عاقبة
الجاحدين بآيات الله تعالى
{وَنَادَى
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ
أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ}
يخبر تعالى عن المحاورة بين أهل النار وأهل الجنة بعد أن استقر بكلٍ من الفريقين
القرار واطمأنت به الدار، وعن استغاثتهم بهم عند نزول عظيم البلاء من شدة العطش
والجوع والمعنى ينادونهم يوم القيامة أغيثونا بشيء من الماء لنسكن به حرارة النار
والعطش أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة فقد قتلنا العطش {قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} أي منع الكافرين شراب الجنة
وطعامها، قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت فأفض عليَّ
من الماء! فيقال لهم أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، ثم وصف تعالى
الكافرين بقوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} أي
هزءوا من دين الله وجعلوا الدين سخرية ولعباً {وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا} أي خدعتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها القاتلة وهذا شأنها مع أهلها
تغرُّ وتضر، وتخدع ثم تصرع {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا} أي ففي هذا اليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء
يومهم هذا فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به. قال الألوسي: الكلام خارجٌ مخرج
التمثيل أي نتركهم في النار وننساهم مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا
ينبغي ألا يُنسى. وقال ابن كثير: أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا
يشذّ عن علمه شيءٌ ولا ينساه {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي
وكما كانوا منكرين لآيات الله في الدنيا، يكذبون بها ويستهزؤون، ننساهم في العذاب
ويتركون.
حجية
القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة
{ولقَدْ
جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ}
أي ولقد جئنا أهل مكة بكتاب هو القرآن العظيم {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}
أي بيّنا معانيه ووضحنا أحكامه على علم منا حتى جاء قيّماً غير ذي عوج {هُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي هداية ورحمة وسعادة لمن آمن به {هَلْ
يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر أهل مكة إلا عاقبة ما وُعدوا به من
العذاب والنكال. قال قتادة: تأويله عاقبتُه {يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ} هو يوم القيامة {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ}
أي يقول الذين ضيّعوا وتركوا العمل بهفي الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ} أي جاءتنا الرسل بالأخبار الصادقة وتحقق لنا صدقهم فلم نؤمن بهم
ولم نتبعهم، قال الطبري: أقسم المساكين حين حلّ بهم العقاب أن رسل الله قد
بلّغتهم الرسالة ونصحتْ لهم وصدّقَتْهم حين لا ينفعهم ولا ينجيهم من سخط الله كثرةُ
القيل والقال {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} أي هل لنا
اليوم شفيع يخلصنا من هذا العذاب؟ استفهام فيه معنى التمني {أَوْ نُرَدُّ
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي هل لنا من عودة إلى الدنيا
لنعمل صالحاً غير ما كنا نعمله من المعاصي وقبيح الأعمال؟ قال تعالى ردّاً عليهم
{قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي
خسروا أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل
عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة والأصنام.
دلائل
القدرة والوحدانية
ثم
ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية فقال {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إن معبودكم وخالقكم
الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة
أيام من أيام الدنيا، قال القرطبي: لو أراد خلقها في لحظة ولكنه أراد أن
يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي
استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب
السلف وكما قال الإِمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكَيْفُ مرفوع،
والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رحمه الله: أخبارُ الصفات
تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على
العرش بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما
فيهما ونَكِلُ المعنى في الصفات إلى علم الله عز وجل. {يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه
سريعاً حتى يدركه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ} أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف التام في الكائنات {تَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب
العالمين.
الحث
على الدعاءِ والبعدِ عن الإفساد
{ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
أي ادعوا الله تذللاً وسراً بخشوع وخضوع {إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} أي لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي الحديث
(إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِهَا} أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة
المرسلين {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} أي رحمته تعالى قريبة
من المطيعين الذين يمتثلون أوامره ويتركون زواجره.
