الحديث الثلاثون عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم
أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها حديث حسن
رواه الدارقطني وغيره
هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني وله علتان إحداهما
أن مكحولا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة كذلك قال أبو شهر الدمشقي وأبو نعيم
الحافظ وغيرهما والثانية أنه اختلف في رفعه ووقفه على ابن ثعلبة ورواه بعضهم عن
مكحول عن قوله لكن قال الدارقطني الأشبه بالصواب المرفوع قال وهو أشهر وقد حسن
الشيخ رحمه الله هذا الحديث، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه وقد
روى معنى هذا الحديث مرفوعًا من وجوه أخر خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي
الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحل الله في كتابه فهو
حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن
لينسى شيئًا ثم تلا هذه الآية
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} مريم وقال الحاكم صحيح
الإسناد.
وقال البزار إسناده صالح وقد خرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر
عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي ثعلبة وقال في آخره رحمة
من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف.
وخرجه الترمذي وابن ماجه من رواية سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن
أبي عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن
والجبن والفراء فقال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما
سكت عنه فهو مما عفا عنه.
قال الترمذي رواه سفيان يعني ابن عيينة عن سليمان عن أبي عثمان عن
سلمان رضي الله عنه من قوله وكأنه أصح وذكر في كتاب العلل عن البخاري أنه قال في
الحديث المرفوع ما أراه محفوظًا.
وقال أحمد هو منكر وأنكره ابن معين أيضًا وقال أبو حاتم الرازي هو
خطاء رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ليس
فيه سلمان قلت وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر وخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما مرفوعًا وضعف إسناده ورواه أبو صالح المري عن الجريري عن أبي عثمان
النهدي عن عائشة رضي الله عنها أخطأ في إسناده وروى عن الحسن مرسلًا.
وخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أهل
الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم
وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه
فهو عفو ثم تلا قوله تعالى
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا} الأنعام وهذا موقوف.
وقال عبيد بن عمير إن الله عز وجل أحل الحلال وحرم الحرام وما أحل
فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله
أربعة أقسام فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه وذلك يجمع أحكام الدين كلها.
وقال أبو بكر السمعاني هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه
قال وحكي عن بعضهم أنه قال ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد
أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه من حديث أبي ثعلبة قال وحكي عن أبي واثلة المزني
أنه قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات ثم ذكر حديث أبي
ثعلبة ثم قال ابن السمعاني من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأمن من العقاب لأن
من أدى الفرائض واجتنب المحارم ووقف عند الحدود وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى
أقسام الفضل وأوفى حقوق الدين لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا
الحديث انتهى.
فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم به القيام كالصلاة
والزكاة والصيام والحج وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل الواجب والفرائض بمعنى
واحد أم لا فمنهم من قال هما سواء وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو
غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم وحكي رواية عن
أحمد قال كل ما في الصلاة فهو فرض ومنهم من قال بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به
والواجب ما ثبت بغير مقطوع به وهو قول الحنفية وغيرهم وأكثر النصوص عن أحمد يفرق
بين الفرض والواجب فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال لا يسمى فرضًا إلا ما كان في
كتاب الله تعالى وقال في صدقة الفطر ما أجترئ أن أقول إنها فرض مع أنه يقول بوجوبها
فمن أصحابنا من قال مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب والواجب ما يثبت بالسنة ومنهم
