الحال الداخلية لذلك
العهد:
كانت هذه المدة التي وليها الأمين مملوءة بالمشاكل
والاضطرابات بين الأخوين الأمين والمأمون وكادت الأمة تذهب بينهما ضياعاً وسبب ذلك
ما فعله الرشيد من ولاية العهد لأولاده الثلاثة أحدهم بعد الآخر وقسمته البلاد
بينهم ونحن نبين كيف ابتدأت المشاكل وكيف انتهت ونبين آثارها في الأمة:
لما كان الرشيد بطوس جدد البيعة لابنه المأمون على القواد
الذين معه وأشهد من معه من القواد وسائر الناس أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى
المأمون وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. ولما
علم الأمين وهو ببغداد مرض أبيه وأنه لمآبه أرسل من يفيده الأخبار كل يوم وأرسل
كتباً تسلم إلى من أرسلت إليه بعد وفاة الرشيد فلما توفي كان من تلك الكتب كتاب
للمأمون يعزيه فيه عن أبيه ويأمره أن يأخذ البيعة على من قبله للأمين بالخلافة
وللمأمون بولاية العهد وللقاسم المؤتمن بعده. ومنها
كتاب لصالح بن الرشيد وقد كان أكبر ولد الرشيد الذين معه وهو الذي صلى عليه حين مات
وقد أمره فيه بالاجتهاد والتشمير وأن يأخذ البيعة على من معه للأمين ثم المأمون ثم
المؤتمن على الشريطة التي اشترطها الرشيد وأمره بالمسير إليه مع جميع الجنود
والذخائر والسلاح وقال له في الكتاب وإياك أن تنفذ رأياً أو تبرم أمراً إلا برأي
شيخك وبقية آبائك الفضل بن الربيع وفيه وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو أرزاق فليكن
الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه بمحضر من أصحاب الدواوين
فإن الفضل بن الربيع لم يزل مثل ذلك لمهمات الأمور.
لما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد الأمين بطوس من القواد
والجند وأولاد هارون تشاوروا في اللحاق بمحمد فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً
حاضراً لآخر لا يدري ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل ففعلوا ذلك محبة منهم
للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم
للمأمون.
انتهى خبر ذلك إلى المأمون وهو بمرو فجمع من معه من قواد
أبيه واستشارهم فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس تجريدة فيردهم فدخل عليه الفضل
بن سهل وهو عنده من أعظم الناس قدراً وأخصهم به فقال له إن فعلت ما أشاروا به عليك
جعلت هؤلاء هدية إلى محمد ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً وتوجه إليهم رسولاً
فتذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا
فعل ذلك المأمون ووصل الكتاب والقوم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل فلم يفد هذا
الجواب فائدة وتم الفضل بن الربيع على سيره.
ولما جاء المأمون خبر ذلك كان الفضل بن سهل حاضراً فأزال
عنه الانزعاج أمله في الخلافة فجعل أمره إليه وأمره أن يقوم به بعد أن رفضه كبار
القواد الذين معه فكان من أول تدبيره أن يبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فيدعوهم
إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وأن يقعد على اللبود ويرد المظالم ليكون بذلك
قريباً من نفوس الجمهور ففعل.
ولم يبدأ المأمون أخاه بشيء يريبه بل تواترت كتبه إليه
بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب
والسلاح.
أما الأمر في بغداد فقد كان يدل على شر مستطير فإن الفضل بن
الربيع بعد مقدمه العراق ناكثاً للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه للمأمون رأى أن
الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوماً وهو حي لم يبق عليه فحث محمداً على خلفه وأن
يولي العهد من بعده ابنه موسى ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه بل كان عزمه الوفاء
لأخويه بما أخذ عليه الرشيد لهما من العهود فلم يزل به الفضل حتى أزاله عن رأيه
فأول ما بدأ به أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالأمرة
بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم. فلما
بلغ ذلك المأمون وبلغه أن الأمين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه من الأعمال
وأقدمه بغداد علم أنه يدبر في خلعه فقطع البريد عنه وأسقط اسمه من
الطرار.
