الحديث الثالث والثلاثون البينة على المدعي واليمين على من أنكر
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعي رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي
واليمين على من أنكر حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين
أصل هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج عن ابن أبي
مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو يعطي
الناس بدعواهم لادعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه وخرجاه
أيضًا من رواية نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قضي أن اليمين على المدعي عليه واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساق ابن الصلاح
مثله في الأحاديث الكليات وقال رواه البيهقي بإسناد حسن وخرجه الإسماعيلي في صحيحه
من رواية الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء رجال وأموالهم ولكن
البينة على الطالب واليمين على المطلوب وروى الشافعي أنبأ مسلم بن خالد عن ابن جريج
عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البينة على
المدعي قال الشافعي وأحسبه ولا أثبته أنه قال واليمين على المدعي عليه وروى محمد بن
عمر بن لبانة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي ووصفه بالفضل عن غازي بن
قيس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث
ولكن قال البينة على من ادعي واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح
سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما وسقط من هذا الإسناد ابن جريج وقد استدل الإمام
أحمد وأبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البينة على المدعي واليمين على من
أنكر وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به وفي المعنى أحاديث كثيرة ففي
الصحيحين عن الأشعث بن قيس قال كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه قلت
إذا يحلف ولا يبالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يستحق بها
ما لا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ثم قرأ هذه الآية
{إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} آل
عمران.
وفي رواية لمسلم بعد قوله إذا يحلف قال ليس لك إلا ذلك وخرجه أيضًا
مسلم بمعناه من حديث وائل ابن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه
وقال في إسناده مقال والعرزمي يضعف في الحديث من جهة حفظه وخرجه الدارقطني من رواية
مسلم بن خالد الزنجي وفيه ضعف عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة
ورواه الحافظ عن ابن جرير عن عمرو بن شعيب مرسلًا وخرجه أيضًا من رواية مجاهد عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم الفتح المدعي عليه أولي
باليمين إلا أن تقوم بينة وخرجه الطبراني وعنده عن عبدالله ابن عمرو بن العاص وفي
إسناده كلام.
وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة وروى حجاج الصواف
عن حميد بن هلال عن زيد بن ثابت قال قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل طلب
عند رجل طلبة فإن المطلوب هو أولي باليمين وخرجه أبو عبيد والبيهقي وإسناده ثقات
إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيدا بن ثابت وخرجه الدارقطني وزاد فيه بغير شهداء
وخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعي
أحدهما على الآخر حقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي أقم بينتك فقال يا رسول
الله ما لي بينة فقال الآخر احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عليك أو عندك شيء
وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر
وقضي بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه وقال قتادة فصل الخطاب الذي
أوتيه داود عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام هو أن البينة على المدعي واليمين على من
أنكر.
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي واليمين
على المدعي عليه قال ومعنى قوله البينة على المدعي يعني أنه يستحق بها ما ادعي
لأنها واجبة يؤخذ بها ومعنى قوله علي المدعي عليه أي يبرأ بها لأنها واجبة عليه
يؤخذ بها على كل حال انتهى.
وقد اختلف الفقهاء من أصحابنا والشافعية في تفسير المدعي والمدعي
عليه فمنهم من قال المدعي هو الذي يخلي وسكوته من الخصمين والمدعي عليه من لا يخلي
وسكوته منهما ومنهم من قال المدعي من يطلب أمرا خفيا على خلاف الأصل والظاهر
والمدعي عليه بخلافه وبنوا على ذلك مسألة وهي إذا أسلم الزوجان الكافران قبل الدخول
ثم اختلفا فقال الزوج أسلمنا معا فنكاحنا باق وقالت الزوجة بل سبق أحدنا إلى
الإسلام فالنكاح منفسخ فإن قلنا المدعي يخلي وسكوته فالمرأة هي المدعي فيكون القول
قول الزوج لأنه مدعي عليه إذ لا يخلي وسكوته وإن قلنا إن المدعي من يدعي أمرا خفيا
فالمدعي هنا هو الزوج إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر فالقول قول المرأة لأن
الظاهر معها وأما الأمين إذا ادعي التلف كالمودع إذا ادعي تلف الوديعة فقد قيل إنه
مدع لأن الأصل يخالف ما ادعاه وإنما لم يحتج إلى بينة لأن المودع ائتمنه والائتمان
يقتضي قبول قوله وقيل إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة هو المدعي ليعطي بدعواه مال
قوم أو دماءهم كما ذكر ذلك في الحديث فأما الأمين فلا يدعي ليعطي شيئًا وقيل بل هو
مدعي عليه لأنه إذا سكت لم يترك بل لابد له من رد الجواب والمودع مدع لأنه إذا سكت
ترك ولو ادعي الأمين رد الأمانة إلى من ائتمنه فالأكثرون على أن قوله مقبول أيضًا
لدعوى التلف.
