كيفية معرفة أسباب النزول:
لما
كان سبب النزول أمراً واقعاً نزلت بشأنه الآية، كان من البَدَهي ألا يدخل العلم
بهذه الأسباب في دائرة الرأي والاجتهاد، لهذا قال الإمام
الواحدي: ولا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا
التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها.
ومن
هنا نفهم تشدد السلف في البحث عن أسباب النزول، حتى قال الإمام محمد بن
سيرين: سألت عَبيدَةَ عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سداداً،
ذهَب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن.
وقد
اتفق علماء الحديث على اعتبار قول الصحابي في سبب النزول لأن أسباب النزول غير
خاضعة للاجتهاد فيكون قول الصحابي حكمه الرفع، أما ما يرويه التابعون من أسباب
النزول، فهو مرفوع أيضاً، لكنه مرسل، لعدم ذكر الصحابي.
لكن
ينبغي الحذر والتيقظ، فلا نخلط بأسباب النزول ما ليس منها، فقد يقع على لسانهم
قولهم: نزلت هذا الآية في كذا ويكون المراد موضوع الآية، أو ما دلت عليه من الحكم.
هـ-
صيغة السبب:
1-تكون
نصحاً صريحاً في السببية إذا صرح الراوي بالسبب بأن يقول: سبب نزول هذه الآية كذا،
أو يأتي الراوي بفاء التعقيب بعد ذكر الحادثة، بأن يقول: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن كذا، فنزلت الآية.
2-تكون
محتملة للسببية إذا قال الراوي: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية
نزلت إلا في كذا، مثال ذلك ما حدث للزبير والأنصاري ونزاعهما في سقي الماء، وتشاكيا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفذ فيهما حكم الله، فكأن الأنصاري لم يعجبه هذه
الحكم، فنزل قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [ النساء: 65 ]. فقال الزبير ما أحسب هذه الآية إلا
في ذلك.
و-
اختلاف روايات أسباب النزول.
لما
كان سبيل الوصول إلى أسباب النزول هو الرواية والنقل، كان لا بد أن يعرض لها ما
يعرض للرواية من صحة وضعف، واتصال وانقطاع، غير أنا هنا على ظاهره هامة
يحتاج الدارس إليها وهي اختلاف روايات أسباب النزول وتعددها، وذلك لأسباب يمكن
تلخيص مهماتها فيما يلي:
1-ضعف
الرواة:
وضعف
الراوي يسبب له الغلط في الرواية، فإذا خالفت روايته المقبولين، كانت روايته
مردودة.
ومن
أمثلة ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [ البقرة: 115]. فقد ثبت أنها في صلاة
التطوع للراكب المسافر على الدابة.
أخرج
مسلم عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى
المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وأخرج الترمذي وضعّفه: أنها في صلاة من خفيت عليه
القبلة فاجتهد فأخطأ القبلة، فإن صلاته صحيحة. فالمعوّل عليه هنا في سبب النزول
الأول لصحته.
2- تعدد
الأسباب والمُنَزَّل واحد:
وذلك
بأن تقع عدة وقائع في أزمنة متقاربة، فتنزل الآية لأجلها كلها، وذلك واقع في مواضيع
متعددة من القرآن، والعمدة في ذلك على صحة الروايات، فإذا صحت الروايات بعدة أسباب
ولم يكن ثمة ما يدل على تباعدها كان ذلك دليلاً على أن الكل سبب لنزول الآية
والآيات.
مثال
ذلك: آيات اللعان: فقد أخرج البخاري: أنها نزلت في هلال بن أمية لما
قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ ..} [النور: 6].
وفي
الصحيحين
: أنها نزلت في عويمر العجلاني وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل
يجد مع امرأته رجلاً…فقال
صلى الله عليه وسلم: "إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك القرآن".
وظاهر
الحديثين الاختلاف، وكلاهما صحيح.
فأجاب
الإمام النووي: بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيىء عويمر أيضاً، فنزلت
في شأنهما معاً.
