيء لأن رزق الله المباح
لا يوصف بالدناءة.
{
اهْبِطُوا
مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}
أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه
الأشياء.
ومن
الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون.
وكلمة
مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض، وهي مأخوذة من الاقتطاع، لأنه مكان يقطع
امتداد الأرض الخلاء.
ثم
قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم {
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ
الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي
الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة {
وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} أي
انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله {
ذَلِكَ} أي ما نالوه من الذل
والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة {
بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم أنبياء الله ظلماً وعدواناً
{
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي بسبب عصيانهم وطغيانهم
وتمردهم عَلى أحكام الله.
فائدة: فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب: بأن ذلك كرامة لهم،
وزيادة في منازلهم، كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخذْلان
لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يُقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر
بقتال، وكلّ من أمر بقتال نُصِر.
ما
يستخلص من الآيات [61]:1- ترك
الأفضل من المطعومات وطلب الأدنى منه من بصل وعدس وثوم ونحوها، دليل على أن النفس
البشرية قد تبدّل الطيّب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود
نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزلوا إلى عكرهم -أي أصلهم- عِكْرَ السوء، واشتاقت
طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا (لن نصبر على طعام واحد)، وقولهم (لن نصبر)
يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا
زوالها ومجيء غيرها.
2- حكم
أكل الثوم والبصل وما له رائحة.
3- أفاد
قوله تعالى:
{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ} أن الله تعالى يخلق الأرزاق وغيرها بالأسباب، وبالأمر المباشر بكلمة
(كُنْ) وما يخلقه بغير سبب يكون أفضل مما خلقه بسبب، لأن الخلق المباشر عطاء خالص
من الله تعالى ولا دخل ليد الإنسان فيه، فما كان خالصاً من عطاء الله فهو قريب من
عطاء الآخرة، ولذا قال تعالى:
{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا
بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فوصف رزق الدنيا بأنه فتنة، ووصف رزق
الآخرة بأنه خير وأبقى.
4- لم
يستجب بنو إسرائيل إلى تأنيب الله لهم، وأصروا على استبدال ما هو أدنى بما هو خير،
فأجابهم الله لذلك وقال لهم:
{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ} واستعمل البيان القرآني كلمة {
اهبِطُوا} ليعبِّر عن نزولهم
من الأعلى إلى الأدنى.
5- الجزاء
الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، هو حق وعدل لأنه
مطابق لجرائمهم، وهي: الاستكبار عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم
الأنبياء لدرجة أن سوّلت لهم أنفسهم قتلهم بغير حق لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر
منهم ما يقتلون به، ولذا قال تعالى:
{بغير حق}. وقد روى الإمام أحمد عن ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة: رجل
قتله نبي أو قَتَل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين -أي بالتمثيل
بالقتلى-".
6- الفرق
بين الأنبياء والرسل: الأنبياء أسوة سلوكية يوحى إليهم ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد،
وأما الرسل فهو أسوة سلوكية يوحى إليهم بمنهج جديد، ولذلك كان كل رسول نبياً وليس
كل نبي رسولاً. والله تعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة، ويعصم رسله من القتل
بخلاف الأنبياء فهم عرضة للقتل. وقد بعث الله أنبياءه لبني إسرائيل ليقتدوا بهم
فقتلوهم لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وانحرافهم، وذلك حال المنحرف في كل زمان فإنه
يكره الملتزم ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل.
عاقبة
المؤمنين{إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ(62)} سبب
النزول:قال
سلمان الفارسي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرت من
صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}
الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليَّ الأرض، فنزلت {
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {
يَحْزَنُونَ} قال:
فكأنما كُشِفَ عني جبل.
المناسبة:اتبع
الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع
اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه،
وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكَّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديماً، وأوضح
مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأً عاماً لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن
بالله واليوم الآخر تمسَّكَ بحبل الدين المتين، وعمل صالحاً، فهو من الفائزين، سواء
أكان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أم من الذين هادوا أي تابوا من أتباع موسى
عليه السلام، أم من الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى عليه السلام أم من
الذين تركوا دينهم مطلقاً وأسلموا، قال تعالى: {
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:
38].
دعا
تعالى أصحاب المِلَل والنِّحَل "المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين" إِلى
الإِيمان الصادق وإِخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال {
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا} المؤمنون أتباع محمد {
وَالَّذِينَ هَادُوا} أي الذين تابوا من
أتباع موسى {
وَالنَّصَارَى} الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى
{
وَالصَّابِئِينَ} قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة
{
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي من آمن من هذه الطوائف
إيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة وترك عقائد الشرك من التشبيه أو الكفر
برسالة الإسلام وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصار مسلماً {
وَعَمِلَ
صَالِحًا} أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا {
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ} أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة {
وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في
الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت
الثواب.
ما
يستخلص من الآيات [62]:أفادت
هذه الآية أن مدار الفوز على الإيمان بالله واليوم الآخر وعلامة ذلك العمل الصالح،
لأن الإيمان إن لم يقترن بالعمل الصالح فهو عرضة للزوال، ولذا فقد قرن الإيمان
بالعمل الصالح في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما قُرِنت الصلاة
بالزكاة، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني
ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل".
بعض
جرائم اليهود وعقابهم{وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63)ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ
مِنْ الْخَاسِرِينَ(64)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ(66)}. المنَاسَبَة:لمّا
ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم،جزاء كفرهم
وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في
السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت
رسله.
