سنن
الصلاة الخارجة عنها:
للصلاة
سنن قبلها كالاستياك والأذان والإقامة، واتخاذ السترة، وهنا نبحث الأخير، وقد سبق
بحث ما قبله:
1- تعريف
سترة المصلي:
هي
ما يجعله المصلي أمامه لمنع المرور بين يديه.
2- حكم
السترة:
هي
سنة مشروعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، ولْيَدْن
منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر، فليقاتله، فإنه شيطان" رواه
أبو داود وابن ماجه والنسائي.
وليست
واجبة باتفاق الفقهاء، لأن الأمر باتخاذها للندب، إذ لا يلزم من عدمها بطلان الصلاة
وليست شرطاً في الصلاة، ولعدم التزام السلف اتخاذها، ولو كان واجباً لالتزموه، ولأن
الإثم على المار أمام المصلي، ولو كانت واجبة لأثم المصلي، ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء" رواه البخاري.
3- حكمتها:
منع
المرور أمام المصلي بين يديه، مما يقطع خشوعه، وتمكين المصلي من حصر تفكيره في
الصلاة، وعدم استرساله في النظر إلى الأشياء، وكف بصره عما وراء سترته لئلا يفوت
خشوعه.
4- آراء
الفقهاء في السترة:
للفقهاء
رأيان في اتخاذها مطلقاً أو في حالة خشية مرور أحد: فقال المالكية والحنفية :
السترة في الفرض أو النفل مندوبة للإمام والمنفرد إن خشيا مرور أحد بين يديهما في
محل سجودهما فقط، وأما المأموم فسترة الإمام سترة له، لأنه عليه السلام صلى ببطحاء
مكة إلى عَنَزة(1)،
ولم يكن للقوم سترة. ولا بأس بترك السترة إذا أمن المصلي المرور، ولم يواجه الطريق.
فالمستحب لمن صلى بالصحراء أن ينصب بين يديه عوداً أو يضع شيئاً، ويعتبر الغرز دون
الإلقاء والخط، لأن المقصود وهو الحيلولة بينه وبين المار لا يحصل
به.
وقال
الشافعية والحنابلة:
يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، سواء أكان في مسجد أم بيت، فيصلي إلى حائط أو سارية
(عمود)، أم في فضاء، فيصلي إلى شيء شاخص بين يديه كعصا مغروزة أو حربة، أو عرض
البعير أو رحله عند الحنابلة، فإن لم يجد خطَّ خطاً قبالته، أو بسط مصلَّى كسجادة
كما ذكر الشافعية.
ودليلهم
حديث أبي جحيفة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت له العَنَزة، فتقدم وصلى الظهر
ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع" متفق عليه، وحديث طلحة بن عبيد الله
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤَخَّرة
الرحل، فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك" رواه مسلم.
وسترة
الإمام سترة لمن خلفه بالاتفاق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، ولم
يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى، كما ذكر في رأي المالكية
والحنفية.
وفي
حديث عن ابن عباس قال: "أقبلت راكباً على حمار أتان، والنبي صلى الله عليه وسلم
يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض أهل الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان
ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر علي أحد" متفق عليه.
وذكر
الحنابلة:
أنه لا بأس أن يصلى بمكة إلى غير سترة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما
ذكر أحمد - "أنه صلى ثَمَّ، ليس بينه وبين الطواف سترة" أي كأن مكة
مخصوصة.
5- صفة
السترة وقدرها:
للفقهاء
آراء متقاربة في ذلك فقال الحنفية: أدنى السترة طول ذراع (46.20سم) فصاعداً
وغلظ أصبع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل، فلا
يضرك من مر بين يديك" رواه مسلم، وقدرت العنزة التي كان يصلي إليها النبي صلى الله
عليه وسلم في الصحراء بذراع طولاً. ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط كما بينا. ويجوز
عندهم الاستتار بظهر
________________
(1) العنزة
: أطول من العصا، وأقصر من الرُّمح.
آدمي
جالس أو قائم، أو بدابة لا إلى مصحف أو سيف، وحيلة الراكب: أن ينزل فيجعل الدابة
بينه وبين المصلي، فتصير سترة، فيمر. ومن احتاج إلى المرور بين يدي المصلي، ألقى
شيئاً بين يدي المصلي، ثم يمر من ورائه.
وقال
المالكية
أيضاً: أقلها طول الذراع في غلظ الرمح، بشرط أن تكون بشيء ثابت، طاهر، وكره النجس،
لا يشوش القلب، فلا يستر بصبي لا يثبت، ولا بامرأة، ولا إلى حلقة المتكلمين، ولا
بسوط وحبل ومنديل ودابة غير مربوطة، ويجوز الاستتار بالإبل والبقر والغنم المربوطة،
لأنها عندهم طاهرة الفضلة، ولا يجوز الاستتار بخط في الأرض ولا حفرة. بدليل ما روي
عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد، يأمر
بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها الناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر" متفق
عليه، وعن أبي جحيفة قال: "وبين يديه عَنَزة" وهي عصا قصيرة فيها زُجّ(1).
متفق عليه.
ويكره
عندهم الاستتار بظهر امرأة أجنبية أو كافر، ويجوز من غير كراهة الاستتار برجل غير
كافر، أو بامرأة محرم على الراجح.