كرر الأمين تجربته فكتب إلى العباس بن عبد اللَّه بن مالك
وهو عامل المأمون على الري وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري مريداً بذلك
امتحانه فبعث إليه بما طلب فبلغ ذلك المأمون فعزل العباس عن ولايته.
ثم بعث الأمين إلى المأمون ثلاثة نفر أحدهم العباس بن موسى
بن عيسى والغرض من هذا الوفد أن يطلبوا من المأمون رضاه بتقديم موسى بن الأمين على
نفسه في ولاية العهد فلما اطلع المأمون على مرادهم رد ذلك وأباه، وعرض الفضل بن سهل
على العباس بن موسى أن يكون عوناً لهم ومنوه الأماني إن هو أجاب إلى ذلك فرضي وكان
بعد ذلك يكتب إليهم بالأخبار ويشير عليهم بالرأي عاد الوفد إلى الأمين وأخبروه
بامتناع المأمون.
لم يخفض ذلك من غلواء الفضل بن الربيع بل ما زال يلح على
الأمين حتى رضي أن يخلع المأمون ويبايع لابنه موسى بولاية العهد، ونهى الفضل عن ذكر
المأمون والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر ووجه إلى مكة كتاباً مع رسول من
حجبة البيت في أخذ الكتابين اللذين كتبهما هارون وجعلهما بالكعبة فأحضرهما إلى
بغداد فمزقا.
وكان الأمين قبل أن يكاشف أخاه بذات نفسه أرسل إليه يسأله
أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سماها وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد وأن
يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره فكتب إليه جواب ذلك:
بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها مما
أثبته الرشيد في العقد وجعل أمره إليّ وما أمره رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره
غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنا به لا ظنين في النظر لعامته ولا جاهل بما أسند
إليّ من أمره ولو لم يكن ذلك مثبتاً بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم كنت على الحال
التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة وعامة لا تتألف عن هضمها وأجناد لا يستتبع
طاعتها إلا بالأموال وطرف من الأفضال لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من
أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيراً من عنايته وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله
فكيف بمسألة ما أوجبه الحق ووكدته مأخوذة العهد؟ وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو
علم من الحال ما علمت لم يطلع ما كتب بمسألته إليّ ثم أنا على ثقة من القبول بعد
البيان إن شاء الله.
وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد فلا يجوز رسول من
العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء ولا يدعه يستعلم خبراً ولا يؤثر أثراً ولا
يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحداً ولا يبلغ أحداً قولاً ولا كتاباً فحصر أهل خراسان
من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع صدورهم رهبة ويحملوا على منوال خلاف أو مفارقة ثم
وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره
ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبة أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه ومنع
الاشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة
والسابلة وفتشت الكتب. هكذا دبر الفضل بن سهل أمر صاحبه فلم يدع للفضل بن الربيع
مجالاً لرسله ورواده أن يبثوا شيئاً في عامة أهل خراسان ولما أتت رسل الأمين بجواب
كتب الأمين وجدوا جميع ما كانوا يؤملونه ممنوعاً عنهم موصداً بابه
دونهم.
لم يكن لهذه المكاتبات بين الأخوين نتيجة لأنه كان لكل
منهما سائق يسوقه فللأمين الفضل بن الربيع الذي لم يكن يحب المأمون ولا ولايته
وللمأمون الفضل بن سهل الذي كان يأمل الخلافة لصاحبه وأن تكون مرو حاضرة الخلافة
العظمى وتعود لخراسان عظمتها.
بلغ المأمون ما أقدم عليه أخوه من خلعه عن ولاية العهد وترك
الدعاء له فكان أول ما فعله الفضل ابن سهل من التدبير أن جمع الأجناد التي كان
أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها وأجناد للقيام بأمرهم وأقامهم بالحد
لا يتجاوزونه ولا يطلقون يداً بسوء في عامة ولا مجتاز ثم اختار لقيادة الجند طاهر
بن عيسى الخزاعي مولاهم فسار طاهر مغذاً لا يلوي على شيء حتى ورد الري فنزلها ووكل
بأطرافها ووضع مسالحه وبث عيونه وطلائعه.