{
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}
أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في
التوراة.
وذلك
بعد أن أنجاكم وأهلك عدوكم بالغرق ورجع موسى عليه السلام بالألواح والتوراة ووجدكم
قد عبدتم العجل، ثم أعرضتم عن اتباع ما جاء فيها زاعمين أنها فوق طاقتكم، عندها كان
التأديب الإلهي لكم بأن رفع جبل الطور فوقكم وخيّركم بين الامتثال لأوامره وبين أن
يطبق عليكم الجبل.
{
وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ}
أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم {
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما في التوراة بجدٍّ وعزيمة {
وَاذْكُرُوا مَا
فِيهِ} أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي
لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق
المتقين.
لما
رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم سجدوا خاشعين على الأرض مما يدل على قبولهم المنهج
والتكاليف الربانية، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل خشية الوقوع عليهم.
ولذلك سجود اليهود إلى يومنا هذا على جهة من الوجه، بينما تنظر الجهة الأخرى إلى
أعلى. ولو سألتهم لقالوا: نحمل التوراة ثم يهتزون منتفضين لأنهم اهتزوا ساعة دفع
الجبل عنهم، وهو الوضع ذاته في كل صلاة.
{
ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}
أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي
بقبول التوبة {
وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {
لَكُنتُمْ مِنْ
الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.
فائدة:
الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا
يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن
يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل
نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله
الجنة.
أما
الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.
ومن
رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة
والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز
العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله
تعالى.
قال
تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
{
وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}
أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن
ذلك.
والقصة
معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني
{ولقد علمتم}- وهي أنتهم
أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد
الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا
على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله
فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة
الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:
{
فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {
فَجَعَلْنَاهَا} أي
المسخة {
نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها
وعاينها {
وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها
{
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله
سبحانه وتعالى.
ما
يستخلص من الآيات [63-66]:1- ذكرت
هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل
بني إسرائيل على الله.
الأولى:
يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم،
ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال
بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما
تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى:
{وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في
غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى:
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
ولا
تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه،
ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير
بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.
الثانية:
قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى
مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ
خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك
سائرهم.
وقال
بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم
يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال
تعالى:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى
العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.
2- دلت
هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما
مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه
يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه
النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ
القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا
يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.
قصة
البقرة وإحياء الميت{وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ
الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ
إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ
جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ(73)}. المنَاسَبَة:لما
ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت،
وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا
وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها
الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة
نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح
ومساوئ.
سبب
هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان
ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها
في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف
بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب
الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.
{
وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً}
أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة.
جاء
الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان
صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد
يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى:
{لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:
23].
{
قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {
قَالَ أَعُوذُ
بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في
زمرة المستهزئين الجاهلين.
{
قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}
أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل
{
عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {
فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله
عليكم.
{
قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}
أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة
صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها
فرجعوا إلى موسى عليه السلام.
و
{
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن
حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر
الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {
إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها
{
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن
شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه
الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر
الأبد".
{
قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي
الْحَرْثَ}
أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {
مُسَلَّمَةٌ لا
شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء
كلها {
قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً
لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس
حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم
ولعله الأرجح.
ثم
أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {
وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً
{
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع
التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}
أي مظهر ما تخفونه {
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل
بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {
كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى}
أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {
وَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا
وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.
ما
يستخلص من الآيات [67-73]:1- أراد
الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء
بعدهم من المتشكيين أن الله
{وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].
ومن
هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق
بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من
القبور.
2- إن
بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في
البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك
الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة:
101].
والأسئلة
المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة
الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال
المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه
الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.
وأما
السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.
3- كان
الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن
عندهم أمر تعظيمه.
4- المال
الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك
البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة
كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء
في الحديث (… حتى
انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال:
والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها ..." [تفسير
ابن كثير 1/108].
5- أظهر
الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو
أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة
إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون
{فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله
الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة
جَلّ جلاله.
جفاء
اليهود وقسوة قلوبهم{ثُمَّ
قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ(74)}. ثم
أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت
قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}
أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة
كالحديد.
ذكر
الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة
والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما
غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح
المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه
الشيخان].
{
وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ}
أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ
مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه
الماء.
والفرق
بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي
الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان
الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء
ربنا.
{
وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية
الله.
وحدث
ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى:
{فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:
143].
فالحجارة
تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية،
وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.
ما
يستخلص من الآيات [74]:1- أساس
شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر
جوارحه.
2- القلب
معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة
العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا
ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على
قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.
فعلى
المسلم العاقل الراجي رحمة ربه أن يبادر إلى تطبيق أوامر ربه فور استماعها لقوله
تعالى:
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
3- الحجارة
في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله
تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما
فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
استبعاد
إيمان اليهود {أَفَتَطْمَعُونَ
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا
يَظُنُّونَ(78)}. المنَاسَبَة:لما
ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء
الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي
ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم
إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم
وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على
الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.
سبب
النزول:نزلت
في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل
الله تعالى {
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..}
الآية.
وروى
مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما
نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى
{و
قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ}.
يخاطب
الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}
أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {
وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ الل