وقال
الشافعية:
يستحب أن يصلي إلى شاخص قدر ثلثي ذراع طولاً وإن لم يكن له عرض كسهم، لخبر:
"استتروا في صلاتكم ولو بسهم" رواه الحاكم، ولا يستتر بدابة.
وقال
الحنابلة كالحنفية والمالكية:
قدر السترة في طولها ذراع أو نحوه، وأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد عندهم، فيجوز
أن تكون دقيقة كالسهم والحربة، وغليظة كالحائط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يستتر بالعنزة.
واستدل
الشافعية والحنابلة
على إجزاء الخط بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى
أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينْصِب عصاً، فإن لم يكن معه عصا،
فليخط خطاً، ولا يضره ما مر بين يديه" رواه أبو داود وابن ماجه
وأحمد.
وصفة
الخط عند الشافعية: أنه مستقيم طولاً. وعند الحنابلة: أنه مثل الهلال
عرضاً كالقنطرة، وقال بعض الحنابلة: كيفما خطه أجزأه، إن شاء معترضاً وإن
شاء طولاً.
وإن
كان معه عصا، فلم يمكنه نصبها، ألقاها عند الجمهور عرضاً، لأن هذا في معنى الخط،
فيقوم مقامه. وقال المالكية: لابد من وضعها منصوبة.
وأجاز
الحنابلة
أن يستتر ببعير أو حيوان أو إنسان، وفعله ابن عمر وأنس، بدليل ما روى ابن عمر: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى بعير" رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعرض راحلته، ويصلي إليها" قال: قلت: فإذا ذهب الركاب؟
قال: يعرض الرحل، ويصلي إلى آخرته، فإن استتر بإنسان، فلا بأس، فإنه يقوم مقام غيره
من السترة.
____________________
(1) الزج
: الحديدة التي في أسفل الرمح.
وعن
نافع قال: "كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد، قال: ولّني
ظهرك". رواه البخاري.
وروي
عن حميد بن هلال قال : "رأى عمر بن الخطاب رجلاً يصلي، والناس يمرون بين يديه،
فولاه ظهره، وقال بثوبه هكذا، وبسط يديه هكذا، وقال: صل ولا
تعجل.
والخلاصة:
أنه يصح الاستتار بظهر آدمي أو امرأة عند الحنفية والمالكية، وقال الحنابلة:
يصح الاستتار بالآدمي مطلقاً، ويصح عند الجمهور الاستتار بسترة مغصوبة ولا
يصح بها وتكره الصلاة إليها عند الحنابلة، ويصح الاستتار عند الجمهور بالسترة
النجسة، ولا يصح ذلك عند المالكية، ويصح بالاتفاق الاستتار
بجدار.
6- استقبال
وجه الإنسان أو الصلاة إلى نار أو صورة أو امرأة تصلي:
اتفق
الفقهاء
على أنه يكره أن يصلي مستقبلاً وجه إنسان، لأن عمر رضي الله عنه أدب على ذلك، وفي
حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حذاء وسط السرير، وأنا مضطجعة
بينه وبين القبلة، تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم، فاستقبله، فأنسل انسلالاً" متفق
عليه، ولأنه شبه السجود لذلك الشخص. والكراهة فيه عند الحنفية
تحريمية.
ويكره
اتفاقاً أن يصلى إلى نار من تنور، وسراج وقنديل وشمع ومصباح ونحوها، لأن النار تعبد
من دون الله، فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها.
وتكره
الصلاة إلى صورة منصوبة في وجهك، لأن الصورة تعبد من دون الله، وقد روي عن عائشة
قالت: "كان لنا ثوب فيه تصاوير، فجعلته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي، فنهاني: أو قالت: كره ذلك" ولأن يكون في القبلة شيء معلق، مصحف أو غيره، ولا
بأس أن يكون موضوعاً على الأرض. وقال الحنفية: لا بأس بأن يصلي وبين يديه
مصحف معلق أو سيف معلق، لأنهما لا يعبدان. ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير،
لاستهانته بها.
ويكره
أن يصلي، وأمامه امرأة تصلي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أخروهن من حيث أخرهن
الله". أما في غير الصلاة، فلا يكره لخبر عائشة المتقدم. وروى أبو حفص بإسناده عن
أم سلمة قالت: "كان فراشي حيال مصلَّى النبي صلى الله عليه
وسلم".
7- المسافة
بين السترة والمصلي:
يستحب
عند الجمهور
أن يقرب المصلي من سترته قدر ثلاثة أذرع فأقل من ابتداء قدميه، لحديث بلال: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فصلى بينه وبين الجدار نحوٌ من ثلاثة أذرع"
رواه أحمد والنسائي، وروى الإسماعيلي عن سلمة: "كان المنبر على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز" وممر العنز: ثلاثة
أذرع.
وقال
المالكية:
يجعل بينه وبينها قدر ممر الهر أو الشاة، وقيل: ثلاثة أذرع. للحديث المتفق عليه عن
سهل بن سعد: "كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر
شاة".
8- موقف
المصلي من السترة:
السنة
باتفاق المذاهب الأربعة: أن يميل المصلي عن السترة يميناً أو يساراً، بحيث لا
يقابلها، ولا يصمُد لها صمداً (أي لا يجعلها تلقاء وجهه)، لما روى أبو داود عن
المقداد بن الأسود، قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى عود أو
إلى عمود، ولا شجرة، إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُد له صَمْداً"
أي لا يستقبله، فيجعله وسطاً.
