القرآن الكريم كتاب أنزله الله عز وجل لهداية البشرية جمعاء وهو خاتم الكتب
السماوية، وهو كتاب دعوة وهداية، لهذا ذكر الله عز وجل فيه أديان الناس السابقة
والمتزامنة مع نزوله، لأن ذلك وسيلة من وسائل دعوة أصحاب الأديان، فإن عرض ما هم
عليه من الباطل وبيان أوجه بطلانه مع عرض الحق والتركيز على مميزاته، وأوجه رجحانه،
كل ذلك مما ينير الأذهان التي غلفها التقليد، والجهل، والهوى، ويفتح أمامها آفاق
المعرفة السليمة من أجل المقارنة والموازنة ثم الإيمان عن اقتناع ويقين.
وإذا
نظرنا في القرآن الكريم نجد أنه حوى من ذلك الشيء الكثير، فمن ذلك أن الله عز وجل
قد حصر الأديان التي عليها الناس في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: 17].
فأديان البشر لا تخرج عن واحد من هذه،
وهي: الإسلام، واليهودية، والصابئة، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية.
كما ذكر
الله عز وجل الأنبياء عليهم السلام وأبان أن دعوتهم كانت واحدة، وهي الدعوة إلى
التوحيد، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي
إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وقال عز
وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وأن دينهم واحد وهو الإسلام، قال عز
وجل عن نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:
128].
وقال عن نبيه إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 131 - 132] وقال عز وجل: وَقَالَ
مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم
مُّسْلِمِينَ [يونس: 84]
وقال عز وجل: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل
عمران:52].
كما ذكر الله عز وجل مجادلة الأنبياء لأقوامهم، وإقامتهم للحجة عليهم
من أوجه عديدة.
وذكر الأديان التي يدين بها الناس، فذكر الديانة التي أنزلت على
موسى عليه السلام، وذلك في آيات عديدة أيضا، ومن المثال على ذلك: قوله عز وجل:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا
يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 11 - 16].
وذكر الله عز وجل انحراف بني إسرائيل وكفرهم وتحريفهم لكلام الله في آيات
عديدة، منها قوله عز وجل: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
وقال عز وجل: وَتَرَى
كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المائدة: 62].
وذكر الله عز وجل
النصارى وعقائدهم وانحرافاتهم في آيات عديدة، منها قوله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72]،
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73].
كما ذكر أقوالاً
أخرى عديدة لهم في المسيح وأمه وذكر ادعاءهم صلبه، وأبان عن الحق في كل
ذلك.
وإضافة إلى أقوال أصحاب الديانات ذكر الله عز وجل أيضاً أصول بعض تلك
المقالات المنحرفة، فمن ذلك قوله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30].
فبين سبحانه أن هذه المقالة اقتبسها
اليهود والنصارى من الكفار قبلهم، وهذا أمر ثابت واضح لكل من نظر في الأديان
السابقة على اليهودية والنصرانية، فإنه سيجد ادعاء الولد لله- تعالى الله عن ذلك -
منتشراً لدى الكفار من الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم.
كما ذكر الله عز وجل
المشركين الوثنيين فذكر عباداتهم وآلهتهم في مثل قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: 19 - 20].
وقال
عز وجل: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
[الصافات:125].
كما ذكر حججهم مجملة ومفصلة، فمن المجملة قوله عز وجل: أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا
كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا
إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى
أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن
تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
[إبراهيم:9 - 10].
ومن حجج المشركين المفصلة وجدالهم لأنبيائهم عليهم السلام قوله عز وجل:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي
أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا
قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ
النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللهِ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَما أناْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ قَالُواْ
يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ
أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى ما
أنهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيَا قَوْمِ
لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ
أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ
فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَما أنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيَا قَوْمِ
اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ.
[هود: 84 - 93].
كما عقد جل وعلا المقارنات العديدة بين الحق والباطل ليفسح
المجال أمام العقل للمقارنة والموازنة، من ذلك قوله عز وجل: يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
[يوسف: 39].
وقوله عز وجل: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ
وَإِن تَدْعُوهُمْ إلى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. [الأعراف: 191
- 196].
كما ذكر الله عز وجل الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق، وينكرون بالتالي
الأديان حيث ذكر إمامهم فرعون في مواطن كثيرة، منها قوله عز وجل: وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38]
بل بين سبحانه أن فرعون هو إمام الإلحاد، وذلك في قوله عز وجل: وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ
الْمَقْبُوحِينَ [القصص:41 - 42].
فبين سبحانه أن فرعون وأتباعه هم أئمة الدعاة
إلى النار، ولاشك أن أعظم الدعاة إلى النار هم الفلاسفة الملاحدة والمؤلهة منهم،
وهذا خلاف ما هو مشتهر لدى كثير من الناس من عزو الفلسفة والإلحاد إلى فلاسفة
اليونان، فإن الصحيح أن الفراعنة كانوا هم أئمة اليونان في هذا، فقد أخذ اليونان
فلسفتهم الوثنية عنهم، وكل من نظر في أساطير اليونان وفلسفتهم وكذلك أساطير الرومان
الذين ورثوا ذلك عن اليونان، ثم نظر في أساطير وفلسفة الفراعنة قبلهم علم أن هذه
الأقوال بعضها من بعض، وإن كان اليونان قد توسعوا في ذلك وانتشرت عنهم تلك الأقوال
فنسبت إليهم.
