بَيْن
يَدَيْ الُّسورَة
سورة
يونس من السور المكية التي تُعْنى بأصول العقيدة الإسلامية " الإيمان بالله تعالى،
والإيمان. بالكتب، والرسل، والبعث والجزاء" وهي تتميز بطابع التوجيه إلى الإيمان
بالرسالات السماوية، وبوجه أخص إلى "القرآن العظيم" خاتمة الكتب المنزلة، والمعجزة
الخالدة على مدى العصور والدهور.
*تحدثت
السورة الكريمة في بدايتها عن الرسالة والرسول، وبينَّت أن هذه سنة الله في
الأولين
والآخرين،
فما من أمةٍ إلا بعث الله إلها رسولاً، فلا داعي للمشركين للعجب من بعثه خاتم
المرسلين {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ}؟ ثم تلتها الآيات عن بيان حقيقة
"
"الألوهية"
و "العبودية" وأساس الصلة بين الخالق والمخلوق، وعرَّفت الناسَ بربهم الحقَّ الذي
ينبغي أن يعبدوه، وأن يُسلموا وجوههم إليه، فهو وحده الخالق الرازق، المحيي المميت،
المدبر الحكيم، وكل ما سواه فباطل وهباء {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
..}.
*وتناولت
السورة الكريمة موقف المشركين من الرسالة والقرآن، وذكرت أن هذا القرءان
هو المعجزة الخالدة، الدالة على صدق النبي الأمي، وأنه يحمل برهانه في تفرده
بالمعجزة، حيث تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع أنهم أساطين الفصاحة،
وأمراء البيان {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وانتقلت السورة لتعريف الناس بصفات الإله الحق، بذكر آثار قدرته، الدالة على
التدبير الحكيم، وما في هذا الكون المنظور من آثار القدرة الباهرة، التي هي أوضح
البراهين على عظمة الله وجلاله وسلطانه {قل من يرزقكم من السماواتِ والأرض؟
أمَّنْ يملك السمع والأبصار…} وهذه
هي القضية الكبرى التي يدور محور السورة عليها وهي موضوع الإيمان بوحدانية الله جل
وعلا، وقد عرضت السورة بشتى الأدلة السمعية والعقلية.
*وتحدثت
السورة عن قصص الأنبياء، فذكرت قصة نوح مع قومه، وقصة موسى مع فرعون الجبار، وذكرت
قصة نبي الله "يونس"-الذي سميت السورة باسمه_ وكلُّ هذه القصص لبيان سنة الله
الكونية في إهلاك الظالمين، ونصرة المؤمنين.
وختمت
السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بشريعة الله، والصبر على
ما يلقى من الأذى في سبيل الله {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
التسمية:
سميت السورة "سورة يونس" لذكر قصته فيها، وما تضمنته من العظة والعبرة برفع
العذاب عن قومه حينءامنوا بعد أن كاد يحل بهم البلاء والعذاب، وهذا من الخصائص التي
خصَّ الله بها قوم يونس لصدق توبتهم وإيمانهم.
الإنذار
والتبشير من قِبل الرسول والافتراء والتكذيب من قِبل
الكافرين
{الر}إشارة إلى أن هذا الكلام البليغ المعجز، مكوّن من جنس الأحرف التي يتكون منها
كلامكم، فمن هذه الحروف وأمثالهم تتألف آيات الكتاب الحكيم، وهي في متناول أيديهم
ثم يعجزون عن الإتيان بمثل آية واحدة منه{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْحَكِيمِ} أي هذه آيات
القرءان
المُحْكم المبين الذي لا يدخله شك، ولا يعتريه كذب ولا تناقض
.
{أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ}
أي أكان عجباً لأهل مكة إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم هو محمد عليه السلام؟ والهمزة
للإنكار أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إلى رسلهم ليبلغوهم
رسالة الله {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أي أوحينا إليه بأن خوِّف الكفار عذاب
النار {وَبَشِّرِ الَّذِينَءامنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ} أي وأنْ بشِّرٍ المؤمنين بأنَّ لهم سابقةً ومنزلة رفيعة عند ربهم
بما قدموا من صالح الأعمال .
{قَالَ
الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}أي ومع وضوح صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرءان،
قال المشركون: إنَّ محمداً لساحرٌ ظاهر السحر، مبطلٌ فيما يدَّعيه قال
البيضاوي: وفيه اعترافٌ بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً
خارقة للعادة، معجزة إيّاهم عن المعارضة، وهو اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما جاء
به خارجٌ عن طوق البشر.