أمثال
ومقارنات تدل على قدرة الله الباهرة
{وَهُوَ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}
أي يرسل الرياح مبشرة بالمطر، قال في البحر: ومعنى بين يدي رحمته أي أمام
نعمته وهو المطر الذي هو من أجلٌ النعم وأحسنها أثراً على الإِنسان {حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً مثقلاً
بالماء {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي سقنا السحاب إلى أرض ميتة مجدبة لا
نبات فيها {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ} أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء فأخرجنا بذلك الماء من كل
أنواع الثمرات {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي
مثل هذا الإِخراج نُخرج الموتى من قبورهم لعلكم تعتبرون وتؤمنون. قال ابن
كثير: وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض
بعد موتها ولهذا قال لعلكم تذكرون {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي الأرضُ الكريمةُ التربة يَخْرج النبات فيها وافياً حسناً
غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، وهذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها
{وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} أي والأرض إذا كانت خبيثة
التربة كالحرّة أو السبخة لا يخرج النبات فيها إلا بعسر ومشقة وقليلاً لا خير فيه،
وهذا مثلٌ للكافر الذي لا ينتفع بالموعظة، قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله
للمؤمن والكافر، فالمؤمن طيّب وعمله طيب كالأرض الطيبة ثمرها طيب، والكافر خبيثٌ
وعملهُ خبيث كالأرض السبخة المالحة لا ينتفع بها {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أي كما ضربنا هذا المثل كذلك نبيّن وجوه الحجج ونكررها
آية بعد آية، وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله على نعمه، وإنما خصّ الشاكرين بالذكر
لأنهم المنتفعون بسماع القرآن. قال الألوسي: أي مِثلَ هذا التصريف البديع
نردِّد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها لقومٍ يشكرون نعم الله تعالى،
وشكرُها بالتفكر والاعتبار بها.
دعوة
نوح لقومه وعاقبة تكذيبهم إيَّاه
{لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}
اللام جواب قسمٍ محذوف أي والله لقد أرسلنا نوحاً، ونوحٌ شيخ الأنبياء لأنه أطولهم
عمراً وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس، ولم يلق نبيٌّ من الأذى مثل نوح
{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي
وحّدوا الله ولا تشركوا به فما لكم إلهٌ مستحقٌ للعبادة غيره {إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِن أشركتم به ولم تؤمنوا فأنا أخاف
عليكم عذاب يومٍ عظيم هو يوم القيامة {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قال الأشراف والسادة من قومه إنا لنراك يا
نوح في ذهابٍ عن طريق الحق والصواب واضح جلي، قال أبو حيان: ولم يجبه من
قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين ينكرون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب
الرياسة، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ
بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أنا بضال
ولكنْ أنا مرسل إليكم من عند ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا
لا تَعْلَمُونَ} أي أنا أبلغكم ما أرسلني الله به إليكم وأقصد صلاحكم وخيركم
وأعلم من الأمور الغيبية أشياء لا علم لكم بها. قال ابن كثير: وهذا شأن
الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه
الصفات {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ} أي لا تعجبوا من هذا فإِن هذا ليس بعجيب أن يوحي الله إلى رجل منكم
رحمة بكم ولطفاً وإِحساناً إليكم {لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} أي ليخوفكم هذا الرسول من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا ربكم
وتنالكم الرحمة بتقواه {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ} أي كذبوا نوحاً مع طول مدة إقامته فيهم فأنجاه الله والمؤمنين معه
في السفينة {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي أهلكنا
المكذبين منهم بالغرق {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أي عميت قلوبهم
عن الحق فهم لا يبصرونه ولا يهتدون له. قال ابن عباس: عميتْ قلوبهم عن معرفة
التوحيد والنبوة والمعاد.
