الولاية
على مال اليتيم{فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ(220)} {
فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}
أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعلموا أن الأولى فانية والآخرة باقية فتعملوا
لما هو أصلح، والعاقل من آثَر ما يبقى على ما يفنى. {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ
الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي ويسألونك يا محمد عن مخالطة
اليتامى في أموالهم أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ فقل لهم: مداخلتهم على وجه الإصلاح
خير من اعتزالهم {
وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي إذا خلطتم
أموالهم بأموالكم على وجه المصلحة لهم فهم إِخوانكم في الدين، وأخوة الدين أقوى من
أخوّة النسب، ومن حقوق هذه الأخوّة المخالطة بالإِصلاح والنفع {
وَاللَّهُ
يَعْلَمُ الْمُفسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} أي والله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد
بمخالطتهم الخيانة والإِفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإِصلاح فيجازي
كلاً بعمله {
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} أي لو شاء تعالى لأوقعكم
في الحرج والمشقة وشدَّد عليكم ولكنه يسّر عليكم الدين وسهّله رحمة بكم {
إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي هو تعالى الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء الحكيم
فيما يشرّع لعباده من الأحكام.
سبب
النزول:في
رواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مِرْثَد بن أبي مِرْثَد الغنوي إلى
مكة، ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها: عَنَاق،
فأتته، وقالت: ألا تخلو؟ فقال: ويحك، إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن
تتزوج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمرُه،
فاستأمَرَه، فنزلت".
زواج
المسلم بالمشركة{وَلا
تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ(221)} ثم
قال تعالى محذراً من زواج المشركات اللواتي ليس لهن دين سماوي {
وَلا تَنكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي لا تتزوجوا أيها المسلمون بالمشركات من
غير أهل الكتاب حتى يؤمنَّ بالله واليوم الآخر {
وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي ولأمة مؤمنة خير وأفضل من حرة
مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب أو
جاه أو سلطان {
وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} أي ولا
تتزوجوا بناتكم من المشركين - وثنيّين كانوا أم من أهل كتاب - حتى يؤمنوا بالله
ورسوله {
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي
ولأن تزوجوهنَّ من عبد مؤمنٍ خير لكم من أن تزوجوهن من حرٌ مشرك مهما أعجبكم في
الحسب والنسب والجمال.
{
أُوْلَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
أي أولئك المذكورون من المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم
يدعونكم إِلى ما يوصلكم إِلى النار وهو الكفر والفسوق فحقكم ألا تتزوجوا منهم ولا
تزوجوهم {
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}
أي هو تعالى يريد بكم الخير ويدعوكم إِلى ما فيه سعادتكم وهو العمل الذي يوجب الجنة
ومغفرة الذنوب {
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
أي يوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر والخبيث
والطيب.
سبب
النزول:نزول
الآية: (222):روى
مسلم والترمذي عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا ذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها
ولم يجامعوها في البيوت، فسأل الأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل
الله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض} الآية، فقال: "اصنعوا كل شيء إلا
النكاح".
نزول
الآية (223):روى
الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها -
أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قُبُلها -: إن الولد يكون أحول، فنزلت: {نساؤكم
حرث لكم ..} الآية.
الحيض
وأحكامه{وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ(222)نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223)} ثم
بيّن تعالى أحكام الحيض فقال {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى} يا محمد عن إِتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ فقل لهم: إِنه
شيء مستقذر ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى للزوجين {
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ} أي اجتنبوا معاشرة النساء في حالة الحيض {
وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي لا تجامعوهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض
ويغتسلن. والمرادُ التنبيه على أن الغرض عدم المعاشرة لا عدم القرب منهن وعدم
مؤاكلتهن ومجالستهن كما كان يفعل اليهود إِذا حاضت عندهم
المرأة.
