تحريف
أحبار اليهود للتوراة{فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79)وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ
عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ(80)بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ(82)}. سبب
النزول:نزلت
الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: "الذين غيّروا
صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدلوا نعته"، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين،
ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فَمَحَوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً أزرق، سبط
الشعر.
ونزلت
الآية (80) كما
قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما
مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا
يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل
الله في ذلك: {
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إلى قوله
{
خَالِدُونَ}. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار،
إلا تَحِلَّة القَسَم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت،
انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.
ذكر
تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا
فقال: {
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أي هلاك
وعذاب لأولئك الذي حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم {
ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي يقولون لأتباعهم الأميِّين هذا الذي
تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها
بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً {
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلاً} أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني {
فوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب
{
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام
والسحت.
فائدة:
الويل يعني الحسرة وقت رؤية العذاب، وقيل: هو واد في جهنم يهوي الإنسان فيه سبعين
خريفا.
{
وَقَالُوا
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}أي لن ندخل النار إلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام
فقط.
فائدة:
المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء بحيث يحس أحدهما بالآخر إحساساً لا
يكاد يذكر. وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، وأقل الأقل في مدة العذاب، فقالوا
أياماً معدودة. وهو دليل غبائهم لأن مدة المسّ لا تكون إلا لحظة ولكنها أماني وضعها
الشيطان في عقولهم، فجاء الرد الإلهي:
{
قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}
أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد
بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك{
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} لأن الله
لا يخلف الميعاد {
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أم
تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله،
والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم
بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهموأنهم لا يخلدون فيها
فقال: {
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما
يخلد الكافر الذي ارتكب إلى جانب كفره السيئات {
وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ} أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل
فعلكم أيها اليهود {
فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً.
فائدة:
"بلى" حرف جواب في النفي، أي ينفي الذي قبله. أي قولكم {لمن تمسنا النار إلا أياماً
معدودة} غير صحيح، بل ستخلدون فيها. ومن هنا فإذا قال لك إنسان: ليس لك عندي شيء.
وأردت أن تنفي ذلك، فعليك أن تقول: بلى. ولو قلت: نعم. تكون قد أثبتْتَ ما
ادعاه.
{
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم
في روضات الجنات يحبرون {
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا
أرحم الراحمين.
ما
يستخلص من الآيات [79-82]:1- أفاد
قوله تعالى
{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} مَدَى تعمد هؤلاء اليهود
للإثم. لأن الإثم قد يرتكب بالأمر وقد يرتكب بالفعل. فرئيس الدولة غالباً لا يكتب
الكتب بيده وإنما تكتب بأمره ولكن هؤلاء الأحبار حرفوا وبدلوا كلام الله بأيديهم
ليتأكدوا أن الأمر قد تم كما يريدون، فليست المسألة نزوة عابرة ولكنها مع سبق
الإصرار والترصد، وموقمة العصيان.
2- تضمنت
الآية
{فويل للذين يكتبون الكتاب…} التحذير
من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدّل وغيّر وابتدع في دين الله
ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد إلا أن هذا التبديل والتحريف على نوعين،
الأول: تبديل وتحريف في الحروف والألفاظ وهو الأشد، والثاني: تحريف وتبديل في
المعاني والأحكام التي تستخلص من الألفاظ والحروف. ولئن سلمت هذه الأمة من الوقوع
في الأول لقوله تعالى
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقد وقع بعض
هذه الأمة في الثاني والعياذ بالله، وما تلك الفتاوى الباطلة -كإباحة الفوائد
الربوية القليلة، والاستعانة بالمشركين لقتال المسلمين- التي يبتغي بها عرض من
الدنيا قليل أو التزلف للحكام والسلاطين، ببعيد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "افترقت بنوا إسرائيل إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين
فرقة، كلهم في لنار إلا واحدة" فاللهم اجعلنا من الفرقة
الناجية.
