وادعاء بعض علماء النصارى أنهم اعتمدوا في ذلك على التوراة التي ترجمها السبعون شيخا لبطليموس، لا على كتب عزراء الوراق، واليهود مؤمنون بكلتا النسختين، والخلاف عند النصارى موجود فيها.
قال أبو محمد: في توراة اليهود- التي لا اختلاف فيها بين الربانية والعانانية والعيسوية منهم- لما عاش آدم ثلاثين سنة ومائة سنة ولد له ولد كشبهه وجنسه وسماه شيث، وعند النصارى- بلا اختلاف بين أحد منهم ولا من جميع فرقهم- لما أتى على آدم مائتان وثلاثون سنة ولد له شيث. وفي التوراة التي عند اليهود: لما عاش شيث خمس سنين ومائة سنة ولد أنيوش. وعند النصارى كلهم: لما عاش شيث مائتي سنة وخمس سنين ولد أنيوش. وفي التوراة التي عند اليهود: أن أنيوش لما عاش تسعين سنة ولد قينان. وعند النصارى كلهم: أن أنيوش لما عاش تسعين سنة ومائة سنة ولد قينان. وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا: أن قينان لما عاش سبعين سنة ولد مهلال. وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا: أن مهلال لما بلغ خمسا وستين سنة ولد يارد.
وعند النصارى كلهم: أن مهلال لما بلغ مائة سنة وخمسا وستين سنة ولد يارد، واتفقت الطائفتان في عمر يارد إذ ولد له خنوخ. وفي التوراة التي عند اليهود: أن خنوخ لما بلغ خمسا وستين سنة ولد متوشالخ، وأن جميع عمر خنوخ كان ثلاثمائة سنة وخمسا وستين سنة. وعند النصارى كلهم: أن خنوخ لما بلغ مائة سنة وخمسا وستين سنة ولد متوشالخ، وأن جميع عمر خنوخ كان خمسمائة سنة وخمسا وستين سنة. ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين:
أحدهما: سن خنوخ إذ ولد له متوشالخ.
والثانية: كمية عمر خنوخ، واتفقت الطائفتان على عمر متوشالخ إذ ولد له لامخ، وعلى عمر لامخ إذ ولد له نوح، وعلى عمر نوح إذ ولد له سام وحام ويافث، وعلى عمر سام إذ ولد له أرفخشاذ.
وفي التوراة التي عند اليهود: أن أرفخشاذ لما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له شالخ، وأن عمر أرفخشاذ كان أربعمائة سنة وخمسا وثلاثين سنة، وعند النصارى كلهم: أن أرفخشاذ لما بلغ مائة سنة وخمسا وثلاثين سنة ولد له قينان، وأن عمر أرفخشاذ كان أربعمائة سنة وخمسا وستين سنة، وأن قينان لما بلغ مائة سنة وثلاثين سنة ولد له شالخ، فبين الطائفتين في هذا الفصل وحده اختلاف في ثلاثة مواضع: أحدها: عمر أرفخشاذ جملة. والثاني: سن أرفخشاذ إذ ولد له ولده. والثالث: زيادة النصارى بين أرفخشاذ وشالخ قينان وإسقاط اليهود له. وفي التوراة عند اليهود: أن شالخ لما بلغ ثلاثين سنة ولد له عابر وأن عمر شالخ كان أربعمائة سنة وثلاثين سنة. وعند النصارى كلهم: أن شالخ لما بلغ مائة وثلاثين سنة ولد له عابر، وأن عمر شالخ كله كان أربعمائة سنة وستين سنة.
ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين:
أحدهما: سن شالخ إذ ولد له عابر.
والثاني: كمية عمر شالخ، وعند اليهود في التوراة: أن فالغ إذ بلغ ثلاثين سنة ولد له راغو، وعند النصارى كلهم: أن فالغ لما بلغ مائة سنة وثلاثين ولد له راغو، وفي توراة اليهود: أن راغو لما بلغ اثنتين وثلاثين سنة ولد له شاروع، وعند النصارى كلهم: أن راغو لما بلغ مائة سنة واثنتين وثلاثون ولد له شاروع.
وفي التوراة عند اليهود: أن شاروع إذ بلغ ثلاثين سنة ولد له ناحور، وكان عمر شاروع كله مائتي عام وثلاثين عاما، وعند النصارى كلهم: أن شاروع إذ بلغ ثلاثين سنة ومائة سنة ولد له ناحور وأن عمر شاروع كله كان ثلاثمائة وثلاثين سنة.
ففي هذا الفصل بين الطائفتين تكاذب في موضعين:
أحدهما: عمر شاروع جملة.
والثاني: سن شاروع إذ ولد له ناحور، وفي التوراة عند اليهود: أن ناحور لما بلغ تسعا وعشرين سنة ولد له نارخ، وأن عمر ناحور كله كان مائة سنة وثمانيا وأربعين سنة.
وعند النصارى كلهم: أن ناحور لما بلغ تسعا وسبعين سنة ولد له نارخ، وأن عمر ناحور كله كان مائتي عام وثمانية أعوام.
ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين:
أحدهما: عمر ناحور كله.
والثاني: سن ناحور إذ ولد له نارخ، وفي التوراة عند اليهود- كما ذكرنا-: أن نارخ كان عمره كله مائتي عام وخمسة أعوام، وعند النصارى كلهم: أن نارخ كان عمره كله مائتي عام وثمانية أعوام.
قال أبو محمد: فتولد من الاختلاف المذكور بين الطائفتين زيادة عن ألف عام وثلاثمائة عام وخمسين عاما عند النصارى في تاريخ الدنيا على ما هو عند اليهود في تاريخها، وهي تسعة عشر موضعا كما أوردنا، فوضح اختلاف التوراة عندهم، ومثل هذا من التكاذب لا يجوز أن يكون من عند الله عزَّ وجلَّ أصلا، ولا من قول نبي البتة، ولا من قول صادق عالم من عرض الناس، فبطل بهذا بلا شك أن تكون التوراة وتلك الكتب منقولة نقلا يوجب صحة العلم، لكن نقلا فاسدا مدخولا مضطربا، ولا بد للنصارى ضرورة من أحد خمسة أوجه لا مخرج لهم عن أحدها:
إما أن يصدقوا نقل اليهود للتوراة، وأنها صحيحة عن موسى عن الله عز وجل، ولكتبهم، وهذه طريقتهم في الحجاج والمناظرة، فإن فعلوا فقد أقروا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلوا عنهم دينهم بالكذب؛ إذ خالفوا قول الله تعالى وقول موسى عليه السلام.
أو يكذبوا موسى عليه السلام فيما نقل عن الله عزَّ وجلَّ، وهم لا يفعلون هذا.
أو يكذبوا نقل اليهود للتوراة ولكتبهم، فيبطل تعلقهم بما في تلك الكتب مما يقولون إنه إنذار بالمسيح عليه السلام؛ إذ لا يجوز لأحد أن يحتج بما لا يصح نقله.
أو يقولوا- كما قال بعضهم-: أنهم إنما عوَّلوا فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخا الذين ترجموا التوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام لبطليموس، فإن قالوا هذا فإنهم لا يخلون ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكونوا صادقين في ذلك، أو يكونوا كاذبين في ذلك، فإن كانوا كاذبين في ذلك فقد سقط أمرهم- والحمد لله رب العالمين- إذ لم يرجعوا إلا إلى المجاهرة بالكذب.
وإن كانوا صادقين في ذلك فقد حصلت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان: توراة السبعين شيخا، وتوراة عزرا، ومن الباطل الممتنع كونهما جميعا حقًّا من عند الله، واليهود والنصارى كلهم مصدق مؤمن بهاتين التوراتين معا، سوى توراة السامرية، ولا بد ضرورة من أن تكون أحدهما حقًّا، والأخرى مكذوبة، فأيهما كانت المكذوبة فقد حصلت الطائفتان على الإيمان بالباطل ضرورة، ولا خير في أمة تؤمن بيقين الباطل، وإن كانت توراة السبعين شيخا هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ سوء كذابين ملعونين؛ إذ حرَّفوا كلام الله تعالى وبدَّلوه، ومن هذه صفته فلا يحلُّ أخذ الدين عنه ولا قبول نقله، وإن كانت توراة عزرا هي المكذوبة فقد كان كذَّابا؛ إذ حرَّف كلام الله تعالى، ولا يحلُّ أخذ شيء من الدين عن كذاب، ولا بد من أحد الأمرين.
أو يكون كلاهما كذبا، وهذا هو الحق اليقين الذي لا شك فيه؛ لما قدمنا مما فيها من الكذب الفاضح الموجب للقطع بأنها مبدلة محرفة، وسقطت الطائفتان معا، وبطل دينهم الذي إنما مرجعه إلى تلك الكتب المكذوبة، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فتأملوا هذا الفصل وحده ففيه كفاية في تيقن بطلان دين الطائفتين، فكيف بسائر ما أوردنا إذا استضاف إليه، وفي التوراة عند اليهود وعند النصارى اختلاف آخر اكتفينا منه بهذا القدر، والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته علينا بالإسلام، المنقول نقل الكواف إلى رسول الله المعصوم صلى الله عليه وسلم، البريء من كل كذب ومن كل محال، الذي تشهد له العقول بالصحة، والحمد لله رب العالمين
O الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم – ص 2/ 21