قال د. محمد دراز: (لم يبق الآن مجال للشك في أن القدامى من علماء
اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية، والحضارة المصرية بوجه أخص.
وليس معنى هذا أن الإغريق (اليونان) كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق
ومعارفه نقلاً حرفيًّا، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليل من صحيح النقل،
ولكن المعنى أنهم لم ينشئوا هذه العلوم إنشاءً على غير مثال سابق، كما ظنه بعضهم،
بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيراً. وإن قدماء اليونان أنفسهم
يذهبون إلى الاعتراف بهذه التلمذة إلى القول بأن عظماءهم أمثال (فيثاغورس) و
(أفلاطون) مدينون بأرقى نظرياتهم إلى المدرسة المصرية، والناقدون المحدثون وإن
استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات، لم يسعهم إلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة
في الدين والأخلاق، للنظريات المصرية).
كما أمر الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب
لإزالة شبههم وإقامة الحجة عليهم وذلك بالحسنى، كما قال عز وجل: وَلَا تُجَادِلُوا
أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ [العنكبوت: 46].
كما حكم الله عز وجل في هذا القرآن بين بني إسرائيل
فيما اختلفوا فيه من القضايا الدينية إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76].
فبرَّأ
الله عز وجل فيه سليمان عليه السلام مما اتهمه به اليهود من الكفر، وأثبت له النبوة
التي كانوا ينكرونها، كما برَّأ مريم رضي الله عنها مما اتهمها به اليهود، وأبان عن
حصانتها وعفتها وطهارتها، وبرأ ابنها مما نبزه به اليهود من الكفر والضلال، كما
برأه مما ادعاه فيه النصارى من الألوهية والبنوة، ورد على اليهود والنصارى دعوى
صلبه، وأخبر أنه أنجاه منهم ورفعه إليه.
فهذه المعلومات الغزيرة والمتنوعة عن
الأديان التي وردت في القرآن الكريم، تدل دلالة واضحة على عظيم أهمية هذا العلم في
مجال الدعوة إلى الله عز وجل، فتنبه لذلك علماء المسلمين فكتبوا، في الأديان قاصدين
بذلك الدعوة إلى الله من خلال ذلك فكان من أوائل من كتب في
ذلك:
علي بن ربن الطبري في كتابيه (الرد على النصارى) وكتاب (الدين والدولة في
إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم).
والجاحظ في كتابه: (الرد على النصارى)،
والأشعري في كتابه (الفصول في الرد على الملحدين)، والمسعودي في كتابه (المقالات في
أصول الديانات)، والبيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو
مرذولة)، وابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، والشهرستاني في
كتابه (الملل والنحل)، والقرافي في كتابه (الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة)،
وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وغيرها كثير
أرسى به المسلمون قواعد هذا العلم حيث أوردوا عقائد أصحاب الديانات وعباداتهم،
ونقلوا ذلك عن كتبهم ومصادرهم المعتبرة لديهم، وناقشوهم فيها وأبانوا عن بطلان
أقوالهم وأقاموا الحجة عليهم بالأدلة النقلية والعقلية، وسلكوا في ذلك منهجاً
دعويًّا متأسين بذلك بالقرآن الكريم.
وقد سبق المسلمون في هذا المضمار الغربيين
الذين لم يعتنوا بهذا العلم إلا في العصور المتأخرة بعد ما يسمى بعصر النهضة في
القرنين 15، 16م؛ لأن النصارى بعد عصر النهضة وابتداء عصر الاستعمار أخذوا يرسلون
البعوث من رجال دينهم إلى الشرق الأدنى والأقصى؛ للاطلاع على ديانات الناس والتعرف
عليها والكتابة فيها، وتلك البعوث لم تكن في الواقع إلا طلائع الاستعمار، ومن
الأشياء الجديدة التي استطاع الغربيون إضافتها إلى هذا العلم، البحث في الديانات
القديمة، وساعدهم على ذلك التنقيب عن الآثار، وتعلم اللغات القديمة، فأفادوا في هذا
الباب معرفة ديانات الأقوام القديمة التي اندثرت، فأكملوا بذلك ما كان بدأه
المسلمون، مع أن المسلمين يتميزون عن الغربيين أن بين أيديهم مرجعاً عظيماً قد حوى
في هذا الباب علماً جمًّا ذا دلالات مفيدة نافعة لهداية الإنسان ومصلحته الدينية،
ذلك هو الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهو مصدر علمي معصوم من
الخطأ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيعصم العقل البشري من البحث في
علوم لا تعود بفائدة على الإنسان في دينه أو دنياه، كالبحث في أديان أقوام غبرت
واندثرت من أهل الشرق والغرب، كما يعطيه المعلومات الصحيحة عن أمور لا يمكن للبشر
التوصل إليها والقطع فيها بالحق إلا بالعلم الإلهي، كما في بحثهم في نشأة التدين
وباعثه - كما سيأتي- فإن البحث في ذلك كثير منه هو من باب التخرص إذ لم يستند إلى
الوحي الإلهي.
Oدراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص
15