3- أفاد
قوله تعالى
{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته…} أن
المعصية وحدها لا تخلد صاحبها في النار ما لم تكن مقرونة بالشرك، ومن هنا فأنسب
تفسير لـ {أحاطت به خطيئته} هو الشرك بالله، لأنه هو الذي يحيط بالإنسان من كل جانب
ويحجب عنه رحمة الله، ودليل ذلك قوله تعالى
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ولما كان هؤلاء اليهود -ومن سار على
طريقهم- عصاة ومشركين استحقوا الخلود في النار
{فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون}.
4- أرشدت
الآية الأخيرة
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات…} إلى
أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقيف، وقد سأله: يا رسول الله قل لي في الإسلام
قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قل: قل آمنت بالله ثم استقم".
5- يستخلص
من الآيتين الأخيرتين منهج تربوي فريد في معالجة النفس البشرية في جميع مراحلها،
ألا هو الجمع بين الوعد الوعيد أو الترغيب والترهيب، وقد تكرر ذلك في القرآن
كثيراً.
مخالفة
اليهود للميثاق{وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(83)وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84)ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ
تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا
خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(86)}. المنَاسَبَة:لا
تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم
وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا
النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في
الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.
{
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}
أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد
والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله {
لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} بأن لا
تعبدوا غير الله.
وهذه
العبادة تستلزم إفراد الله بالألوهية والإيمان بموسى عليه السلام وبالتوراة وبمن
جاء وصفه في التوراة وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{
وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا}
أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً.
الإحسان
هو ما زاد على الواجب، فنحن مطالبون بأن نؤدي إليهم الواجبات وما زاد عنها من
نوافل. ولأهمية الإحسان إلى الوالدين فقد قرنه بعباده في عدة مواضيع منها قوله
تعالى:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً…} [الإسراء:
43].
{
وَذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}
أي وأن يحسنوا أيضاً إِلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم
صغار.
لأن
الآباء هم الذين يكافحون في الحياة ليرعوا أولادهم. فإذا رعى المجتمع الإسلامي
اليتيم عَمّت الطمأنينة بين أفراده، فلا أبٌ يخشى على أولاده بعد موته، ولا يتيم
يخشى على ماله من الضياع أو على نفسه من الإهمال إذا خلفه أبوه فقيراً، ولا غني
يخشى على ماله من زواله بالاختلاس أو الحسد لأن التكافل أورث بين أفراد المجتمع
المحبة والألفة.
والمساكين
الذين عجزوا عن الكسب.
{
وَقُولُوا
لِلنَّاسِ حُسْنًا}
أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب {
وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء
الرُّكْنَيْن العظيمين "الصلاة، والزكاة" لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية
{
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي
ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم
ثبتوا عليه.
فائدة:
توليتم، يعني أعرضتم، إلا أن التولي قد يكون بنية حسنة كما في قوله تعالى
{ومن
يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]. فالتولي بنية الهرب مذموم، ولكنه إذا كان بنية إعانة فئة أخرى من
المسلمين أو تغيير الموقع للانقضاض على العدو فهو محمود.
والحق
سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يلفت نظرنا إلى أن اليهود تولوا بنية الإعراض
لا بنية أخرى ولذا قال تعالى
{ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} فأكد
نواياهم السيئة بقوله
{وأنتم معرضون}.
{
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ}
أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم
بعضاً.
فائدة:
لماذا قال الله تعالى
{لا تسفكون دماءكم} مع أن المراد قتل
الغير؟
وكذلك
قوله
{ولا تُخرجون أنفسكم} مع أن المراد إخراج الغير.
والجواب
أن الله تعالى تخاطب الجماعة المؤمنة على أنها وحدة واحدة كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه البخاري] فمن قتل أخاه فكأنما قتل
نفسه.
{
وَلا
تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}
ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإِخراج من الديار، والإِجلاء عن الأوطان {
ثُمَّ
أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي ثمّ اعترفتم بالميثاق وبوجوب المحافظة
عليه، وأنتم تشهدون بلزومه.