{
فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
أي فإِذا تطَهَّرن بالماء فأتوهنَّ في المكان الذي أحله الله لكم، وهو مكان النسل
والولد القُبُل لا الدبر {
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} أي يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزهين عن الفواحش
والأقذار {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي نساؤكم مكان
زرعكم وموضع نسلكم وفي أرحامهن يتكوّن الولد، فأتوهن في موضع النسل والذرية ولا
تتعدوه إِلى غيره
قال ابن عباس: "اسق نباتك من حيث ينبت" ومعنى {
أَنَّى
شِئْتُمْ} أي كيف شئتم قائمةً وقاعدةً ومضطجعة بعد أن يكون في مكان الحرث
"الفرج" وهو ردٌّ لقول اليهود: إِذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دبرها جاء
الولد أحول {
وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ} أي قدموا صالح الأعمال التي تكون لكم
ذخراً في الآخرة {
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ}أي
خافوا الله باجتناب معاصيه وأيقنوا بأن مصيركم إِليه فيجازيكم بأعمالكم
{
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشرهم بالفوز العظيم في جنات
النعيم.
سبب
النزول:نزول
الآية (224):روى
ابن جرير الطبري عن ابن جُرَيج، أن قوله تعالى: {
وَلا تَجْعلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} نزلت بسبب أبي بكر الصديق إذ حلف ألا ينفق على
مِسْطح، حين غاص مع المنافقين في حديث الإفك وتكلم في عائشة رضي الله عنها، وفيه
نزل: {
وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا
أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور: 22].
حكم
اليمين{وَلا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224)لا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225)} {
وَلا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً عن فعل الخير فتتعللوا باليمين بأن يقول
أحدكم: قد حلفتُ بالله ألاّ أفعله وأريد أن أبرّ بيميني بل افعلوا الخير وكفّروا عن
أيمانكم قال ابن عباس: لا تجعلنَّ الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن
يمينك واصنع الخير {
أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ} أي لا تجعلوه تعالى سبباً مانعاً عن البر والتقوى والإِصلاح بين
الناس وقيل نزلت في "عبد الله بن رواحة" حين حلف ألا يكلّم ختنه "النعمان بن بشير"
ولا يصلح بينه وبين أخته {
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}أي سميع
لأقوالكم عليم بأحوالكم .
ثم
قال تعالى {
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}أي لا يؤاخذكم بما جرى على لسانكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف كقول
أحدكم: بلى والله، ولا والله لا يقصد به اليمين {
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}أي يؤاخذكم بما قصدتم إِليه وعقدتم القلب عليه من
الأيمان إِذ حنثتم فيها {
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}أي واسع المغفرة لا
يعاجل عباده بالعقوبة.
سبب
النزول:قال
ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السّنة والسّنتين وأكثر من ذلك، فوقَّت الله
أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وقال سعيد بن المسيب:
كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها
غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، وكان يتركها كذلك، لا أيّماً ولا ذات بعل، فجعل
الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل الله
تعالى: {
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}
الآية.
وذكر
مسلم في صحيحه أن النبَّي صلى الله عليه وسلم آلى وطلَّق، وسبب إيلائه سؤال نسائه
إياه من النفقة ما ليس عنده.
حكم
الإيلاء{لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(226)وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ(227)} {
لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
أي للذين يحلفون ألاّ يجامعوا نساءهم للإضرار بهن انتظار أربعة أشهر{
فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}أي إن رجعوا إلى عشرة أزواجهن
بالمعروف-وهو كناية عن الجماع-أي رجعوا عن اليمين إلى الوطء فإن الله يغفر ما صدر
منهم من إساءة ويرحمهم .
{
وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}أي وإن صمّموا على عدم المعاشرة والامتناع عن الوطء فإن الله سميعٌ لأقوالهم
عليم بنيّاتهم، والمراد من الآية أن الزوج إذا حلف ألا يقرب زوجته تنتظره الزوجة
مدة أربعة أشهر فإن عاشرها في المدة فبها ونعمت ويكون قد حنث في يمينه وعليه
الكفارة، وإن لم يعاشرها وقعت الفرقة والطلاق بمضي تلك المدة عند أبي حنيفة، وقال
الشافعي: ترفع أمره إلى الحاكم فيأمره إِما بالفيئة أو الطلاق فإن امتنع عنهما طلّق
عليه الحاكم هذا هو خلاصة حكم الإِيلاء.
