الحديث الثاني والثلاثون عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما
مسندا ورواه مالك في الموطإ مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم مرسلًا فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضا-
حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه وإنما أخرجه الدارقطني والحاكم
والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة حدثنا الدراوردي عن عمرو بن
يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر
ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه وقال الحاكم صحيح الإسناد على شرط
مسلم وقال البيهقي تفرد به عثمان عن الدراوردي وخرجه مالك في الموطإ عن عمرو بن
يحيى عن أبيه مرسلًا قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث قال
ولا يسند من وجه صحيح ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي عن الدراوردي
موصولا والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ولا يعبأ به ولا شك في
تقديم قول مالك على قوله وقال خالد ابن سعد الأندلسي الحافظ لم يصح حديث لا ضرر ولا
ضرار مسندا وأما ابن ماجه فخرجه من رواية فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا
إسحاق بن يحيى ابن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي
أن لا ضرر ولا ضرار وهذا من جملة صحيفة يروى بهذا الإسناد وهي منقطعة مأخوذة من
كتاب قاله ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما وإسحاق بن يحيى قيل هو ابن طلحة وهو ضعيف
لم يسمع من عبادة قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم والدارقطني في موضع وقيل إسحاق بن
يحيى ابن الوليد عن عبادة ولم يسمع أيضًا من عبادة قاله الدارقطني أيضًا وذكره ابن
عدي في كتابه الضعفاء وقال عامة أحاديثه غير محفوظة وقيل إن موسى بن عقبة لم يسمع
منه وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه وأبو عياش لا يعرف وخرجه ابن
ماجه أيضًا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ضرر ولا ضرار وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون وخرجه
الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة وإبراهيم ضعفه
جماعة وروايات داود عن عكرمة مناكير وخرجه الدارقطني من حديث الواقدي حدثنا خارجة
بن عبدالله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار والواقدي متروك وشيخه مختلف في
تضعيفه وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضًا عن القاسم عن عائشة وخرجه الطبراني
أيضًا من رواية محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن
حبان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وهذا
إسناد متقارب وهو غريب ولكن خرجه أبو داود في المراسيل من رواية عبدالرحمن ابن معز
عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا وهذا أصح وخرجه الدارقطني
من رواية أبي بكر بن عياش قال أراه عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع
خشبه على حائطه وهذا الإسناد فيه شك وابن عطاء هو يعقوب وهو ضعيف وروى كثير بن عبد
اللهبن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر
ولا إضرار قال ابن عبد البر إسناده غير صحيح قلت كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول
البخاري في بعض حديث هو أصح حديث في الباب وحسن حديث إبراهيم بن المنذر الخزاعي
وقال هو خير مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم وترك حديثه آخرون منهم
الإمام أحمد وغيره فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب وقد ذكر الشيخ رحمه
أن بعض طرقه تقوي ببعض وهو كما قال وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبدالله
المزني إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها وقال الشافعي في
المرسل إنه إذا استند من وجه آخر وأرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل
الأول فإنه يقبل وقال الجوزجاني إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع يعني لا
يقنع برواياته وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار استعمل واكتفي
به وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوي منه وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث
وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار وقال أبو عمرو بن الصلاح هذا
الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد تقبله جماهير أهل
العلم واحتجوا به وقول أبي داود إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه
غير ضعيف والله أعلم.
وفي المعنى أيضًا حديث أبي صرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من
ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه خرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه وقال
الترمذي حسن غريب.
وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به، وقوله صلى الله عليه
وسلم لا ضرر ولا ضرار هذه الرواية الصحيحة ضرار بغير همزة وروى إضرار بالهمزة ووقع
ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدراقطني بل وفي بعض نسخ الموطأ وقد أثبت بعضهم هذه
الرواية وقال ضر وأضر بمعنى واحد وأنكرها آخرون وقالوا لا صحة لها واختلفوا هل بين
اللفظين أعني الضر والضرار فرق أم لا فمنهم من قال هما بمعنى واحد على وجه التأكيد
والمشهور أن بينهما فرقا ثم قيل إن الضرر هو الاسم والضرار الفعل فالمعنى أن الضرر
نفسه منتف في الشرع وإدخال الضرر بغير حق كذلك وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررا
بما ينتفع هو به والضرار أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به كمن منع ما لا يضره
ويتضرر به الممنوع ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح وقيل الضرر
أن يضر به من لا يضره والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز وبكل حال
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفي الضرر والضرار بغير حق فأما إدخال الضرر على
أحد يستحقه إما لكونه تعدي حدود الله فيعاقب بقدر جريمته أو كونه ظلم نفسه وغيره
فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل فهذا غير مراد قطعا وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق
وهذا على نوعين أحدهما أن لا يكون في ذلك غرض سوي الضرر بذلك الغير فهذا لا ريب في
قبحه وتحريمه وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع منها في الوصية قال
تعالى
{مِن بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} النساء وفي
الحديث عن أبي هريرة مرفوعًا إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضره الموت
فيضار في الوصية فيدخل النار ثم تلا تلك حدود الله إلى قوله
{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ
عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء وخرجه الترمذي وغيره بمعناه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه الإضرار في الوصية من الكبائر ثم تلا
هذه الآية والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي
فرضه الله له فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إن
الله قد أعطي كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث
فينقص حقوق الورثة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الثلث والثلث كثير ومتي وصي
لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث لم ينفذ ما وصي به إلا بإجازة الورثة وسواء قصد
المضارة أو لم يقصد وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث فإنه يأثم بقصده
المضارة وهل ترد وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا حكي ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد
وقيل إنه قياس مذهب أحمد ومنها الرجعة في النكاح وقال تعالى
{فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} البقرة
وقال
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ
إِصْلاَحًا} البقرة فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة فإنه
آثم بذلك وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث يطلق الرجل امرأته
ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها ثم يراجعها ثم يطلقها ويفعل ذلك أبدًا بغير نهاية
فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسكة فأبطل الله ذلك وحصر الطلاق في ثلاث مرات وذهب مالك
إلى أن من راجع امرأته قبل انقضاء عدتها ثم طلقها من غير مسيس أنه إن قصد بذلك
مضارتها بتطويل لم تستأنف العدة وبنت على ما مضي منها وإن لم يقصد بذلك استأنفت عدة
جديدة وقيل تبين مطلقا وهو قول عطاء وقتادة والشافعي في القديم وأحمد في رواية وقيل
تستأنف مطلقا وهو قول الأكثرين منهم أبو قلابة والزهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي
في الجديد وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وغيرهم ومنها في الإيلاء فإن الله جعل
مدة المولي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على امتناعه من وطء زوجته فإنه يضرب له مدة
أربعة أشهر فإن فاء ورجع إلى الوطء كان ذلك توبته وإن أصر على الامتناع لم يمكن من
ذلك ثم فيه قولان للسلف والخلف أحدهما أنها تطلق عليه بمضي هذه المدة والثاني أنه
يوقف فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ولو ترك الوطء لقصد إضرار بغير يمين مدة أربعة أشهر
فقال كثير من أصحابنا حكمه حكم المولي في ذلك وقالوا هو ظاهر في كلام أحمد وكذا قال
جماعة منهم إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذر ثم طلب الفرقة فرق بينهما بناء على
أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب واختلفوا هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر
ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء من غير عذر فإنه يفسخ نكاحه مع اختلافهم في تقدير
المدة ولو أطال السفر من غير عذر وطلبت امرأته قدومه فأبي فقال مالك وأحمد وإسحاق
يفرق الحاكم بينهما وقدره أحمد بستة أشهر وإسحاق بمضي سنتين ومنها في الرضاع قال
تعالى
{لاَ
تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}
البقرة.
وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم إذا رضيت ما يرضي به
غيرها فهي أحق به وهذا هو المنصوص عن أحمد رحمه الله ولو كانت الأم في حبال الزوج
وقيل إن كانت في حبال الزوج فله منعها من إرضاعه إلا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها
وقول الشافعي وبعض أصحابنا لكن إنما يجوز ذلك إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة
للاستمتاع لا مجرد إدخال الضرر عليها، وقوله
{وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ
بِوَلَدِهِ} البقرة يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت إرضاع ولدها بأجرة
مثلها لزم الأب إجابتها إلى ذلك وسواء وجد غيرها أو لم يوجد هذا منصوص الإمام أحمد
فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كثيرة ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم
الأب إجابتها إلى ما طلب لأنها تقصد المضارة.