{
ثُمَّ
أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ}
أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إِقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في
الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل {
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن
دِيَارِهِمْ} أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفاتٍ إِلى العهد الوثيق
{
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تتعاونون عليهم
بالمعصية والظلم {
وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} أي إِذا وقعوا في
الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر {
وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ
أِخْرَاجُهُمْ} أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك
الأسرى في أيدي عدوهم؟.
{
أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}
؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعض؟ والغرض التوبيخ لأنهم جمعوا بين
الكفر والإِيمان، والكفر ببعض آيات الله كُفْرٌ بالكتاب كله، ولهذا عقّب تعالى ذلك
بقوله {
فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} أي ما عقوبة مَن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان،
ومقتٌ وغضب في الدنيا {
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ} أي وهم صائرون في الآخرة إِلى عذاب أشدّ منه، لأنه عذاب خالد لا
ينقضي ولا ينتهي {
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}وفيه
وعيد شديد لمن عصى أوامر الله.
فائدة:
كانت
(بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير
الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل
اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، يخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من
الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت
الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال
تعالى {
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعضٍ}.
ثم
أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال {
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف
القبيحة هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة بمعنى اختاروها وآثروها على
الآخرة {
فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لا يُفتَّر عنهم العذاب
ساعة واحدة {
وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا
مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.
ما
يستخلص من الآيات [83-86]:1- الأمور
التي أمر الله بها بني إسرائيل في الآية (83) وأخذ منهم العهد عليها أمر بها تعالى
جميع الخلق، وهي تكوِّن النظام الديني والاجتماعي والأخلاقي وقد رتبها ترتيباً
دقيقاً متناسقاً، فقدم حق الله تعالى في أفراده بالعبودية لأنه هو المنعم والمتفضل
على جميع خلقه، ثم ذكر الوالدين لأنهما سبب وجود الإنسان، وهم اللذان رعاياه صغيراً
حتى كبر واشتد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم ثم المساكين
لضعفهم، ثم أمر تعالى بالقول الحسن لإبعاد الشيطان عن بني البشر مصداقاً لقوله
تعالى:
{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء:
53]، ثم ختم جل جلاله تلك الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الأولى تقوي
الصلة بين العبد وربه ومَنْ قويت صلته بربه التزم أوامره التي تحثه على الإحسان
لخلقه. والثانية تقوى الصلة بينه وبين الخلق وتخرج الدنيا من قلبه، وبهذا يحدث
الترابط والتكافل بين أفراد المجتمع وهو ما يقصد إليه الشارع
الحكيم.
2- السبب
الأساسي في الإعراض عن شرع الله تعالى هو التعلق بالدنيا وجعلها غاية وهدفاً حتى
يشرب القلب بحبها، ولذا ختم المقطع القرآني بـ
{أولئك الذين اشتروا الحياة
الدنيا بالآخرة} فحب الدنيا رأس كل خطيئة كما جاء في الحديث الشريف، ولذا حذر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من التعلق بالدنيا، فقال: "ما الفقر أخشى عليكم
ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما
تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
فالتعامل
مع الدنيا أمر مطلوب شرعاً، ولكن على أن تكون وسيلة للبناء والترابط والتكافل، لا
على أن تكون هدفاً وغاية في حد ذاته تستعمل في سبيل تحقيقها كل الطرق المشروعة وغير
المشروعة، بحيث يصبح المرء لا يجد أي حرج في سفك الدماء والبطش بكل مَنْ تسول له
نفسه بمنافسته فيها، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
3- الشريعة
كل متكامل فلا يجوز أن نطبق بعضها ونعرض عن الآخر بحجة أنها لم تعد صالحة لهذا
الزمان، لأن هذه المقولة من أساسها باطلة عِلميَّاً وواقعاً.
فمن
جزّأ الشريعة وهو يعتقد صحة ما ذهب إليه فقد كفر بإجماع المسلمين وهو ما أشار إليه
البيان القرآني
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
ومن
جزّأها من حيث التطبيق تكاسلاً وهو يعتقد صلاحيتها فقد فسق
وانحرف.
