الحديث السابع والعشرون عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم وعن
وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل
عن البر والإثم قلت نعم قال استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه
القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك حديث حسن
رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن
أما حديث النواس بن سمعان فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن
عبدالرحمن ابن حبيب بن نفير عن أبيه النواس ومعاوية وعبد الرحمن وأبوه تفرد بتخريج
حديثهم مسلم دون البخاري وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة
عن الزبير بن عبدالسلام عن أيوب بن عبدالله بن مكرز عن وابصة بن معبد قال أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه
فقال لي ادن يا وابصة فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته فقال يا وابصة أخبرك ما جئت
تسأل عنه أو تسألني قلت يا رسول الله أخبرني قال جئت تسألني عن البر والإثم قلت نعم
فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول يا وابصة استفت نفسك البر ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن
أفتاك الناس وأفتوك وفي رواية أخرى للإمام أحمد أن الزبير لم يسمعه من أيوب وقال
حدثني جلساؤه وقد رأيته ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه أحدهما
الانقطاع بين أيوب والزبير فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم والثاني ضعف الزبير هذا قال
الدارقطني روي أحاديث مناكير وضعفه ابن حبان أيضًا لكنه سماه أيوب بن عبدالسلام
وأخطأ في اسمه وله طريق آخر عن وابصة خرجه الإمام أحمد أيضًا من رواية معاوية بن
صالح عن أبي عبدالله السلمي قال سمعت وابصة وذكر الحديث مختصرًا ولفظه قال البر ما
انشرح له الصدر والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس والسلمي هذا قال على بن
المديني هو مجهول وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبدالله الأسدي وقال البزار
لا نعلم أحدًا سماه كذا قال وقد سمي في بعض الروايات محمد قال عبدالغني بن سعيد
الحافظ لو قال قائل إنه محمد بن سعيد المصلوب لما رفعت ذلك والمصلوب هذا صلبه
المنصور في الزندقة وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم.
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة
وبعض طرقه جيدة فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن
زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال قال رجل يا رسول الله ما الإثم قال إذا
حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن
زيد بن سلام وأثبت أحمد سماعه منه وإن أنكره ابن معين.
وخرج الإمام أحمد من رواية عبدالله بن العلاء بن زيد قال سمعت مسلم
بن مسلم قال سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول قلت يا رسول الله أخبرني ما يحل لي وما
يحرم علي قال البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما لم تسكن إليه
النفس ولا يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون وهذا أيضًا إسناد جيد وعبد الله بن
علاء بن زبير ثقة مشهور وخرجه البخاري ومسلم بن مسلم ثقة مشهور أيضًا.
وخرج الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله
عنه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدًا بعدك قال
استفت نفسك قلت كيف لي بذلك قال تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون
قلت كيف بذلك قال تضع يدك على قلبك فإن الفؤاد ليسكن للحلال ولا يسكن للحرام ويروى
نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضًا وروى ابن لهيعة عن أبي زيد بن أبي حبيب
أن سويد بن قيس أخبره عن عبدالرحمن بن معاوية أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم فقال يا رسول الله ما يحل لي وما يحرم على وردد عليه ثلاث مرات كل ذلك يسكت
النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أين السائل فقال له أنا يا رسول الله فقال بأصبعه
ما أنكر قلبك فدعه خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه وقال لا أدري عبدالرحمن بن
معاوية سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ولا أعلم له غير هذا الحديث قلت هو
عبدالرحمن بن معاوية بن خديج جاء منسوبا في كتاب الزهد لابن المبارك وعبدالرحمن هو
تابعي مشهور فحديثه مرسل وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال الإثم حزاز
القلوب واحتج به الإمام أحمد ورواه عن جرير عن منصور عن محمد بن عبدالرحمن عن أبيه
قال قال عبدالله إياكم وحزاز القلوب وما حز في قلبك فدعه قال أبو الدرداء الخير في
طمأنينة والشر في ريبة وروى ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له أرأيت شيئًا يحيك في
صدورنا لا ندري حلال هو أم حرام فقال وإياكم والحكاكات فإنهن الإثم والحك والحز
متقاربان في المعنى والمراد ما أثر في القلب ضيقا وحرجا ونفورا وكراهة وهذه
الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم وبعضها في تفسير الحلال والحرام فحديث
النواس بن سمعان فسر النبي صلى الله عليه وسلم البر بحسن الخلق وفسره في حديث وابصة
وغيره بما اطمأنت إليه النفس والقلب كما فسر الحلال والحرام بذلك في حديث أبي ثعلبة
وإنما اختلف في تفسير البر لأن البر يطلق باعتبارين معينين أحدهما باعتبار معاملة
الخلق بالإحسان إليهم وربما خص بالإحسان إلى الوالدين فيقال بر الوالدين ويطلق
كثيرًا على الإحسان إلى الخلق عموما وقد صنف ابن المبارك كتابًا سماه كتاب البر
والصلة، وكذلك في صحيح البخاري وجامع الترمذي كتاب البر والصلة ويتضمن هذا الكتاب
الإحسان إلى الخلق عموما ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما وفي حديث بهز ابن حكيم
عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله من أبر قال أمك قال ثم من قال أباك قال ثم من
قال ثم الأقرب فالأقرب ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم الحج المبرور
ليس له جزاء إلا الجنة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فتلا هذه الآية
فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
والوفاء بالعهد والصبر على الأقدار كالمرض والفقر وعلى الطاعات كالصبر على لقاء
العدو وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال
كلها لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة والتأدب بآداب الله التي أدب
بها عباده في كتابه كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنك لعلى خلق عظيم القلم
وقالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن يعني أنه يتأدب