معاناة
هود في دعوة قومه ونتيجة التمرد والعتو
والطغيان
{وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}
أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن {قَالَ يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي قال لهم رسولهم
وحّدوا الله فليس لكم إله غيره {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه؟
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال السادة والقادة
منهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ} أي نراك في خفة حلم وسخافة عقل وإننا لنظنك من الكاذبين في
ادعائك الرسالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ليس بي كما تزعمون نقص في العقل ولكني مرسل إليكم
بالهداية من رب العالمين {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ
نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ
على ما أقول لا أكذب فيه. قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام
ممَّنْ نسبَهم إلى السفاهة والضلالة - بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم
وترك المقابلة - أدبٌ حسنٌ وخُلُق عظيم، وتعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء ويسبلون
أذيالهم على ما يكون منهم {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً
من أنفسكم لينذركم لقاء الله ويخوفكم عذابه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي اذكروا نعمة الله حين استخلفكم في
الأرض بعد إهلاك قوم نوح {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} أي زاد في
أجسامكم قوةً وضخامة {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
أي اذكروا نعم الله عليكم كي تفلحوا وتفوزوا بالسعادة {قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أي
أجئتنا يا هود تتوعدنا بالعذاب كي نعبد الله وحده ونهجر عبادة الآلهة والأصنام
ونتبرأ منها؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي
فأتنا بما تعدنا من العذاب فلن نؤمن لك إن كنت من الصادقين في قولك {قَالَ قَدْ
وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي قد حلّ بكم عذاب وغضب من
الله {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءابَاؤُكُمْ
مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنَ سُلْطَانٍ} أي أتخاصمونني في أصنام لا تضر ولا
تنفع ما أنزل الله بعبادتها من حجة أو برهان {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ
الْمُنتَظِرِينَ} أي فانتظروا نزول العذاب إني من المنتظرين لما يحل بكم وهذا
غاية الوعيد والتهديد {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا} أي أنجينا هوداً والذين معه من المؤمنين رحمة منا لهم {وَقَطَعْنَا
دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن
آخرهم {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي كذبوا ولم يؤمنوا فاستحقوا العذاب.
قال أبو السعود: أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبداً فأهلكهم
الله بالريح العقيم.
قصة
صالح عليه السلام مع قومه
{وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ}
أي وحّدوا الله ولا تشركوا به {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}
أي معجزة ظاهرة جلية تدل على صحة نبوتي {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ
ءايَةً} هذا بيانٌ للمعجزة أي هذه الناقة معجزتي إليكم وإضافتها إلى الله
للتشريف والتعظيم لأنها خلقت بغير واسطة. قال القرطبي: أخرج لهم الناقة حين
سألوه من حجر صلد {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي اتركوها تأكل
من رزق ربها {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي
لا تتعرضوا لها بشيءٍ من السوء أصلاً إكراماً لها لأنها آية الله، والعذاب الأليم
هو ما حلَّ بهم حين عقروها {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ
عَادٍ} أي خلفاء في الأرض، قال الشهاب: لم يقل خلفاء عاد إشارة إلى أن
بينهما زماناً طويلاً { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِهَا قُصُورًا} أي أسكنكم في أرض الحِجْر تبنون في سهولها قصوراً رفيعة
{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي تنحتون الجبال لسكناكم، قال
القرطبي: اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن الأبنية كانت تبلى قبل فناء
أعمارهم {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ
مُفْسِدِينَ} أي اذكروا نعم الله عليكم واشكروه على ما تفضل به ولا تعيثوا في
الأرض فساداً {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} أي قال الأشراف المستكبرون من قوم صالح
للمؤمنين المستضعفين من أتباع صالح عليه السلام {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا
مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} أي أن الله أرسله إلينا وإِليكم، وهذا قالوه على سبيل
السخرية والاستهزاء {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي
أجابوهم بالأسلوب الحكيم بالإِيمان برسالته. قال أبو حيان: وعدولهم عن قولهم
هو مرسل إلى قولهم {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} في غاية الحسن
إذْ أمر رسالته معلوم واضح مسلَّم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق
العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
بِالَّذِي ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قال المستكبرون نحن كافرون بما
صدَّقتم به من نبوة صالح وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم
إياهم ورداً لمقالتهم {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ} أي نحروا الناقة واستكبروا عن امتثال أمر الله {وَقَالُوا
يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي جئنا
يا صالح بما تعدنا من العذاب الذي تخوفنا به إن كنت يا صالح حقاً رسولاً، قالوا ذلك