وقال الأوزاعي لا يقبل قوله لأنه مدع وقال مالك وأحمد في رواية إن
ثبت قبضه للأمانة ببينة لم يقبل قوله في الرد بدون البينة ووجه بعض أصحابنا ذلك بأن
الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب فيكون تركه تفريطا فيجب به الضمان
ولذلك قال طائفة منهم في دفع مال اليتيم إليه لابد له من بينة لأن الله تعالى أمر
بالإشهاد عليه فيكون واجبا وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين أحدهما أن
البينة على المدعي أبدًا واليمين على المدعي عليه أبدًا وهو قول أبي حنيفة ووافقه
طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخارى وطردوا ذلك في كل دعوى حتى في القسامة وقالوا
لا يحلف إلا المدعي عليه ورأوا أن لا يقضي بشاهد ولا يمين لأن اليمين لا تكون إلا
على المدعي عليه ورأوا أن اليمين لا ترد على المدعي لأنها لا تكون إلا في جانب
المنكر المدعي عليه واستدلوا في مسئلة القسامة بما روى سعيد بن عبيد حدثنا بشير بن
بشار الأنصاري عن سهل بن أبي خيثمة أنه أخبره أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر
فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا فذكر الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
تأتوني بالبينة على من قتله قالوا ما لنا بينة قال فيحلفون قالوا لا نرضي بأيمان
اليهود فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة خرجه
البخاري وخرجه مسلم مختصرًا ولم يتمه ولكن هذه الرواية تعارض رواية يحيى بن سعيد
الأنصاري عن بشير ابن بشار عن سهل بن أبي خيثمة فذكر قصة القتيل وقال فيه فذكروا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقتل عبدالله بن سهل فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وهذه هي الرواية المشهورة
الثابتة المخرجة بلفظها بكمالها في الصحيحين وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى
بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عبيد الطائي فإنه أجل وأحفظ وأعلم وهو من أهل المدينة
وهو أعلم بحديثهم من الكوفيين وقد ذكر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن
سعيد في هذا الحديث فنفض يده وقال ذاك ليس بشيء رواه على ما يقول الكوفيين وقال
أذهب إلى حديث المديني يحيى بن سعيد وقال النسائي لا نعلم أحدًا تابع سعيدا بن عبيد
على روايته عن بشير بن بشار وقال مسلم في كتاب التمييز لم يحفظه سعيد بن عبيد على
وجهه لأن جميع الأخبار فيها سؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياهم قسامة خمسين يمينا
وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة وترك سعيد
القسامة وتواطؤ الأخبار بخلافه يقضي عليه بالغلط وقد خالفه يحيى بن سعيد.
وقال ابن عبد البر في رواية سعيد بن عبيد هذه رواية أهل العراق عن
بشير بن بشار ورواية أهل المدينة عنه أثبت وهم به أقعد ونقلهم أصح عند أهل العلم
قلت وسعيد بن عبيد اختصر قصة القسامة وهي محفوظة في الحديث فقد خرج النسائي من حديث
عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ولي القتيل
شاهدين على من قتله فقال ومن أين أصيب شاهدين قال فتحلف خمسين قسامة قال كيف أحلف
على ما لم أعلم قال فتستحلف منهم خمسين قسامة فهذا الحديث يجمع بين روايتي سعيد بن
عبيد ويحيى ابن سعيد ويكون كل منهما ترك بعض القصة فترك سعيد ذكر قسامة المدعين
وترك يحيى ذكر البينة قبل طلب القسامة والله أعلم.
وأما مسألة الشاهد مع اليمين فاستدل من أنكر الحكم بالشاهد واليمين
بحديث شاهداك أو يمينه.