9- المرور
بين يدي المصلي:
قال
الحنفية:
يكره تحريماً المرور بين يدي المصلي، ويأثم المار في موضع سجود المصلي، إذا اتخذ
سترة، دون أن يكون بينهما حائل كعمود أو جدار، وتحاذت بعض أعضاء المار أعضاء المصلي
كمحاذاة رأس المار قدمي المصلي، وذلك إذا كان يصلي في الصحراء. ولو مر رجلان،
فالإثم على من يلي المصلي.
فإن
مر إنسان فيما بعد موضع سجود المصلي، أو لم يكن المصلي متخذاً سترة، أو وجد حائل
ولو ستارة، أو لم تتحاذ كل أعضاء المار مع أعضاء المصلي بأن مشى جانبه، أو مر في
المسجد وراء السترة، لم يحرم المرور ولم يأثم المار، لأن المؤثم المرور بين يدي
المصلي، ولأن المسجد كبقعة واحدة، ويجوز المرور بين يدي المصلي لسدّ فرجة في
الصف.
كذلك
يكره للمصلي أن يتعرض بصلاته لمرور الناس بين يديه، بأن يصلي بدون سترة في طريق
مثلاً، فيأثم بمرور الناس بين يديه بالفعل، لا بترك السترة، فلو لم يمر أحد لا
يأثم، لأن اتخاذ السترة في ذاته ليس واجباً.
ومن
الذي يأثم؟ المصلي أم المار؟ هناك صور أربعة: الأولى: إثم المار وحده: أن يكون
للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلين ولم يتعرض المصلي لذلك، فيختص المار بالإثم
إن مر. الثانية: إثم المصلي وحده: وهي عكس الأولى: أن يكون المصلي تعرض للمرور وليس
للمار مندوحة عن المرور، فيختص المصلي بالإثم دون المار. الثالثة: أن يتعرض المصلي
للمرور ويكون للمار مندوحة، فيأثمان. الرابعة: ألا يتعرض المصلي ولا يكون للمار
مندوحة، فلا يأثم واحد منهما.
وقال
المالكية:
يأثم المار بين يدي المصلي فيما يستحقه من محل صلاته، سواء صلى لسترة أم لا، ما لم
يكن محرماً بصلاة، فيجوز له المرور لسد فرجة بصف أو لغسل رعاف، وما لم يكن طائفاً
بالبيت الحرام، فلا حرمة على الطائف والمصلي إذا مَرَّا بين يدي المصلي، ولو كان
لهما مندوحة، أي سعة وطريق يمران فيهما. وحرمة المرور هذه إذا كان للمار مندوحة أي
سعة وطريق آخر يمر فيه. فإن لم يكن له طريق إلا ما بين يدي المصلي، فلا إثم عليه إن
احتاج للمرور، وإلا أثم.
ويأثم
مصل تعرَّض بصلاته من غير سترة في محل يظن به المرور، ومرَّ بين يديه
أحد.
وقد
يأثمان معاً إن تعرض بغير سترة، وكان للمار مندوحة.
وقد
يأثم أحدهما، فيأثم المصلي إن تعرض، ولا مندوحة للمار، ويأثم المار إن كان له
مندوحة ولم يتعرض المصلي، أي إن قصر أحدهما دون الآخر أثم
وحده.
وقد
لا يأثم واحد منهما إن اضطر المار، ولم يتعرض المصلي.
وقال
الشافعية:
الصحيح تحريم المرور إن اتخذ المصلي سترة، وإن لم يجد المار سبيلاً آخر، لخبر أبي
جهم الأنصاري: "لو يعلم المار بين يدي المصلي (أي إلى السترة) ماذا عليه من الإثم،
لكان أن يقف أربعين خريفاً، خيراً له من أن يمر بين يديه" رواه البخاري
ومسلم.
ويكره
تعرض المصلي بصلاته في موضع يحتاج للمرور فيه.
وقال
الحنابلة:
يأثم المار بين يدي المصلي، ولو لم يكن له سترة، لحديث أبي جهم الأنصاري السابق.
ويكره تعرض المصلي لمكان فيه مرور، كما قال الشافعية.
المرور
أمام المصلي في أثناء الطواف:
اتفق
الفقهاء على أنه يجوز المرور بين يدي المصلي للطائف بالبيت أو داخل الكعبة أو خلف
مقام إبراهيم عليه السلام، وإن وجدت سترة، وأضاف الحنابلة أنه لا يحرم
المرور بين يدي المصلي في مكة كلها وحرمها.
10- موضع
حرمة المرور:
قال
الحنفية:
إن كان يصلي في الصحراء أو في مسجد كبير، فيحرم المرور بين يديه، من موضع قدمه إلى
موضع سجوده. وإن كان يصلي في بيت أو مسجد صغير (وهو ما كان أقل من أربعين ذراعاً)،
فإنه يحرم المرور من موضع قدميه إلى حائط القبلة، لأنه كبقعة واحدة، إن لم يكن له
سترة.
فلو
كانت له سترة لا يضر المرور وراءها.
ولا
يجعل المسجد الكبير أو الصحراء كمكان واحد، لأنه لو جعل كذلك، لزم الحرج على
المارة، فاقتصر على موضع السجود.