استهزاء به وتعجيزاً {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ} أخذتهم الزلزلة الشديدة فصاروا في منازلهم هامدين موتى لا حِراك
بهم. قال في البحر: أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوتُ كل شيء
له صوتٌ في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أي أدبر عنهم صالح
بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم وقال على سبيل التفجع والتحسر عليهم: لقد بلّغتكم
الرسالة وحذرتكم عذاب الله وبذلت وسعي في نصيحتكم ولكن شأنكم الاستمرار على بغض
الناصحين وعداوتهم {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} قال
الزمخشري حكاية حال ماضية قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت -وكان قد نصحه حياً فلم
يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة-: يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل
مني؟
فاحشة
مبتكرة عند قوم لوط
{وَلُوطًا
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعَالَمِينَ}
أي واذكر وقت أن قال لوط لقومه أهل سدوم على سبيل الإِنكار والتوبيخ: أتفعلون تلك
الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح التي ما عملها أحد قبلكم في زمنٍ من الأزمان!
والفاحشة هي إتيان الذكور في الأدبار، أنكر عليهم أولاً فعلها ثم وبخهم بأنهم أول
من فعلها. قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في
العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام {الْفَاحِشَةَ} بخلاف الزنى فإنه
قال فيه {إنه كان فاحشة} فأتى به منكراً، والجملة المنفية {مَا
سَبَقَكُمْ} تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها،
والمبالغة في {مِنْ أَحَدٍ} حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان
بعموم {الْعَالَمِينَ} جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ذكر
قبل قوم لوط {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّسَاءِ} هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ
وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث
المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم
بالحال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ} أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء.
قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله {شَهْوَةً} وصفٌ لهم بالبهيمية
الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد
وبقاء النسل لاقضاء الشهوة {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا
أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي ما كان
جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً
وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في
الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه
وعابوهم بما يمدح به الإِنسان {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ
كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله
المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين في ديارهم الهالكين. قال
الطبري: أي أنجينا لوطاً وأهله المؤمنين به إلا امرأته فإنها كانت للوطٍ خائنة
وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب {وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل
كما في الآية الأخرى { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}
وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف
كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟!
شعيب
عليه السلام يدعو قومه إلى توحيد الله وترك كل أنواع
الإيذاء
{وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ}
أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته. قال ابن
كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب "معان" من طريق
الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقي {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}
أي أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به {وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم
إياها {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تعملوا
بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ} أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله وإيفاء الناس حقوقهم وترك
الفساد في الأرض خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ
صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي لا
تجلسوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل. قال ابن عباس: كانوا يقعدون على
الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب
فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تريدون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة بمعنى
تصويرهم أن دين الله غير مستقيم كما يقول الضالون في هذا الزمان: "هذا الدين لا
ينطبق مع العقل" لأنه لا يتمشى مع أهوائهم الفاجرة {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ
قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أي كنتم قلة مستضعفين فأصبحتم كثرة أعزة فاشكروا الله
على نعمته {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} هذا تهديد
لهم أي انظروا ما حلّ بالأمم السابقة حين عصوا الرسل كيف انتقم الله منهم واعتبروا
بهم {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ
وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي إذا كان فريق صدقوني فيما جئتهم به وفريق لم يصدقوني
فاصبروا حتى يفصل الله بحكمه العادل بيننا وهو خير الفاصلين. قال أبو حيان:
هذا الكلام من أحسن ما تلطّف به في المحاورة إذا برز المتحقق في صورة المشكوك وهو
من بارع التقسيم فيكون وعداً للمؤمنين بالنصر ووعيداً للكافرين بالعقوبة
والخسارة.