موقف
اليهود من الرسل والكتب المنزلة{ولَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ(88)وَلَمَّا
جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ(89)} المنَاسَبَة:لا
تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات الكريمة تذكير لهم بضربٍ من
النعم التي أمدّهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام، كعادتهم في مقابلة
الإِحسان بالإِساءة، والنعمة بالكفران والجحود.
سبب
نزول الآية (89):قال
ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غَطَفان، فكلما التقوا هُزِمت يهود خيبر، فعاذت
اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه
لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم" فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا
غطفان. فلما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى:
{
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بك يا
محمد، إلى قوله: {
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ}.
وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا
يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر
اليهود:اتقوا الله وأَسلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك،
وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء
نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: {
وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة 2/89].
وقال
السُّدِّي: "كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت
محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله
عليه وسلم كفروا به حسداً، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من
بني إسماعيل".
بعد
أن بيّن الله لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام، أراد جل جلاله أن
يبيّن لنا موقفهم مع رسل وأنبياء كثيرين جاؤوا بعد موسى عليه السلام، فقال
تعالى:
{
وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}
أي أعطينا موسى التوراة {
وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي أتبعنا
وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل.
بل
كانت الرسل والأنبياء تأتيهم واحداً بعد الآخر على فترات قريبة وربما اجتمع أكثر من
نبي في فترة واحدة ليذكروهم وينهوهم عن غيِّهم وانحرافاتهم وما أحدثوه من فساد بعد
موسى عليه السلام. وقد اعتبر اليهودُ كثرة الرسل والأنبياء فيهم ميزة ومفخرة لهم
على سائر الأمم، ولكنهم قوم مغفّلون مغرورون لأن كثرة الأنبياء والرسل دلالة على
كثرة الفساد الذي انتشر فيهم. ذلك أن الله يرسل رسله لتذكير الناس وأمرهم بالمعروف
ونهيهم عن المنكر، ألا ترى إلى المريض الذي تعددت أمراضه كيف يكثر حوله الأطباء؟
فلا حجة لهم يوم القيامة.
{
وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}
أي أعطينا عيسى الآيات البينات والمعجزات الواضحات الدالة على نبوته
{
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويناه وشددنا أزره بجبريل عليه
السلام.
فإن
قيل: ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين روح القدس فلماذا التخصيص؟ والجواب أن
جبريل عليه السلام كان مصاحباً لعيسى عليه السلام منذ بداية تخلقه في بطن أمه إلى
أن رفعه الله إليه في السماء، فولادته لم تكن مألوفة لدى الناس مما جعل جبريل عليه
السلام لا يفارقه حتى يرد كيد الناس عنه بشتى الطرق التي كلفه الله
بها.
{
أَفَكُلَّمَا
جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ}
أي أفكلما جاءكم يا بني إِسرائيل رسول بما لا يوافق هواكم {
اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي تبرتم عن اتباعه فطائفة
منهم كذبتموهم، وطائفة قتلتموهم ..
التكذيب
مسألة منكرة، ولكن القتل أمر بشع، فيحن ترى إنساناً أو حاكماً ظالماً يريد أن يتخلص
من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه، ولو كان ذا رجولة ومروءة لقابل
الحجة بالحجة ولما تجرّأ على قتله.
ثم
أخبر تعالى عن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّن ضلالهم في اقتدائهم
بالأسلاف فقال حكاية عنهم: {
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي في أكنة،
والغلف مأخوذ من الغِلاف، فهي مُغَلّفَة لا تفقه ولا تعي ما تقوله يا محمد، والغرض
إِقناطه عليه الصلاة السلام من إِيمانهم، قال تعالى رداً عليهم {
بَلْ لَعَنَهُمْ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته بسبب كفرهم وضلالهم
{
فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي فقليلٌ من يؤمن منهم، أو يؤمنون إِيماناً
قليلاً وهو إِيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر.
{
وَلَمَّا
جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}
وهو القرآن العظيم الذي أنزل على خاتم المرسلين، مصدقاً لما في التوراة
{
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقد
كانوا قبل مجيئه يستنصرون به على أعدائهم.
وهم
كفار المدينة من الأوس والخزرج.