3-أن
يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب:
قال
الإمام الزركشي: وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث
سببه خوف نسيانه … ولذلك
أمثلة، منها:
ما
ثبت في الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {ويسألونك عن
الروح} أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة، ومعلوم أن هذه
الآية في سورة " سبحان " - أي الإسراء وهي مكية بالاتفاق ، فإن المشركين لما سألوه
عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك بمكة، وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك،
فأنزل الله الجواب، كما سبق بيانه.
ولا
يقال: كيف يتعدد النزول بالآية الواحدة، وهو تحصيل حاصل؟
فالجواب:
أن لذلك فائدة جليلة ، والحكمة من هذا - كما قال الزركشي - أنه قد يحدث سبب من سؤال
أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدي تلك الآية بعينها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً لهم بها ، وبأنها تتضمن هذه .
ز-
تعدد النزول مع وحدة السبب
1-قد
يتعدد ما ينزل والسبب واحد ومن ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول
الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [ آل عمران:195 ].
2-عن
أم سلمة قالت: يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال،
فأنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35].
3-عن
أم سلمة أنها قالت: تغزوا الرجال ولا تغزوا النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل
الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ} [ النساء: 32 ] .
حـ-
تقدم نزول الآية على الحكم
1- المثال
الأول:
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] استدل بها على زكاة
الفطر، والآية مكية، وزكاة الفطر في رمضان، ولم يكن في مكة عيد ولا زكاة.
2-المثال
الثاني:
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا
الْبَلَدِ} [البلد: 1-2] السورة مكية، وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة، حتى قال
صلى الله عليه وسلم: " أحلت لي ساعة من نهار ".
3- المثال
الثالث:
قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [ القمر: 45]
قال عمر ابن الخطاب: كنت لا أدري أي الجمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ}.
ط-
تعدد ما نزل في شخص واحد.
1- موافقات
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج
البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو
اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى} [ البقرة: 125].
وقلت
يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت
آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت
لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فنزلت كذلك.
2- نزلت
آيات في سعد بن أبي وقاص: قال:
كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
الآية
الثانية: يقول سعد: أخذت سيفاً فأعجبني، فقلت: يا رسول الله هب لي هذا،
فنزلت سورة الأنفال.
ي-
أمثلة عن أسباب النزول.
1- قوله
تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ} [البقرة: 142] نزلت في تحويل
القبلة.
لما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر
شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله
تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فقال
السفهاء من الناس-وهم اليهود- {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا} قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142].
2- قوله
تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء : 11].
عن
جابر قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني
سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش عليَّ منه فأفقت فقلت:
كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: {يوصيكم الله في
أولادكم}.
3- قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
عن
ابن عباس قال: كان قوم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول
الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي ؟ فأنزل الله تعالى فيهم هذه
الآية.
4-قوله
تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
عن
عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني
عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن آتيها وأنا هذا فاقض فيّ ما
شئت، قال: فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد عليه النبي صلى
الله عليه وسلم شيئاً، فانطلق الرجل فأتبعه رجلاً ودعاه، فتلا عليه هذه الآية، فقال
الرجل: يا رسول الله هذا له خاصة؟ قال: " لا،
بل للناس كافة ".
5- قوله
تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [ الإسراء:
110].
عن
عباس قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا
القرآن سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه
وسلم: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتكم فيسمع المشركون فيسبوا القرآن
{وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا يسمعون {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا}.
6- قوله
تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [ النور: 33 ].
عن
جابر قال: كان لعبد الله بن أبي جاريه يقال لها: مسيكة، فكان يكرهها
على البغاء، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ}.
7- قوله
تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [ العنكبوت: 8 ]
عن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال: نزلت هذه الآية فيّ، قال: حلفت أم سعد
لا تكمله أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، ومكثت ثلاثة أيام حتى غشي عليها
الجهد، فأنزل الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حُسْنًا}.
8- قوله
تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:
53].
عن
أبن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم
أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا
أن لما عملناه كفارة، فنزلت هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ
أَسْرَفُوا...}.