عدة
المطلقة وحق المرأة {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ(228)} ثم
قال تعالى مبيناً أحكام العدّة والطلاق الشرعي {
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}أي الواجب على المطلقات الحرائر
المدخول بهن أن ينتظرن مدة ثلاثة أطهار-على قول الشافعي ومالك- أو ثلاث حِيَض على
قول أبي حنيفة وأحمد ثم تتزوج إن شاءت بعد انتهاء عدتها، وهذا في المدخول بها أما
غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى {
فما لكم عليهن من عدة} {
وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}أي لا يباح للمطلقات أن يخفين ما في أرحامهن من حبلٍ أو حيض استعجالاً في العدة
وإِبطالاً لحق الزوج في الرجعة {
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ}أي إن كنَّ حقاً مؤمناتٍ بالله ويخشين من عقابه، وهذا تهديد
لهنَّ حتى يخبرن بالحق من غير زيادة ولا نقصان لأنه أمر لا يُعلم إلاّ من جهتهنَّ
{
وَبُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا
إِصْلاحًا}أي وأزواجهن أحقُّ بهنَّ في الرجعة من التزويج للأجانب إذا
لم تنقض عدتهن وكان الغرض من الرجعة الإِصلاح لا الإِضرار، وهذا في الطلاق الرجعي
{
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}أي ولهنَّ
على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، بالمعروف الذي أمر تعالى به من حسن العشرة
وترك الضرار ونحوه {
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}أي وللرجال
على النساء ميزةٌ وهي فيما أمر تعالى به من القوامة والإِنفاق والإِمرة ووجوب
الطاعة فهي درجة تكليفٍ لا تشريف لقوله تعالى {
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] {
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}أي غالب ينتقم ممن عصاه حكيم في أمره وتشريعه.
سبب
النزول:لم
يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال،
وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقاً جديداً، مرة تلو مرة إلى
أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.
نزول
الآية (229):أخرج
الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: "كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلق،
وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل
لامرأته: والله لا أطلقك، فتبيني مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك،
فكلما همت عدتك أن تنقضي، راجعتك، فذهبت المرأة، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم،
فسكت حتى نزل القرآن: {
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
وقوله
تعالى: {
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ...} الآية: أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ
عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من امرأته نِحْلَه - عطاءه - الذي نحلها وغيره، لا
يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن
شيئاً}.
وقوله
تعالى: {
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ يُقِيمَا...} الآية: أخرج ابن جرير الطبري عن
ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَتَرُدِّين عليه حديقته"؟ قالت: نعم، فدعاه، فذكر
ذلك له، قال: وتطيب لي بذلك؟ قال:نعم، قال: قد فعلت، فنزلت: {
وَلا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ...} الآية.
وروى
البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أُبيّ بن سلول
زوج ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس،
ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضاً، وأكره الكفر في الإسلام، قال:
أَتَرُدِّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: "اقبل الحديقة وطلقها
تطليقة".
نزول
الآية (230):أخرج
ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن
عَتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقاً بائناً، فتزوجت
بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:
إنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى الأول؟ قال: لا حتى يمس، ونزل فيها: {
فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
فيجامعها {
فَإِنْ طَلَّقَهَا} بعدما جامعها {
فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَنْ يَتَرَاجَعَا }.
طريقة
الطلاق الشرعية، وما يترتب عليها من أحكام{الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ(229)فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا
إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230)} ثم
بيّن تعالى طريقة الطلاق الشرعية فقال {
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي الطلاق المشروع الذي يملك به الزوج
الرجعة مرتان وليس بعدهما إِلا المعاشرة بالمعروف مع حسن المعاملة أو التسريح
بإِحسان بألا يظلمها من حقها شيئاً ولا يذكرها بسوء ولا ينفّر الناس
عنها.
{
وَلا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ}أي لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما دفعتم إليهن من المهور شيئاً ولو
قليلاً {
إِلاَ أَنْ يَخافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}أي إلا
أن يخاف الزوجان سوء العشرة وألا يرعيا حقوق الزوجية التي أمر الله تعالى بها
{
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}أي فإن خفتم سوء العشرة بينهما وأرادت الزوجة أن
تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلقها فلا إثم على الزوج
في أخذه ولا على الزوجة في بذله.
{
تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}
أي هذه الأحكام العظيمة من الطلاق والرجعة والخلع وغيرها هي شرائع الله وأحكامه فلا
تخافوها ولا تتجاوزوها إلى غيرها ممّا لم يشرعه الله {
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}أي من خالف أحكام الله فقد
عرَّض نفسه لسخط الله وهو من الظالمين المستحقين للعقاب
الشديد.