ويقولون:
اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في
التوراة.
وكانوا
يقولون لأهل المدينة أيضاً: أهل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد
وإرم.
{
فَلَمَّا
جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}
أي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرفوه حق المعرفة كفروا برسالته
{
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}أي لعنة الله على اليهود
الذين كفروا بخاتم المرسلين.
فائدة:
كفر اليهود وعنادهم كان أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأوس
والخزرج عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكروا تهديد اليهود لهم به ونعوته
فسارعوا للإيمان به ومبايعته ونصرته، فعظم من سخر أعداءه لنصرة
شريعته.
ما
يستخلص من الآيات [87-89]:1- كثرة
الرسل والأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل يدل على مدى العناية الإلهية بهم،
ولكنهم قوم أشربت قلوبهم باللؤم فقابلوا النعم الكثيرة بالعناء والاستكبار والتكذيب
ثم ختموا ذلك بأبشع جريمة عرفتها البشرية ألا وهي قتل أنبياء الله وأصفيائه،
فاستحقوا لأجل ذلك اللعنة والطرد من رحمة الله والختم على القلوب
{فلا يؤمنوا
حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 98] كما حدث لفرعون
وقومه.
2- من
صفاته تعالى "العدل" فهو منزّه عن الظلم
{وما ربك بظلام للعبيد} ولذا أجاب
عن سبب ختمه على قلوبهم وطرده المعاندين المستكبرين منهم من رحمته، فقال:
{بل
لعنهم الله بكفرهم} أي بسبب جحودهم وإعراضهم عن الحق استكباراً بعد ما تبيّن
لهم ناصعاً لا غبار عليه، لأن الكفر هو الجحود والتغطية. ولا أدلّ على ذلك الجحود
من تكذيبهم رسالة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقد كانوا يستفتحون به على
الأوس والخزرج. فنعوذ بالله من الكب والمتكبرين.
كفر
اليهود بما أنزل الله، وقتلهم الأنبياء{بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ
يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو
بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(90)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ(91)} {
بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ}
أي بئس الشيء التافه الذي باع به هؤلاء اليهود أنفسهم واشتروا الكفر برسالة محمد
صلى الله عليه وسلم فخسروا الصفة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة
{
أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله
{
بَغْيًا} أي حسداً وطلباً لما ليس لهم {
أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم لأجل أن يُنَزّل
الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه، فلقد اختبرهم الله في رسالات
متعددة ولكنهم كذبوا وقتلوا فكان مقتضى حكمته وعدله أن يعاقبهم بنزع الرسالة منهم
وإعطائها لخير أمة أخرجت للناس ولذلك بغوا وحسدوا، فكان العقاب الإلهي:
{
فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق
غضبه عليهم، فنالوا غضبين: الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة، والثاني حين
جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به ولكنهم كفروا به حسداً
فاستحقوا غضباً ثانياً. {
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي ولهم عذاب
شديد مع الإِهانة والإِذلال لأن كفرهم سببه التكبر والحسد فقوبلوا بالإِهانة
والصغار.
{
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}
أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه {
قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة
{
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}
أي يكفرون بالقرآن مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله {
قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}أي قل لهم يا محمد إِذا كان إِيمانكم بما في التوراة صحيحاً فلم كنتم تقتلون
أنبياء الله من قبل إِذا كنتم فعلاً مؤمنين؟ وكأن الحق أخذ الحجة لدحض كذبهم من
قولهم
{نؤمن بما أنزل علينا} فإذا كان هذا صحيحاً فهل يوجد في التوراة التي
تؤمنون بها ما يبيح لكم قتل الأنبياء؟ ولكنه التمرّد الذي رُبّوا عليه ووَرَّثوه
لأبنائهم جيلاً بعد جيل.
ما
يستخلص من الآيات [90-91]:1- الإنسان
السويّ العاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمن،
ولذا ندّد القرآن بفعل اليهود مقرراً: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث
استبدلوا الباطل بالحق والكفر بالإيمان.
2- مَنْ
لم يؤمن بما أنزل عليه فلا مطمع في الإيمان ما أنزل على
غيره.