وقال
المالكية:
إن صلى لسترة حرم المرور بينه وبين سترته، ولا يحرم من ورائها، وإن صلى لغير سترة،
حرم المرور في موضع قيامه وركوعه وسجوده فقط.
وقال
الشافعية:
يحرم المرور فيما بين المصلي وسترته بقدر ثلاثة أذرع فأقل.
وقال
الحنابلة:
إن اتخذ المصلي سترة حرم المرور بينه وبينها ولو بعدت، وإن لم يتخذ سترة حرم المرور
في مسافة بقدر ثلاثة أذرع من قدمه.
11- دفع
المار بين يدي المصلي:
يرى
أكثر العلماء أن للمصلي منع المار بين يديه ودفعه، لما ثبت في السنة من الأحاديث
الصحيحة، منها ما رواه ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم
يصلي، فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه، فإن أبى فلْيقاتلْه، فإن معه القَرين" رواه
مسلم وابن ماجه.
ومنها
حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلَّى أحدكم
إلى شيء يستُره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله،
فإنما هو شيطان" رواه البخاري ومسلم أي من فعل الشيطان.
ولكن
اختلف الفقهاء في أفضلية دفع المار:
فقال
الحنفية:
هو رخصة، والأولى تركه، والعزيمة ترك التعرض له. أما الأمر بمقاتلة المار فكان في
بدء الإسلام حين كان العمل في الصلاة مباحاً، فهو منسوخ.
وإذا
أراد الرجل الدفع عملاً بالرخصة: دفع بالإشارة، أو التسبيح، أو الجهر بالقراءة، ولا
يزاد عليها، ويكره الجمع بينهما. وتدفع المرأة بالإشارة أو بالتصفيق لا بباطن
الكفين، وإنما ببطن اليمنى على ظهر اليسرى.
ودليل
الدفع بالإشارة: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بولدي أم سلمة رضي الله عنها
رواه ابن ماجه. ودليل الدفع بالتسبيح حديث: "من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا
سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء". وراه البخاري ومسلم.
وقال
المالكية:
يندب للمصلي أن يدفع المار بين يديه دفعاً خفيفاً فإن كثر أبطل صلاته، ولو دفعه
فأتلف له شيئاً، كما لو خرق ثوبه أو سقط منه مال، ضمن على المعتمد، ولو دفعه دفعاً
مأذوناً فيه.
وقال
الشافعية والحنابلة:
يسن للمصلي أن يدفع المار بينه وبين سترته، عملاً بالأحاديث الثابتة المتقدمة،
ويضمن المصلي المار إن قتله أو آذاه. هذا ولا يرد المار بين يدي المصلي في مكة
والحرم، بدليل ما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن المُطّلِب بن وَدَاعة:
"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين
يديه، وليس بينهما سُترة".
12- هل
المرور بين يدي المصلي يقطع الصلاة؟
اتفق
ائمة المذاهب الأربعة على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطعها ولا يبطلها، وإنما
ينقص الصلاة إذا لم يرده، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع صلاة المرء شيء،
وادرءوا ما استطعتم".
وقال
الإمام أحمد: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم(1)،
قال معاذ ومجاهد: الكلب الأسود شيطان، وهو يقطع الصلاة.
واقتصر
الحنابلة
على بطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود، لمعارضة هذين الحديثين بحديث الفضل بن عباس
عند أبي داود المتضمن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أمام حمار، وحديث عائشة السابق
المتضمن صلاة الرسول عليه وهي معترضة بينه وبين القبلة، وحديث ابن عباس السابق
المتفق عليه الذي مر راكباً على حمار، ثم نزل وترك الأتان ترتع بين الصفوف، فبقي
الكلب الأسود خالياً عن معارض فيجب القول به لثبوته، وخلوه عن
معارض.
صفة
الصلاة أو كيفيتها:
ما
تحرم الصلاة فيه (الصلاة في الموضع
المغصوب):
الصلاة
في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة، فلأن يحرم في
الصلاة أولى.
وهل
تصح الصلاة في المكان المغصوب؟
قال
الجمهور غير الحنابلة:
الصلاة صحيحة، لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها، كما لو صلى وهو يرى
غريقاً يمكنه إنقاذه، فلم ينقذه، أو حريقاً يقدر على إطفائه فلم يطفئه، أو مطل
غريمه الذي يمكن ايفاؤه وصلى. ويسقط بها الفرض مع الإثم، ويحصل بها الثواب، فيكون
مثاباً على فعله، عاصياً بمقامه، وإثمه إذن للمكث في مكان
مغصوب.
وقال
الحنابلة:
لا تصح الصلاة في الموضع المغصوب، ولو كان جزءاً مشاعاً، أو في ادعائه الملكية، أو
في المنفعة المغصوبة من أرض أو حيوان أو بادعاء إجارتها ظالماً، أو وضع يده عليها
بدون حق، لأنها عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه، فلم تصح، كصلاة الحائض وصومها،
وذلك لأن النهي يقتضي تحريم الفعل واجتنابه والتأثيم بفعله، فكيف يكون مطيعاً بما
هو عاص به، ممتثلاً بما هو محرم عليه، متقرباً بما يبعد به ؟! فإن حركاته وسكناته
من القيام والركوع والسجود أفعال اختياريه، هو عاص بها منهي عنها. ويختلف الأمر عن
إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق، لأن أفعال الصلاة في نفسها منهي
عنها.