أما الفضل بن الربيع فإنه اختار لجند العراق علي بن عيسى بن
ماهان وولاه الأمين كور الجبل كلها نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وأعطى جنده من
الأرزاق شيئاً كثيراً وأمدهم بالسلاح والعدة فشخص من بغداد في منتصف جمادى الآخرة
سنة195 وكان معه زهاء أربعين ألفاً وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون كما شاءت
زبيدة أم الأمين وقد خدم الأمين أخاه بهذا التعيين خدمة عظيمة فإن أهل خراسان لم
ينسوا ما عاملهم به علي بن عيسى من الفظائع مدة ولايته في عهد الرشيد فكان تعيينه
لحربهم مما أثار في قلوبهم الحمية لرد هذا العدو بعد أن أبدلهم اللَّه خيراً منه
عدلاً ورفقاً وحسن سياسة وهو عبد اللَّه المأمون.
وبينما كان هذا القائد يسير مدلاً بنفسه وبمن معه مستخفاً
بعدوه كان طاهر يدبر أمره مع قواده ويسير سير من يريد مواقعة عدو أكثر منه عدداً
وعدة وقد استقر رأيه على أن يجعل مدينة الري وراء ظهره ويقاتل بعيداً عنها فعسكر
على خمسة فراسخ منها وأقبل إليه علي بن الحسين وقد عبأ جنده وهم في أكمل عدة وأحسن
زي فكتب طاهر كتائبه وكردس كراديسه وسوى صفوفه وجعل يمر بقائد قائد وجماعة جماعة
يعظهم ويثبتهم ثم تلاحم الفريقان واقتتلوا قتالاً شديداً فعلت ميمنة علي على ميسرة
طاهر ففضتها فضاً منكراً وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها فقال طاهر: اجعلوا
بأسكم وجدكم على كراديس القلب فإنكم لو قد فضضتم منهم راية واحدة رجعت أوائلها على
أواخرها فصبر أصحابه صبراً صادقاً ثم حملوا على أولي رايات القلب فهزموهم وأكثروا
فيهم القتل.
وصل هذا الخبر بغداد على غير ما ينتظر القوم فانتخب الأمين
جيشاً ثانياً جعله تحت قيادة عبد الرحمن بن خبلة الأنباري وعدة هذا الجيش عشرون ألف
رجل من الأبناء وحمل معه الأموال وقواه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وندب معه
فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم وأوصى قائده بالتحفظ والاحتراس وترك
ما عمل به علي بن عيسى من الاغترار والتضجع فسار عبد الرحمن حتى نزل همذان فضبط
طرقها وحصن سورها وأبوابها وسد ثلمها وحشر إليها الأسواق والصناع وجمع فيها الآلات
والمير واستعد للقاء طاهر ومحاربته. ولما
بلغ طاهراً خبره توجه إليه حتى أشرف على همذان فخرج إليه عبد الرحمن فيمن معه على
تعبئة فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً إلى أن انهزم عبد الرحمن ودخل همذان فلبث فيها
حتى قوي أصحابه واندملت جراحهم ثم خرج ثانية إلى اللقاء فلقيه طاهر وفعل به ما فعل
في المرة الأولى فعاد إلى همذان فحصره فيها طاهر حتى جهد من قلة المادة فطلب الأمان
له ولمن معه فأمنه طاهر.
ولما تم لطاهر هذا النصر طرد عمال محمد من
قزوين.