إثبات
الألوهية والربوبية لله تعالى
{إِنَّ
رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ}أي إنَّ ربكم ومالك أمركم الذي ينبغي أن تفردوه بالعبادة هو الذي خلق الكائنات
في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهنَّ في لمحة ولكنه أراد تعليم
العباد التأني والتثبت في الأمور{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
استواءً يليق بجلاله من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل.
قال
ابن كثير:
نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، وهو إِمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا
تعطيل، والمتبادر إلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيءٌ من
خلقه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه
الذي يليق بجلال الله، فقد سلك سبيل الهدى، وقال أبو السعود: استوى على
العرش على الوجه الذي عناه، وهو صفة له سبحانه بلا كيف، منزهاً عن التمكن
والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة ملكه وسلطانه، بعد بيان عظمة شأنه
.
{يُدَبِّرُ
الأَمْرَ}
أي يدبّر أمر الخلائق على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، قال ابن عباس: لا
يشغله في تدبير خلقه أحد{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ
إِذْنِهِ}أي لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إِلا بعد أن يأذن له في
الشفاعة، وفي هذا ردٌّ على المشركين في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم{ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي ذلكم العظيم الشأن هو
ربكم وخالقكم لا ربَّ سواه، فوحّدوه بالعبادة {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا
تتعظون وتعتبرون؟ تعلمون أنه المتفرد بالخلق ثم تعبدون معه
غيره.
الوعد
الحق بالبعث والحشر والجزاء
{إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}أي إِلى ربكم مرجعكم أيها الناس يوم القيامة جميعاً {وَعْدَ اللَّهِ
حَقًّاً} أي وعداً من الله لا يتبدّل، وفيه ردٌّ على منكري البعث حيث قالوا {ما
هي إِلا حياتُنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إِلا الدهر} {إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي كما ابتدأ الخلق كذلك يعيده {لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ
ءامنوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}
أي ليجزي المؤمنين بالعدل، ويوفّيهم أجورهم بالجزاء الأوفى .
{وَالَّذِينَ
كَفَرُوا}
أي والذين جحدوا بالله وكذبوا رسله {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي لهم في
جهنم شرابٌ من حميم، بالغ النهاية في الحرارة {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْفُرُونَ} أي ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وإِشراكهم، قال البيضاوي:
والآية كالتعليل لما سبق فإِنه لما كان المقصود من البدء والإِعادة مجازاة المكلفين
على أعمالهم كان مرجع الجميع إِليه لا محالة.
أحوال
الشمس والقمر الدالة على توحيد الله وكمال
قدرته
{هُوَ
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة
ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج {وَالْقَمَرَ نُورًا} أي وجعل القمر منيراً
بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء،
لأنه هو الذي له سطوعٌ ولمَعان، قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر
{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج
{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي لتعلموا أيها الناس حساب
الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام {مَا خَلَقَ
اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة،
وفائدة جليلة {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} أي يبيّن الآيات
الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته، قال أبو السعود:
أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل
وعلا.
{إِنَّ
فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار فيذهب الليل {وَمَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وما أوجد فيهما من أصناف
المصنوعات {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على
وجود الصانع ووحدانيته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون
عذابه.
أحوال
المؤمنين والكافرين يوم القيامة
{إِنَّ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا}أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق
بما بعد الممات {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي رضوا بالدنيا عوضاً
من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي فرحوا بها
وسكنوا إِليها {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي وهم عن
الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا
يتفكرون.
{أُوْلَئِكَ
مَأْوَاهُمْ النَّارُ}
أي مثواهم ومقامهم النار {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب كفرهم
وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال {إِنَّ
الَّذِينَ
ءامنوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}
أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم
وهم مقيمون في جنات النعيم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي
دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث (يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون
النَّفس) أي كلامهم في الجنة تسبيح الله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي
وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة {والملائكةُ يدخلون
عليهم من كل باب سلامٌ عليكم} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ
العالمين.
رحمة
الله لعباده والتجاؤهم إليه في الشدائد وإعراضهم عنه في
الرخاء
{وَلَوْ
يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ
بِالْخَيْرِ}
قال مجاهد: هو دعاء الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم
لا تبارك فيه، قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر
وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به
{لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت {فَنَذَرُ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون
بالبعث {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون
تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة
.