3- علّمنا
القرآن الكريم في الآية (91) كيف نُفحِم المخالف ونبطل دعواه من خلال أقواله
{قل
فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} كما يقول المثل: من فمك
أدينك.
تكذيب
ادعاء اليهود الإيمان بالتوراة{وَلَقَدْ
جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ(93)} المنَاسَبَة:هذه
طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن
يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إِلى الكفر والعصيان،
فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون
الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه
السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور
والدهور.
{
وَلَقَدْ
جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ}
أي بالحجج الباهرات {
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ
ظَالِمُونَ} أي عبدتم العجل من بعد ذهابه إِلى الطور، وأنتم ظالمون في هذا
الصنيع.
وهذه
الحجة ثانية على أنكم كاذبون في قولكم
{نؤمن بما أنزل علينا} فالإيمان
بالتوراة ينافي عبادة العجل.
{
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}
أي اذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة،
ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين {
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي
بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم.
وينبغي
أن نعلم أن رفع الجبل فوقهم لم يكن لإجبارهم على أخذ الميثاق لأنهم اتبعوا موسى
عليه السلام قبل رفع الجبل، ولكنهم قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمحسوس فأراد الله
تعالى أن يخوّفهم ليعودوا لإيمانهم، وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم
مؤمنين.
{
وَاسْمَعُوا}
أي سماع طاعة وقبول.
{
قَالُوا
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}
أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
فائدة:
هناك قول وفعل وعمل فالقول أن تنطق بلسانك، والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ، والعمل
أن يطابق القول الفعل. فهم سمعوا ما قاله لهم الله تعالى وعصوه. ولكن
{عصينا} ليست معطوفة على
{سمعنا} وإنما هي معطوفة على
{قالوا} قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا، فهم لم يقولوا الكلمتين، وإنما قالوا سمعنا،
ولم ينفذوا ما أمرهم الله به بأفعالهم.
{
وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}
أي خالط حبُّه قلوبَهم، وتغلغل في سويدائها، والمراد أن حب عبادة العجل امتزج
بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن
{
بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم، فهم كفروا أولاً، وبكفرهم دخل العجل إلى
قلوبهم وختم عليها.
{
قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}
أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل
{إِنْ
كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع،
والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل. وقوله تعالى
{إن كنتم
مؤمنين} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين، لأن قلوبهم مشربة بحب العجل الذي
عبدوه.
ما
يستخلص من الآيات [92-93]:1- الإيمان
الصحيح هو الذي يجعل صاحبه منسجماً في سلوكه مع مقتضى ما آمن به. ولكن اليهود على
خلاف ذلك فزعموا وادعوا أنهم آمنوا بالتوراة التي ترشدهم إلى عبادة الله وحده،
ولكنهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً من دون الله فبئس هذا الإيمان الذي يصنع إنساناً
متنقضاً في حيته وسلوكه تجاه ما آمن به.
2- علامة
الإيمان الصحيح المقبول عند الله أن يطابق السلوك الخارجي المعتقد الداخلي في
القلب، وعلامة الإنسان السويّ أني طابق فعلُه قوله، فنعوذ بالله من قوم
{قالوا
سمعنا} بألسنتهم و
{عصينا} بأفعالهم.
حرص
اليهود على الحياة وموقفهم من الملائكة والرسل{قُلْ
إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(94)وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ(95)وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ(96)قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ(97)مَنْ كَانَ عَدُوًّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ(98)} سبب
نزول الآية (94):أخرج
ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً،
فأنزل الله: {
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
خَالِصَةً…} [البقرة:
94].
{
قُلْ
إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ}
أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم
{
فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي اشتاقوا الموت الذي
يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن
أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها.
ثم
قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوى الكاذبة: {
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسب ما اجترحوه من
الذنوب والآثام.