من قال أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر والواجب ما ثبت من جهة
الاجتهاد وساغ الخلاف في وجوبه ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر
الوالدين ليس بفرض ولكن أقول واجب ما لم تكن معصية وبر الوالدين مجمع على وجوبه وقد
كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة فظاهر هذا أنه لا يقول فرض إلا ما ورد في الكتاب
والسنة فرضًا وقد اختلف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل يسمى فريضة أم
لا فقال جويبر عن الضحاك هما من فرائض الله عز وجل وكذا روي عن مالك وروى عبد
الواحد بن زيد عن الحسن فقال ليس بفريضة كان فريضة على بني إسرائيل فرحم الله هذه
الأمة لضعفهم فجعله عليهم نافلة وكتب عبدالله بن شبرمة إلى عمرو بن عبيد أبياتا
مشهورة أولها:
الأمر بالمعروف يا عمرو نافلة *** والقائمون به لله أنصار
واختلف كلام الإمام أحمد فيه هل يسمى واجبا أم لا ؟ فروى عنه
جماعة ما يدل على وجوبه ورواه عنه أبو داود في الرجل يرى الطنبور ونحوه أواجب عليه
تغييره قال ما أدري ما واجب إن غيره فهو نفل وقال إسحاق بن راهوية هو واجب على كل
مسلم إلا أن يخشى على نفسه ولعل أحمد يتوقف في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجب على
الأعيان بل على الكفاية وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في الجهاد هل هو واجب أم
لا فأنكر جماعة منهم وجوبه منهم عطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة ولعلهم أرادوا هذا
المعنى وقال طائفة هو واجب منهم سعيد بن المسيب ومكحول ولعلهما أرادوا وجوبه على
الكفاية وقال أحمد في رواية حنبل الغزو واجب على الناس كلهم كوجوب الحج فإذا غزا
بعضهم أجزأ عنهم ولابد للناس من الغزو وسأله المروزي عن الجهاد أفرض هو قال قد
اختلفوا فيه وليس هو مثل الحج ومراده أن الحج لا يسقط عمن لم يحج مع الاستطاعة بحج
غيره بخلاف الجهاد وسئل عن النفير متى يجب فقال أما إيجابه فلا أدري ولكن إذا خافوا
على أنفسهم فعليهم أن يخرجوا وظاهر هذا التوقف في إطلاق لفظ الواجب على ما لم يأت
فيه لفظ الإيجاب تورعا ولذلك توقف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختلف فيه وتعارضت
أدلته من نصوص الكتاب والسنة فقال في متعة النساء لا أقول هي حرام ولكن ننهى عنه
ولم يتوقف في معنى التحريم ولكن في إطلاق لفظه لاختلاف النصوص والصحابة فيها هذا هو
الصحيح في تفسير كلام أحمد وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين لا أقول هو حرام
ولكن ننهى عنه والصحيح في تفسيره أنه توقف في إطلاق لفظ الحرام دون معناه وهذا كله
على سبيل الورع في الكلام حذرا من الدخول تحت قوله تعالى
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} النحل.
قال الربيع بن خثيم ليتق أحدكم أن يقول أحل كذا وحرم كذا فيقول الله
كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا.
وقال ابن وهب سمعت مالك بن أوس يقول أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا
سئل أكره هذا ولا أحبه ولا يقول حلال ولا حرام.
وأما ما حكي عن أحمد أنه قال كل ما في الصلاة فرض فليس كلامه كذلك
إنما نقل عنه ابنه عبدالله أنه قال كل شيء في الصلاة ذكره الله فهو فرض وهذا يعود
إلى معنى قوله إنه لا فرض إلا ما في القرآن والذي ذكره الله من أمر الصلاة القيام
والقراءة والركوع والسجود وإنما قال أحمد هذا لأن بعض الناس كان يقول الصلاة فرض
والركوع والسجود لا أقول إنه فرض ولكنه سنة.
وقد سئل مالك بن أنس عمن يقول ذلك فكفره فقيل له إنه يتأول فلعنه
فقال لقد قال قولًا عظيمًا.
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما إنكار استفادة التحريم منه.
قال ابن المبارك أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه
قال كنت عند ابن عمر فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر يعني
أن يخلطا فقال لي رجل من خلفي ما قال فقلت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر
والزبيب فقال عبدالله ابن عمر كذبت فقلت ألم تقل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنه فهر حرام فقال أنت تشهد بذلك قال سلام كأنه يقول نهى النبي صلى الله عليه وسلم
فهو أدب.
وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقيا إطلاق
لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه ما فيه نوع شبهة أو اختلاف وقال النخعي كانوا
يكرهون أشياء لا يحرمونها.
والمراد من تجاوز ما فرضه الله للورثة ففضل وارثا وزاد على حقه أو
نقصه منه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع إن الله أعطى
كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.