{وَإِذَا
مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ}
أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقر أو نحو ذلك {دَعَانَا لِجَنْبِهِ
أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو
قائماً لكشف ذلك الضُر عنه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ
لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على
عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله
عند الضر، ويغفل عنه عند العافية {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند
الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من
الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات.
الإهلاك
والاستخلاف متعلقان بالأعمال
{وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في
الغيِّ والضلال {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءوهم
بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي
وما ءامنوا
بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما ءامنوا
فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء -يعني الإِهلاك- نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ
لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ}
أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون
أخبارها وتشاهدون آثارها {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون
خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم، قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم
معاملة المختبر إِظهاراً للعدل، وقال ابن جزي: معناه ليظهر في الوجود عملكم
فتقوم عليكم به الحجة، والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن
يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً.
التشكيك
بالقرآن عن طريق المطالبة بالإتيان بغيره أو
تبديله
{وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرءان
المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال {قَالَ الَّذِينَ
لايَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب،ولا يرجون
الأجر والثواب {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر
غير هذا القرءان،
ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل
مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه
على سبيل الاستهزاء والسخرية، قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من
أهل مكة قالوا: يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك .
{قُلْ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}
أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيّر أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ
ربي، فأنا عبد مأمور ورسول مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله {إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخشى إِن خالفت أمره،
وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي قل لهم يا محمد لو
شاء الله ما تلوتُ هذا
القرءان
عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي {وَلا
أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أَعلَمكم به على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمناً طويلاً، مدة أربعين سنة
من قبل القرءان
لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تستعملون عقولكم
بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال
الإِمام الفخر الرازي: إِن الكفار شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول
عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ
لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم،
المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص
الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم
أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل.
{فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه
نفي الكذب عن مقامه الشريف صلى الله عليه وسلم حيث زعم المشركون أن هذا القرءان
من صنع محمد {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب
الإِجرام وكذّب الرسل الكرام.
التنديد
بعبادة الأصنام
{وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}بيانٌ لقبائح المشركين أي ويعبدون الأوثان التي هي جمادات لا تقدر على جلب نفعٍ
أو دفع ضر {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي يزعمون
أن الأصنام تشفع لهم مع أنها حجارة لا تبصر ولا تسمع {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}؟ أي قل يا
محمد لهؤلاء المشركين أتخبرون الله تعالى بشريكٍ أو شفيعٍ كائنٍ في السماوات أو
الأرض لا يعلمه جلَّ وعلا، وهو علاّم الغيوب الذي أحاط علمه بجميع الكائنات؟
والاستفهام للتهكم والهزء بهم {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
أي تنزّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون، وينسبه إِليه
المشركون.
التحذير
من الاختلاف المذموم
{وَمَا
كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}
أي وما كان الناس إِلا على دين واحد هو الإِسلام من لدن آدم إِلى نوح فاختلفوا في
دينهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون
كلُّهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعُبدت الأوثان والأصنام فبعث الله
الرسل مبشرين ومنذرين {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي ولولا
قضاء الله بتأخير الجزاء إِلى يوم القيامة{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي لعُجِّل عقابهم في الدنيا باختلافهم في
الدين.
مطالبة
المشركين بمعجزة محسوسة غير
القرءان
{وَيَقُولُونَ
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}أي ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون هلاّ أنزل على محمد معجزة من ربه كما كان
للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي قل
لهم أمر الغيب لله وحده ولا يأتي بالآيات إِلا هو وإِنما أنا مبلّغ
{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ} أي فانتظروا قضاء
الله بيننا فأنا ممن ينتظر ذلك.
الرد
على الكفار المطالبين بإنزال الآيات الكونية
{وَإِذَا
أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ}المراد بالناس كفار مكة رُوي أن الله سلّط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا
يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان فلما
رحمهم الله بإنزال المطر رجعوا إلى الكفر والعناد والمعنى: وإذا أذقنا هؤلاء
المشركين رخاءً بعد شدة، وخصباً بعد جدبٍ أصابهم {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آيَاتِنَا} قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيب {قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ
مَكْرًا} أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا
تَمْكُرُونَ} أي إنَّ الملائكة الحفظة يكتبون مكركم ويسجّلون إجرامكم، وفيه
تنبيهٌ على أن ما دبَّروه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير
.