وقوله صلى الله عليه وسلم ليس لك إلا ذلك وقد تكلم القاضي إسماعيل
المالكي في هذه اللفظة وقال تفرد بها منصور عن أبي وائل وخالفه سائر الرواة وقالوا
إنه سأله ألك بينة أولا والبينة لا تقف على الشاهدين فقط بل تعم سائر ما يبين الحق
وقال غيره يحتمل أن يريد بشهادته كل نوعين يشهدان للمدعي بصحة دعواه يتبين بهما
الحق فيدخل ذلك بشهادة الرجلين وشهادة الرجل مع المرأتين وشهادة الواحد مع اليمين
وقد أقام الله سبحانه أيمان المدعي مقام الشهود في اللعان، وقوله في تمام الحديث
ليس لك إلا ذلك لم يرد به النفي العام بل النفي الخاص وهو الذي أراده المدعي وهو أن
يكون القول قوله بغير بينة فمنعه من ذلك وأبي ذلك عليه، وكذلك قوله في الحديث الآخر
ولكن اليمين على المدعي عليه إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة وأول الحديث
يدل على ذلك وهو قوله لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء رجال وأموالهم فدل على
أن قوله اليمين على المدعي عليه إنما هي اليمين القاطعة للمنازعة مع عدم البينة
وأما اليمين المثبتة للحق مع وجود الشهادة فهذا نوع آخر وقد ثبت بسنة أخرى وأما رد
اليمين على المدعي فالمشهور عن أحمد موافقة أبي حنيفة وأنها لا ترد واستدل أحمد
بحديث اليمين على المدعي عليه وقال في رواية أبي طالب عنه ما هو بعيد أن يقال له
يحلف ويستحق واختار ذلك طائفة من متأخري الأصحاب وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد
وروى عن طائفة من الصحابة وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني وفي إسناده نظر
قال أبو عبيد ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها فإن الإزالة أن لا تقضي باليمين على
المطلوب فأما إذا قضي بها عليه فرضي بيمين صاحبه كان هو الحاكم على نفسه بذلك لأنه
لو شاء لحلف وبريء وبطلت عنه الدعوى والقول الثاني في المسألة أنه يرجح جانب أقوي
المتداعيين وتجعل اليمين في جانبه هذا مذهب مالك وكذا ذكر القاضي أبو يعلي في خلافه
أنه مذهب أحمد وعلي هذا تتوجه المسائل التي تقدم ذكرها من الحكم بالقسامة والشاهد
واليمين فإن جانب المدعي في القسامة لما قوي باللوث جعلت اليمين في جانبه وحكم له
بها، وكذلك المدعي إذا أقام شاهدا فإنه قوي جانبه فحلف معه وقضي له وهؤلاء لهم في
الجواب عن قوله البينة على المدعي طريقان أحدهما أن هذا خص من هذا العموم بدليل
والثاني أن قوله البينة على المدعي ليس بعام لأن المراد المدعي المعهود وهو من لا
حجة له سوي الدعوى كما في قوله لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء قوم وأموالهم
فأما المدعي الذي معه حجة تقوي دعواه فليس داخلا في هذا الحديث وطريق ثالث وهو أن
البينة كل ما بين صحة دعوى المدعي وشهد بصدقه فاللوث مع القسامة بينة والشاهد مع
اليمين بينة وطريق رابع سلكه بعضهم وهو الطعن في صحة هذه اللفظة أعني قوله البينة
على المدعي وقالوا إنما الثابت هو قوله اليمين على المدعي عليه، وقوله لو يعطي
الناس بدعواهم لادعي قوم دماء قوم وأموالهم يدل على أن مدعي الدم والمال لابد له من
بينة تدل على ما ادعاه ويدخل في عموم ذلك أن من ادعي على رجل أنه قتل مورثه وليس
معه إلا قول المقتول عند موته جرحني فلان أنه لا يكتفي بذلك ولا يكون بمجرده لوثا
وهذا قول الجمهور خلافًا للمالكية فإنهم جعلوه لوثا يقسم معه الأولياء ويستحقون
الدم ويدخل في عمومه أيضًا من قذف زوجته ولاعنها فإنه لا يباح دمها بمجرد لعانه
وهذا قول الأكثرين خلافًا للشافعي واختار قوله الجوزجاني لظاهر قوله عز وجل
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ} النور والأولون منهم من حمل العذاب على الحبس وقالوا
إن لم تلاعن حبست حتى تقر أو تلاعن وفيه نظر ولو ادعت امرأة على رجل بأنه استكرهها
على الزنا فالجمهور على أنه لا يثبت بدعواها عليه شيء وقال أشهب من المالكية لها
الصداق بيمينها.