وأضاف
الحنابلة:
أنه يصح الوضوء والأذان وإخراج الزكاة والصوم والعقود كالبيع والنكاح وغيرهما،
والفسوخ كالطلاق والخلع، في مكان مغصوب، لأن البقعة ليست شرطاً فيها، بخلاف
الصلاة.
وتصح
الصلاة في بقعة أبنيتها غصب، ولو استند إلى الأبنية لإباحة البقعة المعتبرة في
الصلاة.
وتصح
صلاة من طولب برد وديعة أو رد غصب، قبل دفعها إلى صاحبها، ولو بلا عذر، لأن التحريم
لا يختص بالصلاة.
ولو
صلى على أرض غيره ولو كانت مزروعة بلا ضرر ولا غصب، أو صلى على مصلاه بلا غصب ولا
ضرر، جاز وصحت صلاته.
وإن
صلى في غصب من بقعة أو غيرها جاهلاً أو ناسياً كونه غصباً، صحت صلاته، لأنه غير
آثم.
وإذا
حبس في مكان غصب، صحت صلاته، لحديث: "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه".
الأرض
المسخوط عليها: وتصح
الصلاة في الأرض المسخوط عليها، كأرض الخسف، وكل بقعة نزل فيها عذاب، كأرض بابل،
وأرض الحِجْر(1)،
ومسجد الضرار(2)،
وتكره الصلاة في هذه المواضع، لأن هذا المسجد موضع مسخوط عليه، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم يوم مر بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين،
أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
الأذكار
الواردة عقب الصلاة:
يسن
ذكر الله والدعاء المأثور والاستغفار عقب الصلاة، إما بعد الفريضة مباشرة إذا لم
يكن لها سنة بعدية كصلاة الفجر وصلاة العصر، وإما بعد الانتهاء من السنة البعدية
كصلاة الظهر والمغرب والعشاء، لأن الاستغفار يعوض نقص الصلاة، والدعاء سبيل الحظوة
بالثواب والأجر بعد التقرب إلى الله بالصلاة.
ويأتي
بالأذكار سراً على الترتيب التالي إلا الإمام المريد تعليم الحاضرين فيجهر إلى أن
يتعلموا، ويقبل الإمام على الحاضرين، جاعلاً يساره إلى المحراب، قال سمرة: "كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه" رواه
البخاري.
___________________
(1) ديار
ثمود بين المدينة والشام، وهم قوم صالح عليه السلام.
(2) هو
مسجد بناه المنافقون، مجاور لمسجد قباء في المدينة، ليكون مركزاً للمؤمرات، وفيه
نزلت الآيات : {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً
لمن حارب الله ورسوله من قبل ...} (الآية 17 من سورة
التوبة).
1- يقول:
"أستغفر الله" ثلاثاً، أو "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم
وأتوب إليه" ثلاثاً. ثم يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، وإليك السلام، تباركت
وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام" لما روى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان
إذا سلم - وفي لفظ إذا انصرف من صلاته - استغفر ثلاثاً، ويقول: "اللهم أنت السلام
ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" رواه مسلم.
ثم
يقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" لحديث معاذ ابن جبل، قال: "لقيني
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة - أو في دبر
كل صلاة - اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه أبو داود
والنسائي.
2- يقرأ
آية الكرسي، وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، والمعوذتين
{قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
والفاتحة، لما روى الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من قرأ آية الكرسي في دُبُر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة
الأخرى" رواه الطبراني، ولخبر أبي أمامه: "من قرأ آية الكرسي، وقل هو الله أحد،
دُبُر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" رواه
النسائي.
ولما
روي عن عقبة بن عامر، قال: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر
كل صلاة" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد.
3- يسبح
الله يقول (سبحان الله)، ويحمده يقول (الحمد لله)، ويكبره يقول (الله أكبر) ثلاثاً
وثلاثين، ثم يختم تمام المائة بقوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك
وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي
لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" لحديث أبي هريرة، قال: "من سبَّح الله دُبُر
كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين،
فتلك تسع وتسعون - عدد أسماء الله الحسنى - وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله
وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفرت خطاياه، ولو
كانت مثلَ زَبَد البحر" رواه مسلم.
وعن
المغيرة بن شُعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا
مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ" متفق عليه، وروى
مسلم عن ابن الزبير نحوه، وزاد بعد "قدير": "ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا
الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله
مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
4- يقول
- قبل القراءة والتحميد وغيرهما من المذكور في الرقمين السابقين - بعد صلاتي الصبح
والمغرب، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم، عشر مرات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير" لخبر أحمد عن عبد الرحمن بن
غُنم مرفوعاً. رواه الترمذي والنسائي.
ويقول
أيضاً وهو على الصفة المذكورة سبع مرات: "اللهم أجرني من النار" لحديث مسلم بن
الحرث التميمي عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرَّ إليه، فقال: إذا انصرفت
من صلاة المغرب، فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات" وفي رواية: "قبل أن تكلم
أحداً، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك، كتب لك جواراً منها، وإذا صليت الصبح، فقل
مثل ذلك، فإنك إن مت من يومك، كتب لك جواراً منها، قال الحرث: أسر بها النبي صلى
الله عليه وسلم، ونحن نخص بها إخواننا" رواه أبو داود وأحمد وابن
حبان.