وفي
قوله تعالى
{لن يتمنوه} إعجاز قرآني، لأن الله حكم حُكماً نهائياً في أمر
اختياري لعدو يكيد الإسلام، وكان من الممكن أن يفطن هؤلاء اليهود ويقولوا لمحمد صلى
الله عليه وسلم: "نحن نتمنى الموت فادع لنا ربك يميتنا". من أجل أن يشككوا في هذا
الدين، ولكنهم إلى الآن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لأنهم يعلمون أنه الحق ولو طلبوا
ذلك لماتوا حقاً، وهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، بل يحبون الحياة أكثر من غيرهم
كما سيأتي.
{
وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك.
{
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}
أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك
لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم.
لذلك
كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون من عذاب الآخرة. وأما المشركون فلا آخرة لهم
لعدم إيمانهم بها، فالدنيا هي الغاية، ولذا لا يخافون من عواقب الموت كما يخاف منها
اليهود الذين أجرموا فالمشرك إن خاف من الموت فلكونها تقطعه عن لذة الدنيا. وأما
اليهود فيخافون الموت لفوات لذات الدنيا ويخافونها أكثر لما ينتظرهم من خزي وعذاب
على إجرامهم وطغيانهم.
{يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}
أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة {
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ
الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما طول العمر - مهما عمّر - بمبعده ومنجيه من
عذاب الله {
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي مطّلع على أعمالهم
فيجازيهم عليها.
{
قُلْ
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}
أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه
وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله.
وسبب
عداوتهم لجبريل عليه السلام أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي،
وعلى الظالمين المستكبرين بالعذاب، فقد سأل ابنُ جوريا -أحد أحبارهم- رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "مَنِ الذي ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
جبريل. فقال اليهودي: لو كان غيره لآمنّا بك. جبريل عدونا لأنه ينزل دائماً بالخسف
والعذاب ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب". وقد غفل هؤلاء الحمقى أن
الملائكة كلهم ينفذون أوامر الله. فمن عادى أحدهم فقد عادى أمر
الله.
{
فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ولا شأن
لجبريل في ذلك فلماذا تعادونه؟ {
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي
مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية {
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي
وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات
النعيم.
{
مَنْ
كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ}
أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص "جبريل وميكائيل" فهو كافر
عدو لله {
فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} لأن الله يبغض من عادى
أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاداه الله، ففيه الوعيد والتهديد
الشديد.
فالعداوة
للرسل مثل العداوة للملائكة مثل العداوة لجبريل وميكائيل مثل العداوة لله جل جلاله،
فمصدر الدين واحد وهو الحق تعالى والرسل والملائكة سفراء الله إلى عباده أمناء على
ما كلفهم الله بتبليغه.
ما
يستخلص من الآيات [94-98]:1- دلت
الآيتين (94-95) على أن أساء وظلم في دنياه لا يتمنى الموت أبداً، وأما صاحب العمل
الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله وكرمه له في الجنة.
فإن
قيل: ما معنى النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم
الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعلمه" [رواه أحمد في
مسنده].
فالجواب:
أن تمني الموت المنهى عنه يكون بقصة الاحتجاج على المصائب والآلام هروباً من قدر
الله تعالى، وكأنه كره قدر الله وهذا مناف للإيمان.
وأما
تمني الموت من الرجل الصالح بقصد محبة لقاء الله تعالى فهو أمر مستحب يشرحه قوله
عليه الصلاة والسلام "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" وهو معنى قوله تعالى على
لسان يوسف عليه السلام
{توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} [يوسف:
101].
2- تعددت
اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهنا لون آخر من الاعتذار
وهو كون جبريل عليه السلام نزل وبالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل من
أعدائهم كما زعموا، ولكنه العناد، وحجتهم باطلة، فهو أمين الوحي بين الله ورسله،
وعداوته تعني عداوة الله ورسله.
3- كشفت
هذه الآيات عن مادية اليهود، فهم يقيسون الأمر على البشر لتصورهم أن الذي يجلس عن
يمين السيد والذي يجلس عن يساره يتنافسان على المنزلة عنده ولكن هذا في دنيا البشر،
وقد فات هؤلاء أن الملائكة منزهون عن هذا التنافس
{لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يُؤمرون}.