وقال غيره منهم لها الصداق بغير يمين هذا كله إذا كانت ذات قدر
وادعت ذلك على متهم تليق به الدعوى وإن كان المرمي بذلك من أهل الصلاح ففي حدها
للقذف عن مالك روايتان وقد كان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع
فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق إحدى المتداعيين وقضي شريح في أولاد هرة تداعاها
امرأتان كل منهما تقول هي ولد هرتي قال شريح ألقها مع هذه فإن هي قرت ودرت واستبطرت
فهي لها وإن فرت وهربت وبارت فليس لها قال ابن قتيبة قوله استبطرت يريد امتدت
للإرضاع وإن بارت اقشعرت وتنفشت، وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية
ورجح قوله ابن عقيل من أصحابنا وقد روي عن الشافعي وأحمد السختياني قول القافة في
سرقة الأموال والأخذ بذلك ونقل ابن منصور عن أحمد إذا قال صاحب الزرع أفسدت غنمك
زرعي بالليل ينظر في الأثر فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع لابد لصاحب الزرع من أن
يجئ بالبينة قال إسحاق ابن راهويه كما قال أحمد لأنه مدع وهذا يدل على اتفاقهما على
الاكتفاء برؤية أثر الغنم وأن البينة إنما تطلب عند عدم الأثر، وقوله واليمين على
المدعي عليه يدل على أن كل من ادعي عليه دعوى فأنكر فإن عليه اليمين وهذا قول أكثر
الفقهاء وقال مالك إنما تجب اليمين على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوع مخالطة
خوفا من أن يتبذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم وعنده ولو ادعي على رجل أنه
غصبه أو سرق منه ولم يكن المدعي عليه متهما بذلك لم يستحلف المدعي عليه وحكي أيضًا
عن القاسم بن محمد وحميد بن عبدالرحمن وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة فإن كان
من أهل الفضل أو ممن لا يشار إليه بذلك أدب المدعي عند مالك واستدل بقوله اليمين
على المدعي عليه على أن المدعي لا يمين عليه وإنما عليه البينة وهو قول الأكثرين
وروى عن على أنه أحلف المدعي مع بينته أن شهوده شهدوا بحق وفعله أيضًا شريح وعبد
الله بن عقبة وابن مسعود وابن أبي ليلي وسوار العنبري وعبيد الله بن الحسين ومحمد
بن عبدالله الأنصاري وروى عن النخعي أيضًا وقال إسحاق إذا استراب الحاكم وجب ذلك
وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد قد فعله علي فقال له أيستقيم هذا
فقال قد فعله علي فأثبت القاضي هذه الرواية عن أحمد لكنه حملها على الدعوى على
الغائب والصبي وهذا لا يصح لأن عليا إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه
وهؤلاء يقولون هذه اليمين لتقوية الدعوى إذا ضعفت باسترابة الشهود كاليمين مع
الشاهد الواحد، وكان بعض المتقدمين يحلف الشهود إذا استرابهم أيضًا ومنهم سوار
العنبري قاضي البصرة وجوز ذلك القاضي أبو يعلي من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة
وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع إنها تستحلف وأخذ به الإمام أحمد
وقد دل القرآن على استحلاف المشهود عند الارتياب بشهادتهم في الوصية في السفر في
قوله تعالى
{يِا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ} إلى قوله
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ
إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ
نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} المائدة.
وهذه الآية لم ينسخ العمل بها عند جمهور السلف وقد عمل بها أبو موسى
وابن مسعود وأفتي بها على وابن عباس وهو مذهب شريح والنخعي وابن أبي ليلي وسفيان
والأوزاعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم قالوا تقبل شهادة الكفار في وصية المسلمين في
السفر ويستحلفان مع شهادتهما وهل يمنعهما من باب تكميل الشهادة فلا يحكم بشهادتهما
بدون يمين أم من باب الاستظهار عند الريبة وهذا محتمل وأصحابنا جعلوها شرطًا وهو
ظاهر ما روي عن أبي موسى وغيره.
وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب
الاستظهار فإن رأي الحاكم الاكتفاء بالشاهد الواحد لبروز عدالته وظهور صدقه اكتفي
بشهادته بدون يمين الطالب، وقوله فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان
مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما
المائدة يدل على أنه إذا ظهر خلل في شهادة الكفار حلف أولياء الميت على خيانتهما
وكذبهما واستحقوا عليه وهذا قول مجاهد وغيره من السلف ووجه ذلك أن اليمين في جانب
أقوي المتداعيين وقد قويت هنا دعوى الورثة بظهور كذب الشهود الكفار فترد اليمين على
المدعين ويحلفون مع اللوث ويستحقون ما ادعوا كما يحلف الأولياء في القسامة مع اللوث
ويستحقون بذلك الدية والدم أيضًا عند مالك وأحمد وغيرهما وقضي ابن مسعود في رجل
مسلم حضره الموت فأوصي إلى رجلين مسلمين معه وسلمهما ما معه من المال وأشهد على
وصيته كفارا ثم قدم الوصيان فدفعا بعض المال إلى الورثة وكتما بعضه ثم قدم الكفار
فشهدوا عليهم بما كتموه من المال فدعا الوصيين المسلمين فاستحلفهما ما دفع إليهما
أكثر مما دفعاه ثم دعا الكفار فشهدوا وحلفوا على شهادتهم ثم أمر أولياء الميت أن
يحلفوا أن ما شهدت به اليهود والنصارى حق فحلفوا فقضي على الوصيين بما حلفوا عليه،
وكان ذلك في خلافة عثمان وتأول ابن مسعود الآية على ذلك وكأنه قابل بين يمين
الأوصياء والشهود الكفار فحلفوا معها واستحقوا لأن جانبهم ترجح بشهادة الكفار لهم
فجعل اليمين مع أقوي المتداعيين وقضي بها واختلف الفقهاء هل يستحلف في جميع حقوق
الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد أو لا يستحلف إلا فيما يقضي فيه بالنكول
كرواية عن أحمد ولا يستحلف إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد ولا يستحلف
إلا في كل دعوى لا تحتاج إلى شاهدين كما حكي عن مالك وأما حقوق الله عز وجل فمن
العلماء من قال لا يستحلف فيها بحال وهو قول أصحابنا وغيرهما ونص عليه أحمد في
الزكاة وبه قال طاوس والثوري والحسن بن صالح وغيرهم وقال أبو حنيفة ومالك والليث
والشافعي إذا اتهم فإنه يستحلف وكذا حكي عن الشافعي فيمن تزوج من لا تحل له ثم ادعي
الجهل أنه يحلف على دعواه وكذا قال إسحاق في طلاق السكران يحلف أنه ما كان يعقل وفي
طلاق الناسي يحلف على نسيانه وكذا قال القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله في رجل قال
لامرأته أنت طالق يحلف أنه ما أراد به الثلاث وترد إليه.
وخرج الطبراني من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه قال كان أناس من الأعراب يأتون بلحم، وكان في أنفسنا منه شيء فذكرنا ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اجهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها ثم اذكروا اسم الله
وكلوا وأبو هارون ضعيف جدًا وأما المؤتمن في حقوق الآدميين حيث قبل قوله فهل عليه
يمين أم لا ففيه ثلاثة أقوال للعلماء أحدهما لا يمين عليه لأنه صدقه ولا يمين مع
التصديق وبالقياس على الحاكم وهذا قول الحارث العكلي والثاني عليه اليمين لأنه منكر
فيدخل في عموم قوله واليمين على من أنكر وهو قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ومالك في
رواية وأكثر أصحابنا والثالث لا يمين عليه إلا أن يتهم وهو نص أحمد وقول مالك في
رواية لما تقدم من ائتمانه وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان فقد اختل معنى
الائتمان، وقوله البينة على المدعي واليمين على من أنكر إنما أريد به إذا ادعي على
رجل ما يدعيه لنفسه وينكر أنه ادعاه عليه ولهذا قال في أول الحديث لو يعطي الناس
بدعواهم لادعي رجال دماء قوم وأموالهم فأما من ادعي ما ليس له مدعي لنفسه منكر
لدعواه فهذا أسهل من الأول ولابد للمدعي هنا من بينة ولكن يكتفي من البينة هنا بما
لا يكتفي بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكر ويشهد لذلك مسائل منها اللقطة إذا
جاء من وصفها فإنها تدفع إليه من غير بينة بالاتفاق لكن منهم من يقول يجوز الدفع
إذا غلب على الظن صدقه ولا يجب كقول الشافعي وأبي حنيفة ومنهم من يقول يجب دفعها
بذكر الوصف المطابق كقول مالك وأحمد ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئًا وأنه
كان له واستولي عليه الكفار وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفي به وسئل عن ذلك
أحمد وقيل له فتريد على ذلك بينة قال لابد به من بيان يدل على أنه له وإن علم ذلك
دفعه إليه الأمير وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع عن أبيه قال أحمس أي شرد
لأخي فرس بعين القمر فرآه في مربط سعد فقال فرسي فقال سعد ألك بينة قال لا ولكن
أدعوه فيحمحم فدعاه فحمحم فأعطاه إياه وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو ثم ظهر عليه
المسلمون ويحتمل أنه عرف أنه ضال فوضع بين الدواب الضالة فيكون كاللقطة ومنها
المغصوب إذا علم ظلم الولاة فطلب ردها من بيت المال قال أبو الزناد كان عمر بن عبد
العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة كان يكتفي باليسير إذا عرف صرف
وجه مظلمة الرجل ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من غشم الولاة قبله على
الناس ولقد انقضت أموال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام وذكر أصحابنا
أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفي من مدعيها بالصفة كاللقطة ذكره
القاضي في خلافه وأنه ظاهر كلام أحمد والله أعلم.