{قَالَ
الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}
أي قال أشراف قومه المستكبرين عن الإِيمان بالله ورسله { لَنُخْرِجَنَّكَ
يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا} أقسموا على أحد الأمرين: إما إخراج شعيب وأتباعه وإما العودة إلى
ملتهم أي إلى الكفر والمعنى لنخرجنك يا شعيب ومن آمن بك من بين أظهرنا أو لترجعن
أنت وهم إلى ديننا قال شعيب مجيباً لهم {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي
أتجبروننا على الخروج من الوطن أو العودة في ملتكم ولو كنّا كارهين لذلك؟
والاستفهام للإِنكار{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}أي إِن عدنا إِلى
دينكم بعد أن أنقذنا الله منه بالإِيمان وبصّرنا بالهدى نكون مختلقين على الله أعظم
أنواع الكذب، وهذا تيئيسٌ للكفار من العودة إلى دينهم {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}أي لا ينبغي ولا
يصح لنا أن نعود إلى ملتكم ودينكم إلا إذا شاء الله لنا الانتكاس والخذلان فيمضي
فينا قضاؤه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كل الأشياء
{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي اعتمادنا على الله وهو الكافي لمن توكل
عليه {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا
ظلم وأنت خير الحاكمين {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي قال الأشراف
من قومه الفجرة الكفرة: إذا اتبعتم شعيباً وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه إنكم إذاً
لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى قال تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأخذتهم الزلزلة العظيمة فأصبحوا
ميّتين جاثمين على الركب {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا
فِيهَا}أي أهلك الله المكذبين كأنهم لم يقيموا في ديارهم منعَّمين
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} إخبارٌ عنهم
بالخسار بعد الهلاك والدمار {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله تأسفاً لشدة حزنه
عليهم لأنهم لم يتبعوا نصحه {فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي
كيف أحزن على من لا يستحق أن يُحزن عليه، قال الطبري: أي كيف أحزن على قوم
جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم؟
سنة
الله في التضييق على الأمم قبل إهلاكها
{وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ}
في الكلام حذفٌ أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها {إِلاَّ أَخَذْنَا
أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}أي عاقبناهم بالبؤس والفقر،
والمرض وسوء الحال {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي كي يتضرعوا ويخضعوا
ويتوبوا من ذنوبهم {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي
ثم أبدلناهم بالفقر والمرض، الغنى والصحة {حَتَّى عَفَوا}أي حتى
كثروا ونموا {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءابَاءَنَا الضَّرَّاءُ
وَالسَّرَّاءُ}أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها: هذه عادة
الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق
على ديننا، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا، ثم بالحسنة
ليشكروا فما فعلوا، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا قال تعالى
{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أخذناهم بالهلاك
والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون.
الترغيب
بالإيمان والترهيب من الكفر
{وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا}أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكواآمنوا بالله ورسله واتقوا
الكفر والمعاصي {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ}أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل: بركاتُ السماء
المطرُ، وبركات الأرض الثمارُ، قال السدي: فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض
بالرزق {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي
ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} الهمزة للإِنكار أي
هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه؟
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ
يَلْعَبُونَ}؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاراً جهاراً وهم
يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أي أفأمنوا استدراجه
إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا
عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم. قال الحسن البصري: المؤمن يعمل
بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن {أَوَلَمْ
يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}أي أولم
يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم،
والمراد بها كفار مكة ومن حولهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ}أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم.
قال في البحر: أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم
فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ} أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً ولا ينتفعون
بسماعهما.
العبرة
من قصص الماضين
{تِلْكَ
الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا}أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف
والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع {وَلَقَدْ
جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}أي جاءتهم بالمعجزات والحجج
القاطعات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به لرسل لتكذيبهم إياهم قبل