{هُوَ
الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير
على وجه الماء {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي حتى إذا كنتم في
البحر على ظهور هذه السفن {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فيه
التفاتٌ أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيِّر السفن {وَفَرِحُوا
بِهَا} أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي
وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة {وَجَاءهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ} أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
أُحِيطَ بِهِمْ} أي أيقنوا بالهلاك {دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي:
وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب
دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب {لَئِنْ
أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} أي لئن أنقذتنا من
هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك،
قال أبو حيّان: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام
وغيرها، وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم
من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري .
{فَلَمَّا
أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
أي فلما خلّصهم وأنقذهم إِذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس:
يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي وبالُ البغي
عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي
تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية التي تعقبها الحسرات الباقية {ثُمَّ
إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجعكم
بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدٌ وتهديد. والآية الكريمة تمثيلٌ
لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت
الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان،
وتمادى في الشرِّ والطغيان.
مثل
موجَّه لمن يبغي في الأرض ويغترُّ بالدنيا
ثم
ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصَّر مدة التمتع بها فقال
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في
فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به
أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض، قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ
لون {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} أي مما يأكله الناس من الحبوب
والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير.
{حَتَّى
إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا}
أي أخذت حسنها وبهجتها {وَازَّيَّنَتْ} أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار،
وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون
لثمرتها وغلّتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا} أي جاءها
قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً {فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا} أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها كالذي حصد بالمناجل {كَأَنْ لَمْ
تَغْنَ بِالأَمْسِ} أي كأنها لم تكن عامرة قائمة على ظهر الأرض قبل ذلك
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي مثل ما بينا هذا
المثل الرائع للحياة الدنيا نبيّن الآيات ونضرب الأمثال لقوم يتفكرون فيعتبرون بهذه
الأمثال قال الألوسي: وتخصيصُهم بالذكر لأنهم
المنتفعون.
مصير
المحسنين والمسيئين يوم القيامة
{وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ}أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين
الإِسلام {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أي الذين أحسنوا بالإِيمان
والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة{وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه
الله الكريم .
{وَلا
يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ}
أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار {وَلا ذِلَّةٌ}
أي هوانٌ وصغار {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها {وَالَّذِينَ
كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي والذين عملوا
السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على
ذلك، فالحسناتُ مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي تغشاهم ذلة وهوان {مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} أي
كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل {أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي لا يخرجون منها
أبداً.
انقطاع
الصلة بين المشركين وشركائهم يوم القيامة
{وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا}أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا بالله
{مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم والذين
عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم{فَزَيَّلْنَا
بَيْنَهُمْ} أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله {وامتازوا اليوم
أيها المجرمون} .
{وَقَالَ
شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}
أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله، قال مجاهد:
يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا
كقوله {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم
الأسباب} {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي تقول
الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم {إِنْ كُنَّا
عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أي ما كنا عن عبادتكم لنا إلا غافلين، لا
نسمع ولا نبصر ولا نعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا .
{هُنَالِكَ
تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}
أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي ردّوا إلى الله تعالى
المتولي جزاءهم بالعدل والقسط {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه من أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ
للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم
شيئاً.
اعتراف
المشركين بالربوبية لله تعالى
{قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد لهؤلاء
المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ {أَمَّنْ
يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي
تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله
{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الآية {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}؟ أي من يخرج الإِنسان من
النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من
الكافر؟ {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف
شؤون الكائنات؟ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو
الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه {فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ} أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقمته بإِشراككم وعبادتكم
غير الله؟
{فَذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}
أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابتة ربوبيتُه ووحدانيتُه
بالبراهين القاطعة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} استفهام
إنكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في
الضلال {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما
لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}
أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} أي على
الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لأنهم
لا يصدقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم
وضلالتهم.
حجج
دامغة في إثبات وجود الله تعالى
{قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشىء
الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على
دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون
مفترون، أُمر صلى الله عليه وسلم بالجواب {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ
ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك {فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟
{قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}
توبيخ آخر في صورة استفهام، أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها
من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ {قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو
القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} أي
أفمن يرشد إِلى الحق وهو الله سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا
تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ { فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ
الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب
والإِنكار.
ثم
بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل
التقليد فقال {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} أي وما يتبعون في
اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام
باطلة، وخرافات فاسدة {إِنَّ الظَّنَّ