5- ثم
يدعو المصلي لنفسه وللمسلمين بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وخصوصاً بعد الفجر
والعصر، لحضور ملائكة الليل والنهار فيهما، فيؤمِّنون على الدعاء، فيكون أقرب
للإجابة. وأفضل الدعاء هو المأثور في السنة، مثل ما روى سعد بن أبي وقاص: أنه كان
يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يُعلِّم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ بهن دُبُر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من
البخل، وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة
الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه البخاري.
ما
يستحب للمصلي بعد انتهاء الصلاة المفروضة:
استحب
الفقهاء بعد انتهاء الفريضة ما يأتي.
1- يستحب
الانتظار قليلاً أو اللبث للإمام مع المصلين، إذا كان هناك نساء، حتى ينصرف النساء
ولا يختلطن بالرجال، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا سلَّم، قام النساء، حتى يقضي تسليمَه، وهو يمكث في مكانه يسيراً، قبل
أن يقوم، قالت: فنُرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء، قبل أن يُدركَهن
الرجال. رواه البخاري.
2- وينصرف
المصلي في جهة حاجته إن كانت له يميناً أو شمالاً، فإن لم تكن له حاجة، انصرف جهة
يمينه، لأنها أفضل، لقول ابن مسعود: "لا يجعل أحدكم للشيطان حظاً من صلاته، يرى
حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً
ما ينصرف عن شماله" رواه مسلم، وعن قبيصة بن هُلْب عن أبيه: "أنه صلى مع النبي صلى
الله عليه وسلم، فكان ينصرف عن شقيه" رواه أبو داود وابن
ماجه.
3- يندب
أن يفصل المصلي بين الفرض والسنة بكلام أو انتقال من مكانه، والفصل بالانتقال أفضل،
للنهي عن وصل ذلك إلا بعد المذكور، والانتقال أفضل تكثيراً للبقاع التي تشهد له يوم
القيامة. ويفصل بين الصبح وسنته بالاضطجاع على جنبه الأيمن أو الأيسر، اتباعاً
للسنة.
وقال
أحمد: لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، كما قال علي رضي الله عنه.
وقال أحمد أيضاً: من صلى وراء الإمام، فلا بأس أن يتطوع مكانه، كما فعل ابن عمر.
روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتطوع الإمام في مقامه
الذي يصلي فيه بالناس" وذكر الشافعية أن النفل الذي لا تسن فيه الجماعة
صلاته في البيت أفضل منه بالمسجد، للخبر الصحيح: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا
المكتوبة" لتعود بركة صلاته على منزله.
- القنوت
في الصلاة:
يندب
القنوت في الصلاة، لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد الصلاة التي يقنت فيها على آراء،
فقال الحنفية والحنابلة: يقنت في الوتر، قبل الركوع عند الحنفية،
وبعد الركوع عند الحنابلة، ولا يقنت غيره من الصلوات.
وقال
المالكية والشافعية:
يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع، والأفضل عند المالكية قبل الركوع، ويكره
عند المالكية القنوت في غير الصبح.
ويستحب
عند الحنفية والشافعية والحنابلة: القنوت في الصلوات المفروضة إذا نزلت
بالمسلمين نازلة، وحصرها الحنابلة في صلاة الصبح، والحنفية في صلاة
جهرية.
وتفصيل
الكلام عن كل مذهب ما يأتي:
أولاً-
قنوت الوتر أو الصبح :
قال
الحنفية: يقنت
المصلي في صلاة الوتر، فيكبر بعد الانتهاء من القراءة، ويرفع يديه كرفعه عند
الافتتاح، ثم يضعهما تحت سرته، ثم يقنت، ثم يركع، ولا يقنت في صلاة غير الوتر إلا
لنازلة في الصلاة الجهرية، وأما قنوت النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر شهراً فهو
منسوخ بالإجماع، لما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قنت في صلاة الفجر شهراً ثم
تركه. رواه الطبراني والبزار.
وحكمه
عندهم: أنه واجب عند أبي حنيفة.
ومحل
أدائه: الوتر في جميع السنة قبل الركوع من الركعة الثالثة، بدليل ما روي عن جماعة
من الصحابة رضي الله عنهم وهم (عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب) أن قنوت
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الوتر قبل الركوع.
ومقداره
كمقدار: إذا السماء انشقت، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في
القنوت: اللهم إنا نستعينك، أو اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، وكلاهما على مقدار هذه
السورة.
وصيغة
الدعاء المفضلة عندهم وعند المالكية: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك
ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك،
ونخلع(1)
ونترك من يفجُرُك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد(2)،
نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدَّ(3)
بالكفار مُلحِقَ"(4)
وهو الدعاء المشهور لابن عمر، ولا مانع من صحة نسبته لكل من عمر
وابنه.
وذلك
بدليل ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران، قال : "بينما رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر، إذ جاءه جبريل، فأومأ إليه أن اسكت، فسكت، فقال:
يا محمد، إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعَّاناً، وإنما بعثك رحمة للعالمين، ليس لك
من الأمر شيء، ثم علّمه القنوت: اللهم إنا نستعينك ... إلخ" ولأن الصحابة رضي الله
عنهم اتفقوا على هذا القنوت، فالأولى أن يقرأه. ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه
غيره، كان حسناً. والأولى أن يقرأه بعدما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن
بن علي رضي الله عنهما في قنوته: اللهم اهدنا فيمن هديت .. إلى آخره، رواه الترمذي
وأبو داود. ثم بعده يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، فيقول: "وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
ومن
لا يحسنه بالعربية أو لا يحفظه،إما أن يقول: يا رب أو اللهم اغفر لي ثلاثاً أو
"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" والآية الأخيرة أفضل.