{
فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ}أي فإن طلّق الرجل المرأة ثالث مرة فلا تحل له بعد ذلك حتى تتزوج غيره وتطلق
منه، بعد أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته كما صرّح به الحديث الشريف، وفي ذلك زجر عن
طلاق المرأة ثلاثاً لمن له رغبة في زوجته لأن كل ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر
{
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا
أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}أي إن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن
تعود إلى زوجها الأول بعد انقضاء العدّة إن كان ثمة دلائل تشير إلى الوفاق وحسن
العشرة {
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي تلك
شرائع الله وأحكامه يوضحها ويبينها لذوي العلم والفهم الذين ينظرون في عواقب
الأمور.
سَبَب
النّزول:روي
أن "معقل بن يسار" زوَّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقه لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم
خطبها مع الخطّاب فقال له: يا لُكَع " أي يا لئيم" أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها !!
والله لا ترجع إليك أبداً فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله
{
وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ..
} الآية فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك
وأكرمك.
واجب
الرجل في معاملة المطلقة وولاية التزويج{وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231)وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(232) } {
وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}أي إذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً وقاربن انقضاء العدة
{
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}أي
فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل
العدة عليهن {
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} أي لا تراجعوهن
إِرادة الإِضرار بهن لتظلموهن بالإِلجاء إِلى الافتداء، وفيه زجرٌ لما كان عليه
الناس حيث كان الزوج يترك المعتدة حتى إِذا شارفت انقضاء العدّة يراجعها للإِضرار
بها ليطوّل عليها العدة لا للرغبة فيها {
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} أي من يمسكها للإِضرار بها أو ليكرهها على الافتداء فقد ظلم بذلك
العمل نفسه لأنه عرّضها لعذاب الله {
وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا} أي لا تهزؤوا بأحكام الله وأوامره ونواهيه فتجعلوا شريعته مهزوءاً بها
بمخالفتكم لها .
{
وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ}
أي اذكروا فضل الله عليكم بهدايتكم للإِسلام وما أنعم به عليكم من القرآن العظيم
والسنة المطهّرة {
يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يرشدكم ويذكّركم بكتابه وهدي رسوله
إِلى سعادتكم في الدارين {
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي خافوا الله وراقبوه في أعمالكم واعلموا أنه تعالى لا تخفى
عليه خافية من أحوالكم.
ثم
أمر تعالى الأولياء بعدم عضل النساء الراغبات في العودة إِلى أزواجهن فقال
{
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إِذا طلقتم النساء
وانقضت عدتهن {
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي فلا تمنعوهن يا معشر الأولياء من
العودة لأزواجهن إِذا صلحت الأحوال بين الزوجين وظهرت أمارات الندم ورضي كل منهما
العودة لصاحبه والسير بما يرضي الله {
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ما نهيتكم عنه من الإِضرار والعضل
يُنصح به ويوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لأنه هو المنتفع بالمواعظ الشرعية
{
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي الاتعاظ بما ذكر والتمسك بأوامر
الله خير وأنفع لكم وأطهر من الآثام وأوضار الذنوب {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشرائع
وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا أمره تعالى ونهيه في جميع ما تأتون وما
تذرون.
مدة
الرضاعة ونفقة الأولاد وانفصال الزوجين {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ
فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ(233)} {
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}
أي الواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهنّ لمدة سنتين كاملتين {
لِمَنْ أَرَادَ
أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي إِذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ولا زيادة عليه
{
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي
وعلى الأب نفقة الوالدات المطلقات وكسوتهن بما هو متعارف بدون إِسراف ولا تقتير
لتقوم بخدمته حق القيام {
لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَ وُسْعَهَا} أي تكون
النفقة بقدر الطاقة لأنه تعالى لا يكلّف نفساً إِلا وسعها.
{
لا
تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}
أي لا يضرَّ الوالدان بالولد فيفرِّطا في تعهده ويقصّرا في ما ينبغي له، أو لا
يضارَّ أحدهما الآخر بسبب الولد فترفض الأم إِرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، أو ينتزع
الأب الولد منها إِضراراً بها مع رغبتها في إِرضاعه ليغيظ أحدهما صاحبه، قاله مجاهد
{
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي وعلى الوارث مثلُ ما على والد الطفل
من الإِنفاق على الأم والقيام بحقوقها وعدم الإِضرار بها والمراد به وارثُ الأب
وقيل: وارثُ الصبي، والأول اختيار الطبري.