كان ذلك سبباً لارتباك الفضل بن الربيع وشعوره بزوال الدولة
فدعا أسد بن يزيد بن مزيد وهو من قواد الدولة المعدودين وقال: له أنت فارس العرب
وابن فارسها فزع إليك الأمين في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران أما أحدهما
فصدق طاعتك وفضل نصيحتك والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك وقد أمرني بإزاحة علتك وبسط
يدك فيما أحببت غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة فانجز حوائجك
وعجل المبادرة إلى عدوك فإني أرجو أن يوليك اللَّه شرف هذا الفتح ويلم بك شعث هذه
الخلافة والدولة فلم يمتنع أسد وإنما طلب لجنده مطالب هي أن يؤمر لأصحابه برزق سنة
ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء وأبدل من فيهم من الزمني والضعفاء
وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور
فقال له: الفضل قد اشتططت ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركبا إليه فدخل عليه
الفضل أولاً ثم دخل أسد فما كان بينهما إلا كلمتان حتى غضب الأمين وأمر بحبس أسد ثم
قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم
من طاعتهم ونصيحتهم فقالوا: نعم فيهم أحمد بن مزيد وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نية في
الطاعة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب فاستدعاه محمد وقال
له إنه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وتنكره وطال خلافه عليّ حتى أوحشني ذلك منه وولد
في قلبي التهمة له وصيرني بسوء المذهب وحنث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس
بما لم أحب أن أكون أتناوله به وقد وصفت لي بخير ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع
قدرك وأعلي منزلتك وأقدمك على أهل بيتك وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة
وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم فانظر كيف تكون وصحح نيتك وأعن أمير
المؤمنين على اصطناعك وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. ثم أمر
الفضل أن يدفع إليه دفاتر أسد وأن يضم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة
والأعراب، فخرج أحمد فانتخب الرجال واعترض الدفاتر فبلغت عدة من معه عشرين ألف رجل
ووجه الأمين عبد اللَّه بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً أخرى وأمرهما أن ينزلا
حلوان ويدفعا طاهراً عنها وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على
الطاعة فتوجها حتى نزلا قريباً من حلوان بخانقين.
أما طاهر فإنه أقام بموقعه وخندق عليه وعلى أصحابه ودس
العيون والجواسيس إلى عسكر عدوه فكانوا يأتونهم بالأراجيف ولم يزل يحتال في وقوع
الخلاف بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضاً فأخلوا خانقين ورجعوا
عنها من غير أن يلقوا طاهراً فتقدم طاهر حتى نزل حلوان. ثم لم
يلبث إلا قليلاً حتى ورد عليه هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون ومعه كتاب من المأمون
والفضل بن سهل يأمره فيه بتسليم ما حوى من الكور والمدن إليه ويتوجه إلى الأهواز
فسلم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها
وتوجه طاهر إلى الأهواز ليكون الهجوم على بغداد من جهتين.
هذه حال الاضطراب في جند الأمين أما جند المأمون فكان على
العكس من ذلك كان هادئاً منتظماً لا تزيده الأيام إلاّ قوة. انقسم
إلى قوتين قوة مع هرثمة بن أعين تريد بغداد من جادة المشرق وقوة مع طاهر بن الحسين
تريد بغداد من جادة الأهواز والبصرة.
ذهب طاهر إلى فارس فاستولى عليها بعد أن أوقع بعاملها محمد
بن يزيد المهلبي وقعة شديدة بسوق الأهواز وقتل محمد بن يزيد وكان ترتيب جند طاهر في
مسيره وحربه حائزاً الغاية من النظام والاحتراس فضلاً عما حازه من الاسم الكبير
الذي يفت في الأعضاد.
أقام بفارس مدة أنفذ فيها العمال إلى الكور وولي على
اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز ومما يلي عمل البصرة ثم سار متوجهاً إلى
واسط فجعلت المسالح والعمال تتقوض مسلحة مسلحةوعاملاً كلما قرب منهم طاهر تركوا
أعمالهم وهربوا عنها حتى قرب من واسط فهرب عنها عاملها قائلاً إنه طاهر ولا عار في
الهرب منه دخل طاهر واسطاً ومنها وجه قائداً إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى
الهادي فبادر إلى خلع الأمين ومبايعة المأمون وأرسل بذلك إلى طاهر فتم له ما بين
واسط إلى الكوفة وأنفذ كتب التولية إلى العمال وكذلك بايع المأمون أمير البصرة وهو
المنصور بن المهدي وكان ذلك كله في رجب سنة196.
ثم سار طاهر إلى المدائن فاستولى عليها من غير قتال.