وقد نص عليه الإمام أحمد أيضًا ومنها في البيع قد ورد النهي عن بيع
المضطر خرجه أبو داود من حديث على بن أبي طالب أنه خطب الناس فقال إنه سيأتي على
الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال تعالى
{وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ} البقرة ويبايع المضطرون.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وخرجه
الإسماعيلي وزاد فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان عندك خير تعود به على
أخيك وإلا فلا تزيدنه هلاكًا إلى هلاكه وخرجه أبو يعلي الموصلي بمعناه من حديث
حذيفة مرفوعًا أيضًا.
وقال عبد الله بن معقل بيع الضرورة ربا.
قال حرب سئل أحمد عن بيع المضطر فكرهه فقيل له كيف هو قال يجيئك وهو
محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين وقال أبو طالب قيل لأحمد إن ربح بالعشرة خمسة
فكره ذلك وإن كان المشتري مسترسلًا لا يحسن أن يماكس فباعه بغبن كثير لم يجز
أيضًا.
قال أحمد الخلابة الخداع وهو أنه يغتبنه فيما لا يتغابن الناس في
مثله يبيعه ما يساوي درهما بخمسة ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك ولو
كان محتاجا إلى نقد فلم يجد من يقرضه فاشتري سلعة بثمن إلى أجل في ذمته ومقصوده بيع
تلك السلعة ليأخذ ثمنها فهذا فيه قولان للسلف ورخص أحمد في رواية وقال في رواية
أخشى أن يكون مضطرا فإن باع السلعة من بائعها فأكثر السلف على تحريم ذلك وهو مذهب
مالك وأبي حنيفة رحمهم الله وأحمد وغيرهم ومن أنواع الضر في البيوع التفريق بين
الوالدة وولدها في البيع فإن كان صغيرًا حرم بالاتفاق وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة
فإن رضيت الأم بذلك ففي جوازه اختلاف ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدًا وإنما
ذكرنا هذا على وجه المثال والنوع الثاني أن يكون له غرض آخر صحيح مثل أن يتصرف في
ملكه بما فيه مصلحة له فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه
توفيرا فيتضرر الممنوع بذلك فأما الأول وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره
فإن كان على غير الوجه المعتاد مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف فيحترق ما
يليه فإنه متعد بذلك وعليه الضمان وإن كان على الوجه المعتاد ففيه للعلماء قولان
مشهوران أحدهما لا يمنع من ذلك وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما والثاني المنع
وهو قول أحمد ووافقه مالك في بعض الصور فمن صور ذلك أن يفتح كوة في بنائه العالي
مشرفة على جاره أو يبني بناء عاليا يشرف على جاره ولا يستره فإنه يلزمه بستره نص
عليه أحمد ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي قال الروياني منهم في كتاب الحلية يجتهد
الحاكم في ذلك ويمنع إذا ظهر له التعيث وقصد الفساد قال، وكذلك القول في إطالة
البناء ومنع الشمس والقمر وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده مرفوعًا حديثًا طويلا في حق الجار وفيه ولا يستطيل البناء فيحجب عنه
الريح إلا بإذنه ومنها أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فيذهب ماؤها فإنها تطم في
ظاهر مذهب مالك وأحمد.
وخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا تضاروا في الحفر وذلك أن يحفر الرجل إلى جنب الرجل ليذهب بمائه
ومنها أن يحدث في ملكه ما يضر ملك جاره من هز أو دق ونحوهما فإنه يمنع منه في ظاهر
مذهب مالك وأحمد وهو أحد الوجوه للشافعية وكذا إذا كان يضر بالسكان كما إذا كان له
رائحة خبيثة ونحو ذلك ومنها أن يكون له ملك في أرض غيره ويتضرر صاحب الأرض بدخوله
إلى أرضه فإنه يجبر على إزالته ليندفع به ضرر الدخول خرجه أبو داود في سننه من حديث
أبي جعفر محمد بن على أنه حدث سمرة بن جندب أنه كان له عذق من نخل في حائط رجل من
الأنصار ومع الرجل أهله، وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذي به وشق عليه فطلب إليه أن
يناقله فأبي فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله
عليه وسلم أن يبيعه فأبي فطلب إليه أن يناقله فأبي قال فهبه له ولك كذا وكذا أمرا
رغبه فيه فأبي فقال أنت مضار فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري اذهب فاقلع
نخله وقد روي عن أبي جعفر مرسلًا قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث
كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك فإن أجاب وإلا أجبره السلطان ولا يضر
بأخيه في ذلك وفيه مرفق له وخرجه أبو بكر الخلال من رواية عبد اللهبن محمد بن عقيل
عن عبد اللهبن سليط بن قيس عن أبيه أن رجلًا من الأنصار كانت له في حائطه نخلة لرجل
آخر، وكان صاحب النخل لا يريحها غدوة وعشية فشق ذلك على صاحب الحائط فأتي النبي صلى
الله عليه وسلم فدكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة خذ منه
نخلة مما يلي الحائط مكان نخلتك قال لا والله قال فخذ مني ثنتين قال لا والله قال
فهبها له قال لا والله قال فردد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي فأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه نخلة مكان نخلته وخرجه أبو داود في المراسيل من
رواية إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال كان لأبي لبابة عذق
في حائط رجل فكلمه فقال إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عن
فأبي عليه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى
مالك واكفف عن صاحبك ما يكره فقال ما أنا بفاعل فقال اذهب فاخرج له مثل عذقه إلى
حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار ففي هذا الحديث والذي
قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في تركه وهذا مثل إيجاب
الشفعة لدفع ضرر الشريك الطارئ ويستدل بذلك أيضًا على وجوب العمارة على الشريك
الممتنع من العمارة وعلي إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة وقد ورد من حديث محمد بن أبي
بكر عن أبيه مرفوعًا لا تعضيه في الميراث إلا ما احتمل القسم وأبو بكر هو ابن عمرو
بن حزم قاله الإمام أحمد والحديث حينئذ مرسل والتعضية هي القسمة ومتي تعذرت القسمة
لكون المقسوم يتضرر بقسمته وطلب أحد الشريكين البيع أجبر الآخر وقسم الثمن نص عليه
أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة وأما الثاني وهو منع الجار من الانتفاع بملكه
والاتفاق به فإن كان ذلك يضر بمن انتفع بملكه فله المنع كمن له جدار واه لا يحمل أن
يطرح عليه خشب وأما إن لم يضر به فهل يجب عليه التمكين ويحرم عليه الامتناع أم لا
فمن قال في القسم الأول لا يمنع المالك من التصرف في ملكه وإن أضر بجاره وقال هنا
للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه ومن قال هناك بالمنع فاختلفوا ههنا على
قولين أحدهما المنع ههنا وهو قول مالك والثاني أنه لا يجوز المنع وهو مذهب أحمد في
طرح الخشب على جدار دار جاره ووافقه الشافعي في القديم وإسحاق وأبو ثور وداود بن
المنذر وعبد الملك بن حبيب المالكي وحكاه مالك عن بعض قضاة المدينة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره قال أبو هريرة مالي أراكم
عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم وقضي عمر بن الخطاب رضي الله عنه على
محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه وقال لتمرن به ولو على بطنك وفي الإجبار
على ذلك روايتان عن الإمام أحمد ومذهب أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جاره
إذا أجراه في قناة في باطن أرضه نقله عنه حرب الكرماني ومما ينهى عن منعه الضرر منع
الماء والكلأ.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ وفي سنن أبي داود أن رجلًا قال يا نبي
الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل
منعه قال الملح قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال أن تفعل الخير خير
لك وفيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الناس شركاء في ثلاث الماء والنار
والكلأ وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يمنع فضل الماء الجاري والنابع مطلقا سواء قيل
إن الماء لمالك أرضه أم لا وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد
وغيرهم والمنصوص عن أحمد وجوب بذله مجانا بغير عوض للشرب وسقي الزروع ومذهب أبي
حنيفة والشافعي لا يجب بذله للزرع واختلفوا هل يجب بذله مطلقا أو إذا كان بقرب
الكلأ، وكان منعه مفضيا إلى منع الكلأ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي وفي كلام
أحمد ما يدل على اختصاص المنع بالقرب من الكلأ وأما مالك فلا يجب عنده بذل فضل
الماء المملوك بملك منبعه ومجراه إلا للمضطر كالمجاز في الأوعية وإنما يجب عنده بذل
فضل الماء الذي لا يملك وعند الشافعي حكم الكلأ كذلك يجوز منع فضله إلا في أرض
الموات ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنه لا يمنع فضل الكلأ مطلقا ومنهم من قال
لا يمنع أحد الماء والكلأ إلا أهل الثغور خاصة وهو قول الأوزاعي لأن أهل الثغور إذا
ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدروا أن يتحولوا من مكانهم من وراء بيضة الإسلام وأهله وأما
النهي عن منع النار فحمله طائفة من الفقهاء على النهي عن الاقتباس منها دون أعيان
الجمر ومنهم من حمله على منع الحجارة المورية للنار وهو بعيد ولو حمل على منع
الاستضاءة بالنار وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها بها لم يستدفئ بها أو ينضج عليها
طعامًا ونحوه لم يبعد وأما الملح فلعله يحمل على منع أخذه من المعادن المباحة فإن
الملح من المعادن الظاهرة لا يملك بالإحياء ولا بالإقطاع نص عليه أحمد وفي سنن أبي
دواد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع رجلًا الملح فقيل لمه يا رسول الله إنه
بمنزلة الماء أي النابع المعد فانتزعه منه ومما يدخل في عموم قوله صلى الله عليه
وسلم لا ضرر أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة فإن ما يأمرهم به هو عين
صلاح دينهم ودنياهم وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم لكنه لم يأمر عباده
بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضًا ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض وقال ما
يريد الله ليجعل عليكم من حرج المائدة وأسقط الصيام عن المريض والمسافر وقال يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة وأسقط اجتناب محظورات الإحرام كالحلق
ونحوه عمن كان مريضا أو به أذى من رأسه وأمر بالفدية.
وفي المسند عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي
الأديان أحب إلى الله قال الحنيفية السمحة ومن حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال إني أرسلت بحنيفية سمحة ومن هذا المعنى ما في الصحيحين عن
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلًا يمشي قيل له إنه نذر أن يحج ماشيا فقال
إن الله لغني عن مشيه فليركب وفي رواية إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وفي السنن
عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن
الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا فلتركب وقد اختلف العلماء في حكم من نذر أن يحج
ماشيا فمنهم من قال لا يلزمه المشي وله الركوب بكل حال وهو رواية عن الأوزاعي وأحمد
وقال أحمد يصوم ثلاثة أيام وقال الأوزاعي عليه كفارة يمين والمشهور أنه يلزمه ذلك
إن أطاقه فإن عجز عنه فقيل يركب عند العجز ولاشيء عليه وهو أحد قولي الشافعي وقيل
بل عليه مع ذلك كفارة يمين وهو قول الثوري وأحمد في رواية وقيل بل عليه دم قاله
طائفة من السلف منهم عطاء ومجاهد والحسن والليث وأحمد في رواية وقيل يتصدق بكراء ما
ركب وروى عن الأوزاعي وحكاه عن عطاء وروى عن عطاء يتصدق بقدر نفقته عند البيت وقالت
طائفة من الصحابة وغيرهم لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل فيمشي ما ركب ويركب ما مشى
وزاد بعضهم وعليه هدي وهو قول مالك إذا كان ما ركبه كثيرًا ومما يدخل في عمومه
أيضًا بأن من عليه دين لا يطالب به مع إعساره بل ينظر إلى حال يساره قال تعالى
{وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة وعلي هذا جمهور العلماء
خلافًا لشريح في قوله إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية والجمهور أخذوا
باللفظ العام لا يكلف المدين أن يقضي بما عليه في خروجه من ملكه ضرر كثيابه ومسكنه
المحتاج إليه وخادمه كذلك ولا ما يحتاج إلى التجارة به لنفقته ونفقة عياله هذا مذهب
الإمام أحمد رحمه الله تعالى.