{
فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا}
أي فإِذا اتفق الوالدان على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له بعد التشاور
فلا إِثم عليهما {
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي وإِن
أردتم أيها الآباء أن تطلبوا مرضعةً لولدكم غير الأم بسبب عجزها أو إِرادتها الزواج
فلا إِثم عليكم شريطة أن تدفعوا لها ما اتفقتم عليه من الأجر، فإِن المرضع إِذا لم
تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإِرضاعه {
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي راقبوا الله في جميع أفعالكم فإِنه
تعالى لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأحوالكم.
عدة
المتوفَّى عنها زوجها{وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234)} {
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}أي على النساء اللواتي يموت أزواجهن أن يمكثن في العدّة أربعة أشهر وعشرة أيام
حداداً على أزواجهنَّ وهذا الحكم لغير الحامل أما الحامل فعدتها، وضع الحمل لقوله
تعالى {
وأولاتُ الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ} {
فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}أي فإذا انقضت عدتهن فلا إِثم عليكم أيها الأولياء في
الإِذن لهن بالزواج وفعل ما أباحه لهنّ الشرع من الزينة والتعرض للخطّاب
{
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}أي عليم بجميع أعمالكم
فيجازيكم عليها.
خطبة
المتوفَّى عنها زوجها {وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ
لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(235)} {وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ}
أي لا إِثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفّى عنهن أزواجهن في
العدّة، بطريق التلميح لا التصريح قال ابن عباس: كقول الرجل: وددتُ أن الله يسَّر
لي امرأةً صالحة، وإِن النساء لمن حاجتي {
أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي
أَنفُسِكُمْ}أي ولا إِثم عليكم أيضاً فيما أخفيتموه في أنفسكم من رغبة
الزواج بهن.
{
عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ
أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا}أي قد علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن فرفع عنكم الحرج،
فاذكروهنَّ ولكنْ لا تواعدوهنَّ بالنكاح سرّاً إِلا بطريق التعريض والتلويح
وبالمعروف الذي أقره لكم الشرع {
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدّة
{
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} أي
احذروا عقابه في مخالفتكم أمره {
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
أي يمحو ذنب من أناب ولا يعاجل العقوبة لمن عصاه.
حكم
المطلقة قبل الدخول {لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ(236)وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَ أَنْ يَعْفُونَ
أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ(237)} ثم
ذكر تعالى حكم المطلقة قبل المساس فقال {
لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي لا
إِثم عليكم أيها الرجال إِن طلقتم النساء قبل المسيس "الجماع" وقبل أن تفرضوا لهنَّ
مهراً، فالطلاق في مثل هذه الحالة غير محظور إِذا كان لمصلحة أو ضرورة
{
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ
مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي فإِذا طلقتموهنَّ
فادفعوا لهنَّ المتعة تطييباً لخاطرهن وجبراً لوحشة الفراق، على قدر حال الرجل في
الغنى والفقر، الموسر بقدر يساره، والمعسر بقدر إِعساره، تمتيعاً بالمعروف حقاً على
المؤمنين المحسنين.
{
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
أي وإِذا طلقتموهن قبل الجماع وقد كنتم ذكرتم لهنَّ مهراً معيناً فالواجب عليكم أن
تدفعوا نصف المهر المسمّى لهن لأنه طلاقٌ قبل المسيس {
إِلاَ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ
يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي إِلا إِذا أسقطت المطلّقة
حقها أو أسقط وليُّ أمرها الحق إِذا كانت صغيرة، وقيل: هو الزوج لأنه هو الذي يملك
عُقدة النكاح وذلك بأن يسامحها بكامل المهر الذي دفعه لها واختاره ابن جرير،
وقال الزمخشري: القول بأنه الوليُّ ظاهر الصحة {
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى} الخطاب عام للرجال والنساء
قال ابن عباس: أقربهما للتقوى
الذي يعفو {
وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ} أي لا تنسوا أيها المؤمنون الجميل والإِحسان بينكم، فقد ختم تعالى
الآيات بالتذكير بعدم نسيان المودة والإِحسان والجميل بين الزوجين، فإِذا كان
الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة
ووشائج القربى.