فيتلك الأثناء حصل في الحجاز ما زاد المأمون قوة والأمين
خذلاناً ذلك أن داود بن عيسى كان عاملاً للأمين على مكة والمدينة فلما بلغه ما فعل
الأمين من خلع المأمون وأخذه الكتابين اللذين كانا بجوف الكعبة وتمزيقهما جمع حجبة
الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود وكان داود
أحدهم فذكرهم بما كان الرشيد أخذ عليهم من العهود أن يكونوا مع المظلوم من ولديه
على الظالم وأخبرهم أن محمداً كان الذي قد بدأ بالظلم فخلع أخويه وبايع لابنهالصغير
لذلك رأيت خلعه وأن أبايع للمأمون فأجابه إلى ذلك أهل مكة وفي 27 رجب سنة196 نادى
داود في البيت الحرام بخلع الأمين وبيعة المأمون ثم كتب إلى ابنه سليمان وهو خليفة
على المدينة يأمره أن يفعل بها فعل أهل مكة ففعل. ولما
تم ذلك سار داود بنفسه إلى مرو وأعلم المأمون بما تم في الحجاز فسر المأمون جد
السرور وتيمن ببركة مكة والمدينة وكتب إلى أهل الحجاز كتباً يعدهم فيها الخير ويبسط
أملهم وأقر داود على ولاية الحجاز فعاد مغذاً ليدرك الحج ومر وهو عائد على طاهربن
الحسين فوجه معه يزيد بن جرير القسري والياً على اليمن وكان يزيد هذا داعية أهل
اليمن إلى بيعة المأمون فأجابوه.
اجتمعت جيوش طاهر وهرثمة حول بغداد وحوصرت من ثلاث جهات
فنزل هرثمة نهر بين وأعد المجانيق والعرادات وأنزل عبيد اللَّه بن الوضاح الشماسية
ونزل طاهر البستان بباب الأنبار ونزل المسيب بن زهير قصر ورقة كلواذي. وقد
نصب المسيب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال
الجند بحرب طاهر فيرمي بالعرادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال التجارة ويجبي السفر
وبلغ من الناس كل مبلغ.
أحسّ محمد بالضيق ومنعت عنه الأموال فأمر ببيع كل ما في
الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم وحملها لأصحابه في
نفقاته.
استمرت هذه الشدائد على بغداد وما فيها حتى استنفد الأمين
كل وسائل الدفاع أيقن بالعطب إن هو استمر على الممانعة فاستشار من بقي من قواده
فأشار عليه بعضهم أن يطلب لنفسه الأمان من هرثمة بن أعين ويسلم له فرضي وكتب إلى
هرثمة بذلك فأجابه إليه ولما علم طاهر أبى إلا أن يكون خروجه إليه إذا شاء ولما لم
يكن الأمين ميالاً إلى الخروج إلى طاهر اتفق القواد أن يخرج ببدنه إلى هرثمة وأن
يدفع إلى طاهر الخاتم والقضيب والبردة ثم علم طاهر أنهم يمكرون به فاستعد للأمر
وكمن حول القصر كمناء بالسلاح فلما خرج الأمين كانت حراقة هرثمة تنتظره فركبها ولم
تسر بهم إلا قليلاً حتى خرج أصحاب طاهر فرموا الحراقة بالسهام والحجارة فانكفأت
الحراقة وغرق هرثمة ومحمد الأمين فأما هرثمة فأدركه أصحابه وأما محمد فسبح في الماء
حتى أدركه أصحاب طاهر فأسروه فأمرهم طاهر بقتله فقتل ليلة الأحد لخمس بقين من
المحرم سنة198 وفي الصباح كتب طاهر إلى المأمون يخبره بما تم وبالأسباب التي جعلته
يأمر بقتل الأمين. ثم دخل طاهر المدينة فأمن أهلها وهدأ الناس وكان
دخوله إليها يوم الجمعة فصلى بالناس وخطبهم خطبة بليغة حضهم فيها على الطاعة ولزوم
الجماعة ورغبهم في التمسك بحبل الطاعة وانصرف إلى معسكره.