ويجعل قنوته سراً.
وحكمه
حال نسيانه: إذا نسي المصلي القنوت حتى ركع، ثم تذكر بعدما رفع رأسه من الركوع، لا
يعود إليه، ويسقط عنه القنوت. كما يسقط عنه إذا تذكره في الركوع، ثم يسجد للسهو في
آخر صلاته قبل السلام، لفوات القنوت عن محله، فإن عاد إليه وقنت، ولم يعد الركوع،
لم تفسد صلاته، لكون ركوعه بعد قراءة تامة.
ويأتي
المأموم بقنوت الوتر، ولو اقتدى بشافعي يقنت بعد الركوع، لأنه مجتهد
فيه.
وإذا
أدرك المقتدي الإمام في ركوع الثالثة من الوتر، كان مدركاً للقنوت حكماً، فلا يأتي
به في آخر صلاته.
وقالوا
أخيراً: إذا قنت الإمام في صلاة الفجر سكت من خلفه عند أبي حنيفة
ومحمد
__________________
(1) نلقي.
(2) نبادر
ونسارع.
(3) الحق.
(4) لاحق
بهم.
رحمهما
الله، وهو الأظهر، لأنه منسوخ ولا متابعة فيه، وقال أبو يوسف: يتابعه، لأنه تبع
لإمامه، والقنوت مجتهد فيه.
مذهب
المالكية:
يندب
عند المالكية قنوت سراً في الصبح فقط، لا في الوتر وغيره فيكره، وذلك قبل
الركوع، وهو أفضل، ويجوز بعد الركوع. ولفظه المختار: اللهم إنا نستعينك ... إلخ
كالحنفية، ولا يضم إليه: "اللهم اهدنا فيمن هديت .." إلخ على
المشهور.
ويقنت
الإمام والمأموم والمنفرد سراً، ولا بأس برفع اليدين فيه.
مذهب
الشافعية:
يسن
عندهم القنوت في اعتدال ثانية الصبح، وصيغته المختارة هي: "اللهم اهدني فيمن هديت،
وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك
تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت،
فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك"(1)،
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ويقنت
الإمام بلفظ الجمع، فيقول: اللهم اهدنا .. إلخ، لأن البيهقي رواه بلفظ الجمع، فحمل
على الإمام.
ودليلهم
على اختيار هذه الصيغة: ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة
الثانية، رفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت .. إلخ ما تقدم. وزاد
البيهقي فيه عبارة: "فلك الحمد على ما قضيت .. "إلخ.
وقال
أنس بن مالك: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر، حتى فارق
الدنيا" رواه أحمد وكان عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة
وغيرهم.
والصحيح
سن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر القنوت للأخبار الصحيحة في ذلك.
كما يسن الصلاة على الآل، وسن رفع اليدين فيه كسائر الأدعية، اتباعاً
للسنة.
ويسن
في الدعاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء.
وقد أفتى بعض الشافعية بأنه لا يسن ذلك عند قوله في القنوت : "وقني شر ما قضيت" لأن
الحركة في الصلاة ليست مطلوبة.
_____________________
(1) معناه
إجمالاً : اللهم دلني على الطريق التي توصل إليك، مع من دللته إلى الطريق التي توصل
إليك، وعافني من البلايا مع من عافيته منها، وتول أموري وحفظي مع من توليت أموره
وحفطه، وأنزل يا الله البركة : وهي الخير الإلهي فيما أعطيته لي، واحفظني مما يترتب
على ما قضيته من السخط والجزع، وإلا فالقضاء المحتم لا بد من نفوذه. وأنت تحكم ولا
يحكم عليك، لا معقب لحكمه، ولا يحصل لمن واليته ذل، ولا يحصل لمن عاديته عز، تزايد
برك وإحسانك وارتفعت عما لا يليق بك. ويقول "ربنا" بصيغة الجمع ولو كان منفرداً
اتباعاً للوارد. لك الحمد من حيث نسبته إليك، لأنه لا يصدر عنك إلا الجميل، وإنما
يكون شراً بنسبته لنا، أستغفرك من الذنوب وأتوب إليك.
والصحيح
أنه لا يمسح بيديه وجهه، لعدم وروده، كما قال البيهقي. والإمام يجهر بالقنوت،
اتباعاً للسنة، ويؤمن المأموم للدعاء إلى قوله: "وقني شر ما قضيت"، ويجهر به كما في
تأمين القراءة، ويقول الثناء سراً بدءاً من قوله: "فإنك تقضي .." إلخ، لأنه ثناء
وذكر فكانت الموافقة فيه أليق، أو يقول: أشهد، والأول أولى، وقال بعضهم: الثاني
أولى. فإن لم يسمع الإمام قنت ندباً معه سراً كسائر الدعوات والأذكار التي لا
يسمعها.
وهل
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الدعاء، فيؤمن
فيها، أو من قبيل الثناء فيشارك فيها ؟ المعتمد هو الأول، لكن الأولى الجمع بينهما.