بآدابه فيفعل أوامره ويتجنب نواهيه فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا
يفارقه وهذا من أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها وقد قيل إن الدين كله خلق وأما في
حديث وابصة فقال البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس وفي رواية ما انشرح
إليه الصدر وفسر الحلال بنحو ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره وهذا يدل على أن الله
فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله وركز في الطباع محبة ذلك والنفور عن
ضده وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين فأتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطانا، وقوله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قال أبو هريرة رضي
الله عنه اقرأوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الروم
ولهذا سمى الله ما أمره به معروفا وما نهى عنه منكرا فقال تعالى
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء
وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} النحل وقال تعالى في صفة الرسول صلى الله
عليه وسلم
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَآئِثَ} الأعراف.
وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره فالقلب الذي دخله نور الإيمان
وانشرح به وانفسح سكن للحق واطمأن به ويقبله وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله.
وقال معاذ بن جبل أحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة
الضلال على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق فقيل لمعاذ ما يدريني أن الحكيم
قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال اجتنب من كلام الحكيم
المشتهرات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إن
سمعته فإنه على الحق نور خرجه أبو داود.
وفي رواية له قال بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول ما أدري
بهذه الكلمة فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير بل
يعرف الحق بالنور عليه فيقبله قلبه وينفر عن الباطل فينكره ولا يعرفه ومن هذا
المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لا
تسمعون أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم يعني أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين
ولا تعرفه وفي قوله أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع
تقادم العهد وتطاول الزمان فهو الحق وأن ما أحدث بعد ذلك فما يستنكر فلا خير فيه
فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه مما سكن إليه
القلب وانشرح إليه الصدر فهو البر والحلال وما كان خلاف ذلك فهو الإثم والحرام.
وقوله في حديث النواس بن سمعان الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع
عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم
ينشرح له الصدر ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه وهذا
أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المؤمنون حسنًا
فهو عند الله حسن وما رآه المومنون قبيحًا فهو عند الله قبيح، وقوله في حديث وابصة
وأبي ثعلبة وإن أفتاك المفتون يعني أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه
غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره
وقد جعله أيضًا إثما وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان
المتفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي فأما ما كان مع المفتي
به دليل شرعي فالواجب على المفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة
الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به
صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر
أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ
الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة
الحديبية فكرهوه وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم
يرده إليهم وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال
تعالى
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وينبغي أن يتلقى ذلك
بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له
كما قال تعالى
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} النساء وأما ما ليس فيه نص من الله ولا
رسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن
قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحك في صدره بشبهة موجودة
ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل
هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء
المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا أيضًا قال المروزي في كتاب الورع قلت لأبي
عبدالله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق وقد وقع في قلبي من أمرها شيء فقال
أمرها أمر قذر متلوث قلت فتكره العمل فيها قال دع عنك هذا إن كان لا يقع في قلبك
شيء قلت قد وقع في قلبي منها فقال قال ابن مسعود الإثم حواز القلب قلت إنما هذا على
المشاورة قال أي شيء يقع في قلبك قلت قد اضطرب على قلبي قال الإثم هو حواز القلوب
وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الحلال بين والحرام بين وفي شرح
حديث الحسين بن على رضي الله عنهما دع ما يريبك وشرح حديث إذا لم تستح فاصنع ما شئت
شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة ههنا وقد ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية
والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجة أم لا وذكروا فيه
اختلافا بينهم وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق إلى الأحكام وأخذه القاضي
أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات وخالفهم طائفة من
أصحابنا في ذلك وقد ذكرنا نصا عن أحمد ههنا بالرجوع إلى حواز القلوب وإنما ذم أحمد
وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند
إلى دليل شرعي بل إلى مجرد رأي وذوق كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام
بمجرد الرأي من غير دليل شرعي فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب فقد
دلت عليه النصوص النبوية وفتاوي الصحابة فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك لا سيما
وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم وقد سبق الحديث إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة
فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ومعرفته وبنفوره عن الكذب وإنكاره كما قال
الربيع بن خثيم إن للحديث نورا كنور النهار فيعرف به وللكذب ظلمة كظلمة الليل
ينكره.
وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة عن عبدالملك بن سعيد بن سويد وأبي
أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم الحديث عني
تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا
سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد
فأنا أبعدكم منه وإسناده قد قيل على شرط مسلم لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثًا
لكن هذا الحديث معلول فإنه رواه بكير بن الأشج عن عبدالملك بن سعيد عن عباس بن سهل
عن أبي بن كعب من قوله قال البخاري هو أصح من يحيى ابن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثتم عني
حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني
بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف وهذا
الحديث معلول أيضًا وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب ورواه الحفاظ عنه عن
سعيد مرسلًا والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ منهم ابن معين والبخاري وأبو حاتم الرازي
وابن خزيمة وقال ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يثبت وصله وإنما يحمل مثل هذه
الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت
دراستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ولكلام غيره لحال رواة الأحاديث ونقلة
الأخبار ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث
مختصون بمعرفته كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها وخالصها
ومشوبها والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر وكل من هؤلاء لا يمكن أن
يعبر عن سبب معرفته ولا يقيم عليه دليلًا لغيره وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد
على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة وقد امتحن منهم
غير هذا مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلك فقال السائل أشهد أن هذا
العلم إلهام قال الأعمش كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث كنت أسمع من لرجال
فأعرض عليه ما سمعته وقال عمرو بن قيس ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي
ينقد الدرهم الزائف والبهرج وكذا الحديث وقال الأوزاعي كنا نسمع الحديث فنعرضه على
أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي إنك تقول للشيء هذا يصح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك فقال
أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو
تسلم الأمر إليه قال لا بل كنت أسلم الأمر إليه فقال فهذا كذلك لطول المجادلة
والمناظرة والخبرة وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضًا وأنه قيل له يا أبا
عبدالله تقول هذا الحديث منكر فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله قال مثلنا كمثل ناقد
العين لم تقع بيده العين كلها فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد أو أنه رديء.
وقال ابن مهدي معرفة الحديث إلهام وقال إنكارنا الحديث عند الجهال
كهانة وقال أبو حاتم الرازي مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله
على لونه ثمنه عشرة دراهم قال وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده فكذلك نحن
رزقنا علمًا لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب وأن هذا حديث منكر
إلا بما نعرفه قال ويعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة
والصفاء علم أنه مغشوش ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في المائية
والصلابة علم أنه زجاج ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثل أن
يكون كلام النبوة ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم.
وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل
الحديث جدًا وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ثم خلفه أيوب
السختياني وأخذ ذلك عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي وأخذ عنهما أحمد
وعلى بن المديني وابن معين وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم،
وكان أبو زرعة في زمانه يقول من قال يفهم هذا وما أعزه إلا رفعت هذا عن واحد واثنين
فما أقل من تجد من يحسن هذا ولما مات أبو زرعة قال أبو حاتم ذهب الذي كان يحسن هذا
المعنى يعني أبا زرعة ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا وقيل له بعد موت أبي
زرعة يعرف اليوم واحد يعرف هذا قال وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي
وابن عدي والدارقطني وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج
الجوزي في أول كتابه الموضوعات قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم.