أصوله
الاجتهادية:
أولاً: إذا
وجد في القرآن نصاً بعبارة صريحة قاطعة واضحة على مبدأ أو حكم ثم وجد حديثاً مروياً
عن طريق الآحاد يعارض هذا الخبر فإنَّ مالك يأخذ بصريح القرآن و يدع
الآحاد.
قال مالك
وهو يفسر قوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلا أن
يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير أو أُهِلَّ لغير الله به ... " إلى آخر
الآية، هذا نص صريح و واضح بعدم تحريم غير ما ذُكِر. و في المقابل رُوِيَ في خبر
الآحاد الصحيح: عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يرويه أبو داود أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور. فرجَّح مالك
النص على الآحاد فيجوز عنده أكل كل ذي ناب من السباع و ذي مخلب من الطيور و إن كان
جمهور الفقهاء على الحرمة.
ملاحظة:
الإمام مالك كغيره من العلماء يأخذ بالحديث الآحاد إن كان صحيحاً وهو عنده حجة و
لكن إذا تعارض مع نص من كتاب الله تعالى أو مع حديث متواتر ولم يُمكن الجمع بينهما،
قدَّم النص من كتاب الله عز وجل أو الحديث المتواتر ولم يجعل حديث الآحاد يخصص النص
القرآني أو الحديث المتواتر كما فعل غيره من الفقهاء كالشافعي مثلاً.
ثانياً:
مالك يعيش في المدينة وبصمات رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة في هذه البلاد
فعادات أهل المدينة وما يتفق عليه علماء أهل المدينة في عصره والعصر الذي قبله كلها
من مخلفات النبوة لأن العهد ما بَعُدَ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،
بناءً على ذلك إذا وجد حديث آحاد مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند
ووجد عمل أهل المدينة على خلاف ذلك الحديث يرجِّح مالك عمل أهل المدينة على ذلك
الحديث، لا لأنه يرفض الحديث و لكن لأنه يعتقد أن ما أجمع عليه علماء المدينة ما
أخذوه من عند أنفسهم وإنما هي وراثة ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول
الإمام مالك في رسالة للَّيث بن سعد: " إنَّ أهل المدينة هم من الذين قال الله
تعالى عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، وأوضح الله تعالى أنَّ
هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار الذين استقر بهم المقام في المدينة المنورة
ينبغي أن يُتَّبعوا وأن نهتدي بهديهم ".
مثال ذلك،
الحديث الصحيح الأتي: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ". الشافعي عنده التفرق
هو تفرق الأبدان وعند الحنفية هو تفرق موضوع الكلام ولكن مالك يقول عمل أهل المدينة
على خلاف هذا، فعلماء المدينة السبعة وعامة الناس يقولون إن العقد إذا تمَّ
بالإيجاب والقَبول كان العقد لازماً.
مثال آخر،
الحديث المشهور: " البيِّنة على المُدَّعي و اليمين على من أنكر". قال مالك نأخذ
بهذا الحديث و لكن يخَصِّصه ويُفَسَّره عمل أهل المدينة وهو أنَّ هذا الحديث
يُطَبَّق بشرط أن ينظر القاضي فيجد أنَّ بين المدَّعي والمُدَّعى عليه علاقة ما
إمّا جوار أو قرابة أو شركة ... فإن لم يجد القاضي مثل هذه الصلة فله أن لا يسمع
الدعوى وذلك لكي لا يتلاعب السفهاء بالوجهاء فيأخذوا منهم أموالهم خشية تشويه
سمعتهم، مثال ذلك أن يدَّعي سفيه على أحد الوجهاء دعوى باطلة ، فلو أخذ بها القاضي
لاضطر ذلك الوجيه إلى الذهاب إلى القاضي وعندها قد يدفع الوجيه شيئاً من المال
للسفيه الذي ادعى عليه تلك الدعوى الباطلة وذلك لكي لا تُشوَّه سمعته بالامتثال بين
يدي القاضي .
ثالثاً:
إذا ثبت قانون شرعي وقاعدة شرعية عامة مثل: " ولا تزر وازرة وِزر أخرى "، يقول
الإمام مالك: إذا وجدنا بين هذه القاعدة الضخمة الكبيرة وبين جزئيات الأدلة
تناقضًا، نأخذ بالقاعدة ونترك هذه الجزئيات.
مثال ذلك:
الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: " إنَّ الميِّت لَيُعَذَّب ببكاء أهله عليه
". قال مالك هذا يتناقض مع القاعدة التي مرَّت معنا سابقاَ (و لا تزر وازرة وزر
أخرى)، و بناءً على ذلك فلا ذنب للميت إن بكى أهله عليه فلم يأخذ بالحديث. ولكن
الشافعي مثلاَ وهو تلميذ مالك أخذ بالحديث و قال إنَّ عذاب الميت في قبره هنا هو
عذاب نفسي وليس عقاباَ من الله عز وجل وإنما هو عقاب خاص يأتي نتيجة لتصرفات أهله،
فهو يتألم من فعل أولاده و يتمنى لهم الصلاح لأن الله تعالى يُطلعه على أفعالهم
التي قد لا تخلو من معاصي وأمور مختلفة تكون سبباً لغضب الله تعالى
عليهم.
مثال آخر:
الإمام مالك وحده يفتي بعدم نجاسة لعاب الكلب و كذا رشحه ولكن الحديث الصحيح يقول:
" إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعاً إحداهن بالتراب ". قال مالك من
المتفق عليه أنه يجوز استعمال الكلب في الصيد و الكلب إذا اصطاد لا بد أن يمسك
الطريدة بفمه ويصيبه من لعابه لذلك أخذ بالقاعدة العامة التي تفيد جواز صيد الكلب،
ثم قال عن هذا الحديث انه مضطرب وهذا دليل ضعف فقد ورد الحديث بعدة روايات
(أولهن-أخراهن- إحداهن بالتراب) .
رابعاً:
الأخذ بالاستحسان وهو عبارة عن جزئية صغيرة اقتضتها مصلحة دينية ثابتة في كتاب الله
وإن عارضت هذه الجزئية مبدأ كلياً و يؤخَذ به استثناءً.
مثال ذلك
قاعدة أن الأخ الميت إذا مات و ترك أخاً شقيقاً أي لأب وأم هذا يُسمَّى عصبة و يأخذ
كل ما تبقى من المال مثلا إذا كان الميت ليس له إلا أخ يأخذ كل الأموال وإذا مات و
ليس له إلا أخ أو أخ شقيق، الأم تأخذ السدس والأخ أو الأخوة الأشقاء يأخذون الباقي.
إن مات رجلٌ وترك زوجاً وأمّاً وإخوة لأم و أخاً شقيقاً، الزوج يأخذ النصف والأم
تأخذ السدس والأخوة لأم يأخذون من الثلث لم يبقى للأخ الشقيق شيء إن طبَّقنا هذه
القاعدة.
هنا الإمام
مالك وغيره عادوا فوجدوا أنَّ الأمر قد رُفِعَ إلى سيدنا عمر رضي الله عنه فحَكَمَ
أنه ليس للأخوة الأشقاء شيء فقال الأخوة الأشقاء هب أننا إخوةلأم فقط ألا
يكون لنا؟ قال: نعم، ثم جعل الإخوة للأم والأخ الشقيق يشتركون معاً في الباقي.
القاعدة على خلاف ذلك و لكن هذه الجزئية هي لمصلحة الشريعة لأن الشريعة تقتضي هذا
الاستثناء.