وروى النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ضرب الله مثلًا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى
الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا
ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال
ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه والصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب
المفتحة محارم الله وذلك الداعي على الصراط كتاب الله والداعي من فوق واعظ الله في
قلب كل مسلم خرجه الإمام أحمد وهذا لفظه والنسائى في تفسيره والترمذى وحسنه فضرب
النبي صلى الله عليه وسلم مثل الإسلام في هذا الحديث بصراط مستقيم وهو الطريق السهل
الواسع الموصل سالكه إلى مطلوبه وهو مع هذا مستقيم لا عوج فيه فيقتضي ذلك قربه
وسهولته وعلى جنبتي الصراط يمنة ويسرة سوران وهما حدود الله وكما أن السور يمنع من
كان داخله من تعديه ومجاوزته فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده
ومجاوزتها وليس وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه ولهذا مدح سبحانه
الحافظين لحدوده وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام كما قال تعالى
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ} التوبة وقد تقدم حديث إن القرآن يقول من عمل به حفظ
حدودي ومن لم يعمل به تعدى حدودي والمراد أن من لم يجاوز ما أذن له فيه إلى ما نهى
عنه فقد حفظ حدود الله ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله وقد تطلق الحدود ويراد بها
نفس المحارم وحينئذ فيقال لا تقربوا حدود الله كما قال تعالى
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا} البقرة.
والمراد النهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصيام
والاعتكاف في المساجد ومن هذا المعنى وهو تسمية المحارم حدودا وقول النبي صلى الله
عليه وسلم مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم اقتسموا سفينة الحديث
المشهور وأراد بالقائم على حدود الله المنكر للمحرمات والناهي عنها وفي حديث ابن
عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني آخذ بحجزكم اتقوا النار
اتقوا الحدود قالها ثلاثًا خرجه الطبراني والبزار وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه
ومنه قول الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم فإني أصبت حدا فأقمه علي وقد
تسمى العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة حدودا كما يقال حد الزنا وحد
السرقة وحد شرب الخمر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة أتشفع في حد من
حدود الله يعني في القطع في السرقة وهذا هو المعروف من أسماء الحدود في اصطلاح
الفقهاء وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من
حدود الله فهذا قد اختلف الناس في معناه فمنهم من فسره ههنا بهذه الحدود المقدرة
وقال إن التعزير لا يزاد على عشر جلدات ولا يزاد عليها إلا في هذه الحدود المقدرة
ومنهم من فسر الحدود ههنا بجنس محارم الله وقال إن المراد بمجاوزة العشر الجلدات لا
يجوز إلا في ارتكاب محرم من محارم الله فأما ضرب التأديب على غير محرم فلا يتجاوز
به عشر جلدات وقد حمل بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم وحد حدودا فلا تعتدوها على هذه
العقوبات الزاجرة عن المحرمات وقال المراد النهي عن تجاوز هذه الحدود وتعديها عن
إقامتها على أهل الجرائم ورجح ذلك بأنه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر
والنواهي لكان تكريرًا لقوله وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وليس
المراد على ما قاله فإن الوقوف عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلا ما
نهى عنه وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضًا أو ندبا أو مباحًا كما تقدم وحينئذ فلا
تكرير في هذا الحديث والله أعلم.
وأما المسكوت عنه فهو ما لم يذكر حكمه بتحليل ولا إيجاب ولا تحريم
فيكون معفوا عنه لا حرج على فاعله وعلى هذا دلت الأحاديث المذكورة ههنا كحديث أبي
ثعلبة وغيره وقد اختلفت ألفاظ حديث أبي ثعلبة فروى باللفظ المتقدم وروى بلفظ آخر
وهو إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء من
غير نسيان فلا تبحثوا عنها خرجه إسحاق بن راهوبه وروى بلفظ آخر هو إن الله فرض
فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فلا تنتهكوها وحرم عليكم أشياء فلا تعتدوها وترك
بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها خرجه الطبراني وهذه
الرواية تبين أن المعفو عنه ما ترك ذكره فلم يحرم ولم يحلل ولكن مما ينبغي أن يعلم
أن ذكر الشيء بالتحليل والتحريم مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة فإن دلالة
هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح وقد تكون بطريق العموم والشمول وقد تكون
دلالته بطريق الفحوي والتنبيه كما في قوله تعالى
{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ
أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} الإسراء فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف
من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى ويسمى ذلك مفهوم الموافقة وقد تكون دلالته بطريق
مفهوم المخالفة كقوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة الزكاة فإنه يدل بمفهومه
على أنه لا زكاة في غير السائمة وقد أخذ الأكثرون بذلك واعتبروا بمفهوم المخالفة
وجعلوه حجة وقد تكون دلالته من باب القياس فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من
المعاني، وكان ذلك المعنى موجودًا في غيره فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك
المعنى عند جمهور العلماء وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله وأمر بالاعتبار
به فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم فأما ما انتفى فيه ذلك
كله فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه وههنا مسلكان أحدهما أن
يقال لا إيجاب ولا تحريم إلا بالشرع وما لم يوجب الشرع شيئًا ولم يحرمه فيكون غير
واجب أو غير محرم كما يقال مثل هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأضحية أو
نفي تحريم الضب ونحوه أو نفي تحريم بعض العقود المختلف فيها كالمساقاة والمزارعة
ونحو ذلك ويرجع هذا إلى استصحاب براءة الذمة حيث لم يوجد ما يدل على اشتغالها ولا
يصح هذا الاستدلال إلا لمن عرف أنواع أدلة الشرع وسيرها فإن قطع مع ذلك بانتفاء ما
يدل على إيجاب أو تحريم قطع بنفي الوجوب والتحريم كما يقطع بانتفاء فريضة صلاة
سادسة أو صيام شهر غير شهر رمضان أو وجوب الزكاة في غير الأموال الزكوية أو حجة غير
حجة الإسلام وإن كان هذا كله يستدل عليه بنصوص مصرحة بذلك وإن ظن انتفاء ما يدل على
إيجاب أو تحريم ظن انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع والمسلك الثاني أن يذكر من
أدلة الشرع العامة ما يدل على ما لم يوجبه الشرع ولم يحرمه فإنه معفو عنه كحديث أبي
ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما
سئل عن الحج في كل عام فقال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن
أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد دل
القرآن على مثل هذا أيضًا في مواضع كقوله تعالى
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا
أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} الأنعام فهذا يدل على أن ما لم يوجد تحريمه
فليس بمحرم، وكذلك قوله تعالى
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ} فعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه معللا بأنه قد
بين لهم الحرام وهذا ليس منه فدل على أن الأشياء على الإباحة وإلا لما لحق اللوم
بمن امتنع من الأكل مما لم ينص له على حكمه بمجرد كونه لم ينص على تحريمه واعلم أن
هذه الأسئلة غير مسألة الأعيان قبل ورود الشرع هل هو الحظر أو الإباحة أو لا حكم
فيها فإن تلك المسئلة مفروضة فيما قبل ورود الشرع فأما بعد وروده فقد دلت هذه
النصوص وأشباهها على أن حكم ذلك الأصل زال واستقر أن الأصل في الأشياء كالإباحة
بأدلة الشرع.
وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك وغلط من سوى بين المسئلتين وجعل
حكمهما واحدًا وكلام الإمام أحمد يدل على أن ما لم يدخل في نصوص التحريم فإنه معفو
عنه قال أبو الحارث قلت لأبي عبدالله يعني أحمد إن أصحاب الطير يذبحون من الطير
أشياء لا نعرفها فما ترى في أكله فقال كل ما لم يكن ذا مخلب أو يأكل الجيف فلا بأس
به فحصر تحريم الطير في ذي المخلب المنصوص عليه وما يأكل الجيف لأنه في معنى الغراب
المنصوص عليه وحكم بإباحة ما عداهما، وحديث ابن عباس الذي سبق ذكره يدل على مثل
هذا، وحديث سلمان الفارسي فيه السؤال عن الجبن والسمن والفراء فإن الجبن كان يصنع
بأرض المجوس ونحوهم من الكفار، وكذلك السمن والفراء كذلك تجلب من عندهم وذبائحهم
ميتة وهذا مما يستدل به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها وعلى إباحة طعام المجوس وفي
ذلك كله خلاف مشهور ويحمل على أنه إذا اشتبه الأمر لم السؤال والبحث عنه كما قال
ابن عمر رضي الله عنهما لما أسأل عن الجبن الذي تصنعه المجوس فقال ما وجدته في سوق
المسلمين اشتريته ولم أسئل عنه وذكر عند عمر الجبن وقيل أنه يوضع فيه أنافح الميتة
فقال سموا الله وكلوا قال الإمام أحمد أصح حديث فيه هذا الحديث يعني جبن المجوس وقد
روى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجفنة في
غزوة الطائف فقال أين تصنع هذه قالوا بفارس فقال صلى الله عليه وسلم ضعوا فيها
السكين وقطعوا واذكروا اسم الله وكلوا خرجه الإمام أحمد وسئل عنه فقال هو حديث منكر
وكذا قال أبو حاتم الرازي وخرجه أبو داود بمعناه من حديث ابن عمر إلا أنه قال في
غزوة تبوك وقال أبو حاتم هو منكر أيضًا وخرجه عبد الرازق في كتابه مرسلًا وهو أشبه
وعنده زيادة وهي أنه قيل يا رسول الله نخشى أن تكون ميتة قال سموا عليه وكلوا.
وخرج الطبراني معناه من حديث ميمونة وإسناده جيد لكنه غريب جدًا وفي
صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن
قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال سموا عليه أنتم وكلوا
قلت وكانوا حديثي عهد بالكفر.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن الحسن أن عمر رضي الله عنه أراد
أن ينهى عن حلل الحبرة لأنها تصبغ بالبول فقال له أبي ليس ذلك لك قد لبسهن النبي
صلى الله عليه وسلم ولبسناهن في عهده وخرجه الخلال من لفظ آخر ولفظه إن أبيا قال له
يا أمير المؤمنين قد لبسها نبي الله صلى الله عليه وسلم ورأى الله مكانها ولو علم
الله أنها حرام لنهى عنها قال صدقت وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يصنعه الكفار أهل
الكتاب من غير غسل فقال لم تسأل عما لم تعلم لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون
ذلك وسئل عن يهود يصبغون بالبول فقال المسلم والكافر في هذا سواء ولا تسئل عن هذا
ولا تبحث عنه وقال إذا علمت أنه لا محالة يصبغ بشيء من البول وصح عندك فلا تصل فيه
حتى تغسله.
وخرج من حديث المغيرة ابن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى
إليه خفان فلبسهما ولا يدري أذكبا أم لا وقد ورد ما يستدل به على البحث والسؤال
فخرج الإمام أحمد من حديث رجل عن أم سلمة الأشجعية أن النبي صلى الله عليه وسلم
أتاها وهي في قبة فقال ما أحسنها إن لم يكن فيها ميتة قال فجعلت تتبعها والرجل
مجهول.
وخرج الأثرم بإسناده عن زيد بن وهب قال أتانا كتاب عمر رضي الله عنه
بأذربيجان إنكم بأرض فيها الميتة فلا تلبسوا من الفراء حتى تعلموا حله من حرامه
وروى الخلال بإسناده عن مجاهد أن ابن عمر رأى على رجل فردانيسية فقال لو أعلم أنه
ذكي لسرني أن يكون لي منه ثوب وعن محمد ابن كعب أنه قال لعائشة رضي الله عنها ما
يمنعك أن تتخذي لحافا من الفراء قالت كرهت أن ألبس الميتة وروى عبدالرازق بإسناده
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لمن نزل من المسلمين بفارس إذا اشتريتم لحما
فاسألوا فإن كان ذبيحة يهودي أو نصراني فكلوا وهذا لأن الغالب على أهل فارس المجوس
ذبائحهم محرمة والخلاف في هذا يشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تباح ذبيحته من
الكفار وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم والخلاف فيها يرجع إلى قاعدة تعارض
الأصل بالظاهر وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما
أمور مشتبهات، وقوله في الأشياء التي سكت عنها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان
يعني أنه سكت عن ذكرها رحمة بعباده ورفقا حيث لم يحرمها عليهم حتى يعاقبهم على
فعلها ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها بل جعلها عفوا فإن فعلوها فلا حرج
عليهم وإن تركوها فكذلك وفي حديث أبي الدرداء ثم تلا وما كان ربك نسيا مريم ومثل
قوله عز وجل
{فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}
طه.
وقوله فلا تبحثوا عنها يحتمل اختصاص هذا النهي بزمن النبي صلى الله
عليه وسلم لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سببًا لنزول التشديد فيه
بإيجاب أو تحريم، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدل على هذا فيحتمل أن يكون
النهي عامًا والمروي عن سلمان من قوله يدل على ذلك فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم
ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه أو إيجابه لمشابهته
لبعض الواجبات أو المحرمات فقبول العافية فيه وترك البحث عنه والسؤال خير وقد يدخل
في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثًا.
خرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا والمتنطع هو
المتعمق البحاث عما لا يعنيه وهذا قد يتمسك به من يتعلق بظاهر اللفظ وينفي المعاني
والقياس كالظاهرية والتحقيق في هذا المقام والله أعلم أن البحث عما لم يوجد فيه نص
خاص أو عام على قسمين أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفتوى
والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح فهذا حق وهو مما يتعين فعله على المجتهدين في معرفة
الأحكام الشرعية والثاني أن يدقق الناظر نظره وفكره في وجوه الفروق المستبعدة فيفرق
بين متماثلين بمجرد فرق لا يظهر له أثر في الشرع مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع أو
يجمع بين متفرقين بمجرد الأوصاف الطارئة التي هي غير مناسبة ولا يدل دليل على
تأثيرها في الشرع فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود مع أنه قد وقع في طوائف من
الفقهاء وإنما المحمود النظر الموافق لنظر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من
القرون المفضلة كابن عباس ونحوه ولعل هذا مراد ابن مسعود رضي الله عنه يقول إياكم
والتنطع إياكم والتعمق وعليكم بالعتيق يعني ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن
كلام بعض أعيان الشافعية لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق كدأب أصحاب
الرأي والسر في تلك أن متعلق الأحكام في الحال الظنون وغلباتها فإذا كان اجتماع
مسئلتين أظهر في الظن من افتراقهما وجب القضاء باجتماعهما وإن انقدح فرق على بعد
فافهموا ذلك فإنه من قواعد الدين انتهى ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه
أمور الغيب الخبرية التي أمرنا بها ولم يبين كيفيتها وبعضها قد لا يكون له شاهد في
هذا العام المحسوس فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني وهو مما ينهى عنه وقد يوجب
الحيرة والشك ويرتقي إلى التكذيب وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الناس يسألون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله
فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله وفي رواية له لا يزال الناس يسألونك عن
العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله وفي رواية له أيضًا ليسألنكم الناس
عن كل شيء حتى يقولوا الله خلق كل شيء فمن خلقه وخرجه البخاري أيضًا ولفظه يأتي
الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا لغه فليستعذ
بالله ولينته وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
قال الله عز وجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق
الخلق فمن خلق الله وخرجه البخاري ولفظه لم يزل الناس يسألون هذا الله خالق كل شيء
فمن خلق الله قال إسحاق بن راهوية لا يجوز التفكر في الخالق ويجوز للعباد أن
يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ولا يزيدون على ذلك لأنهم إن فعلوا تاهوا قال
وقال الله عز وجل
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}
الإسراء ولا يجوز أن يقال كيف تسبيح القصاع والأخونة والخبز والمخبوز والثياب
المنسوجة وكل هذا قد صح العلم فيهم أنهم يسبحون فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف
شاء وكما شاء وليس للناس أن يخوضوا في ذلك إلا بما علموا ولا يتكلموا في هذا وشبهه
إلا بما أخبر الله ولا يزيدوا على ذلك فاتقوا الله ولا تخوضوا في هذه الأشياء
المتشابهة فإنه يرديكم الخوض فيه عن سنن الحق نقل ذلك كله حرب عن إسحاق رحمه الله
تعالى..