ولا يرد على اقتصاره على التأمين قوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف امرئ ذكرت
عنده، فلم يصل علي" رواه الترمذي والحاكم لأنه في غير المصلي، على أن التأمين في
معنى الصلاة عليه.
ويصح
الدعاء بغير هذه الصيغة، بكل ذكر مشتمل على دعاء وثناء، مثل: "اللهم اغفر لي يا
غفور" فقوله: "اغفر لي" دعاء، وقوله: "يا غفور" ثناء، ومثل "وارحمني يا رحيم" أو
"والطف بي يا لطيف" والأولى أن يقول: "اللهم اهدني .."
السابق.
ويكره
إطالة القنوت كالتشهد الأول، لكن يستحب له الجمع بين قنوت النبي صلى الله عليه وسلم
"اللهم اهدني .. إلخ" وقنوت عمر أو ابنه: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك" السابق.
والجمع لمنفرد وإمام جماعة التطويل، وإن اقتصر فليقتصر على
الأول.
ويزاد
عليهما: "اللهم عذب الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، الذين يصدون عن سبيلك،
ويكذبون رسولك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين
والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل
في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم (أي ألهمهم) أن يوفوا
بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا
منهم".
والقنوت
كما سنبين من أبعاض الصلاة، فإن تركه كله أو بعضه، أو ترك شيئاً من قنوت عمر إذا
جمعه مع قنوت النبي عليه السلام، أو ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده،
سجد للسهو. كما يسجد للسهو إن ترك القنوت تبعاً لإمامه الحنفي، أو تركه إمامه
المذكور وأتى به هو.
مذهب
الحنابلة:
يسن
القنوت عندهم كالحنفية، في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السنة، بعد
الركوع، كما قال الشافعي في وتر النصف الأخير من رمضان، فإن قنت قبل الركوع
فلا بأس، لما روى ابن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع" رواه
مسلم وروى حميد، قال: سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح؟ فقال: "كنا نقنت قبل الركوع
وبعده" رواه ابن ماجه.
ويقول
في قنوته جهراً إن كان إماماً أو منفرداً: "اللهم إنا نستعينك .. إلخ" "اللهم اهدنا
فيمن هديت" والثاني أولى كما ذكر ابن قدامة، لما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما،
قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن
هديت .. إلخ رواه أبو داود والترمذي. وعن عمر رضي الله عنه: أنه قنت في صلاة الفجر،
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك .. إلخ ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم، وعلى آله. ولا بأس أن يدعو في قنوته بما شاء غير ما
تقدم.
وإذا
أخذ الإمام في القنوت أمَّن من خلفه، ويرفع يديه، ويمسح وجهه بيديه، لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: "إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح
بها وجهك" رواه أبو داود وابن ماجه، وروى السائب بن يزيد عن أبيه : "أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا دعا، رفع يديه، ومسح بهما وجهه" رواه أبو داود. ويؤمن
المأموم بلا قنوت إن سمع، وإن لم يسمع دعا.
ولا
يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر، كما قال الحنفية، لما روي:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً، يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه"
رواه مسلم.
ثانياً-
القنوت أثناء النوازل:
قال
الحنفية والشافعية والحنابلة: يشرع القنوت للنازلة لا مطلقاً، في الجهرية فقط عند
الحنفية، وفي سائر الصلوات المكتوبات عند غيرهم إلا الجمعة عند الحنابلة اكتفاءً
بالدعاء في خطبتها، ويجهر في دعائه في هذا القنوت. والنازلة: أن ينزل بالمسلمين خوف
أو قحط أو وباء أو جراد، أو نحوها، اتباعاً للسنة، لأنه "صلى الله عليه وسلم قنت
شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة" وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع
..".
وكون
القنوت عند النازلة لم يشرع مطلقاً بصفة الدوام، عند الشافعية، فلأنه صلى الله عليه
وسلم لم يقنت إلا عند النازلة.
ويدعو
بنحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه
كان يقول في القنوت: "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف
بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب
الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل
بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا
نستعينك".
ولا
يسن السجود لترك قنوت النوازل، لأنه - كما قال الشافعية - ليس من أبعاض
الصلاة.
- صلاة
الوتر:
التعريف:
الوتر
(بفتح الواو وكسرها) لغة: العدد الفردي، كالواحد والثلاثة والخمسة، ومنه قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "إن الله وتر يحب الوتر" رواه مسلم. ومن كلام العرب: كان القوم
شفعاً فوترتهم وأوترتهم، أي جعلت شفعهم وتراً. وفي الحديث: "من استجمر فليوتر" رواه
البخاري، معناه: فليستنج بثلاثة أحجار أو خمسة أو سبعة، ولا يستنج
بالشفع.
والوتر
في الاصطلاح: صلاة الوتر، وهي صلاة تفعل ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، تختم بها
صلاة الليل، سميت بذلك لأنها تصلى وتراً، ركعة واحدة، أو ثلاثاً، أو أكثر، ولا يجوز
جعلها شفعاً، ويقال: صليت الوتر، وأوترت، بمعنى واحد. وصلاة الوتر اختلف فيها، ففي
قول: هي جزء من صلاة قيام الليل والتهجد، قال النووي: هذا هو الصحيح المنصوص عليه
في الأم، وفي المختصر. وفي وجه أي لبعض الشافعية: أنه لا يسمى تهجداً، بل
الوتر غير التهجد.
حكم
الوتر:
[right: