بَين يَدَي
السُّورَة
سورة النحل من السور
المكية التي تعالج موضوعات العقيدة الكبرى "الأُلوهية، والوحي، والبعث والنشور"
وإلى جانب ذلك تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية في ذلك العالم الفسيح في السماوات
والأرض، والبحار والجبال، والسهول والوديان، والماء الهاطل، والنبات النامي، والفلك
التي تجري في البحر، والنجوم التي يهتدي بها السالكون في ظلمات الليل، إلى آخر تلك
المشاهد التي يراها الإِنسان في حياته، ويدركها بسمعه وبصره، وهي صورٌ حيةٌ مشاهدة،
دالةٌ على وحدانية الله جلَّ وعلا، وناطقةٌ بآثار قدرته التي أبدع بها
الكائنات.
*
تناولت السورة الكريمة
في البدء أمر الوحي الذي كان مجال إِنكار المشركين واستهزائهم، فقد كذبوا بالوحي
واستبعدوا قيام الساعة، واستعجلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب
الذي خوَّفهم به، وكلما تأخر العذاب زادوا استعجالاً وزادوا استهزاءً
واستهتاراً.
*
ولقد هدفت السورة
الكريمة إلى تقرير مبدأ "وحدانية الله" جلَّ وعلا بلفت الأنظار إلى قدرة الله
الواحد القهَّار، فخاطبت كل حاسةٍ في الإِنسان، وكل جارحةٍ في كيانه البشري، ليتجه
بعقله إلى ربّه، ويستنير بما يرى من آثار صنع الله على عظمة اللهِ
سبحانه.
*
ثم تتابعت السورة
الكريمةُ تذكِّر الناس بنتيجة الكفر بنعم الله، وعدم القيام بشكرها، وتحذرهم تلك
العاقبة الوخيمة التي يؤول إليها مصيرُ كل معاندٍ وجاحد.
*
وختمت السورة الكريمة
بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر
والعفو عمَّا يلقاه من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله.
التســميَــة
:
سميت هذه السورة
الكريمة "سورة النحل" لاشتمالها على تلك العبرة البليغة التي تشير إلى عجيب صنع
الخالق، وتدلُّ على الألوهية بهذا الصنع العجيب.
إثبات البعث
والوحي
{أَتَى
أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}أي قرب قيام
الساعة فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، وإِنما أتى بصيغة الماضي لتحقق
وقوع الأمر وقربه، قال الرازي : لما كان واجب الوقوع لا محالة عبّر عنه
بالماضي كما يقال للمستغيث : جاءك الغوثُ فلا تجزع {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، وتقدس عن إشراكهم به
غيره من الأنداد والأوثان {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ} أي يُنزّل الملائكة بالوحي والنبوة بإِرادته وأمره {عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه
تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ
إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} أي بأن أنذروا أهل الكفر أنه لا معبود إلا الله
فخافوا عذابي وانتقامي.
البراهين الدالة على
وحدانيته وقدرته
سبب النزول
:
نزول الآية
(4) :
{خَلَقَ
الإِنسَانَ} : نزلت
الآية في أبي بن خلَف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما رمَّ ؟ ونظير الآية قوله تعالى في سورة
يس : {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} إلى آخر
السورة.
ثم ذكر تعالى البراهين
الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
بِالْحَقِّ} أي خلقهما بالحق الثابت، والحكمة الفائقة، لا عبثاً ولا جُزافاً
{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تمجَّد وتقدَّس عن الشريك والنظير
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} أي خلق هذا الجنس البشري من نطفةٍ مهينة
ضعيفة هي المنيُّ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا به بعد تكامله
بشراً مخاصمٌ لخالقه، واضح الخصومة، يكابر ويعاند، وقد خُلق ليكون عبداً لا ضداً
قال ابن الجوزي: لقد خُلق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله
على آخره، وبأن من قدر على إِيجاده أولاً قادرٌ على إعادته ثانياً؟
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا} أي وخلق الأنعام لمصالحكم وهي الإِبل والبقر
والغنم {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي لكم فيها ما تستدفئون به من البرد مما
تلبسون وتفترشون من الأصواف والأوبار {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
أي ولكم فيها منافع عديدة من النسل والدر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون وهو من
أعظم المنافع لكم {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ} أي ولكم في هذه الأنعام والمواشي زينةٌ وجمالٌ حين رجوعها عشياً
من المرعى، وحين غُدوّها صباحاً لترعى، جمال الاستمتاع بمنظرها صحيحةً سمينةً فارهة
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ
الأَنفُسِ} أي وتحمل أحمالكم الثقيلة وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها إلى بلدٍ
بعيد لم تكونوا لتصلوا إليه إلا بجهدٍ ومشقة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ} أي إنَّ ربكم أيها الناس الذي سخَّر لكم هذه الأنعام لعظيمُ الرأفة
والرحمة بكم {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً} أي وخلق الخيل والبغال والحمير للحمل والركوب وهي كذلك زينة وجمال
{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ويخلق في المستقبل ما لا تعلمونه الآن
كوسائل النقل الحديث : القاطرات، والسيارات، والطائرات النفاثة وغيرها مما يجدُّ به
الزمان وهو من تعليم الله للإِنسان {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي
وعلى الله جل وعلا بيانُ الطريق المستقيم، الموصلِ لمن يسلكه إلى جنات النعيم
{وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي ومن هذه السبيل طريقٌ مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه، لا
يوصل سالكه إلى الله وهو طريق الضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية {وَلَوْ
شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولو شاء أن يهديكم إلى الإِيمان لهداكم
جميعاً ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يدع للإِنسان حرية الاختيار {فمن شاء فليؤمن
ومن شاء فليكفر} ليترتب عليه الثواب والعقاب.
نعم الله العظام وآياته
المنبثة في الكائنات
ولما ذكر تعالى ما أنعم
به عليهم من الأنعام، شرع فيذكر سائر النعم العظام وآياته المنبثة في الكائنات فقال
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل المطر بقدرته القاهرة
من السحاب {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} أي أنزله عذباً فراتاً لتشربوه فتسكن
حرارة العطش {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي وأخرج لكم منه شجراً
ترعون فيه أنعامكم {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالأَعْنَابَ} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها
وطعومها وألوانها {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ومن كل الفواكه والثمار
يخرج لكم أطايب الطعام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
أي إن في إنزال الماء وإِخراج الثمار لدلالة واضحة على قدرة الله ووحدانيته لقومٍ
يتدبرون في صنعه فيؤمنون قال أبو حيان: ختم الآية بقوله
{يَتَفَكَّرُونَ} لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل، واستعمال فكر، ألا
ترى أن الحبة الواحدة إذا وُضعت في الأرض ومرَّ عليها زمن معيَّن لحقها من نداوة
الأرض ما تنتفخ به فيُشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في
عمق الأرض شجرةٌ أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج الأوراق والأزهار،
والأكمام والثمار، المشتملة على أجسامٍ مختلفة الطبائع والألوان والأشكال والمنافع
وذلك بتقدير قادرٍ مختار وهو الله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذلّل الليل والنهار يتعاقبان لمنامكم
ومعاشكم، والشمس والقمر يدوران لمصالحكم ومنافعكم {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ} أي والنجومُ تجري في فلكها بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر
والبحر{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في
ذلك الخلق والتسخير لدلائل باهرة عظيمة، لأصحاب العقول السليمة {وَمَا ذَرَأَ
لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي وما خلق لكم في الأرض من
الأمور العجيبة، من الحيوانات والنباتات، والمعاد والجمادات، على اختلاف ألوانها
وأشكالها، وخواصها ومنافعها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ} أي لعبرةً لقومٍ يتعظون {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ} أي وهو تعالى - بقدرته ورحمته - ذلّل لكم البحر المتلاطم الأمواج
للركوب فيه والغوص في أعماقه {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أي
لتأكلوا من البحر السمك الطريَّ الذي تصطادونه {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجوا منه الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان
{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} أي وترى السفن العظيمة تشق عُباب البحر
جاريةً فيه وهي تحمل الأمتعة والأقوات {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي
سخر لكم البحر لتنتفعوا بما ذُكر ولتطلبوا من فضل الله ورزقه سبل معايشكم بالتجارة
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على عظيم إنعامه وجليل أفضاله
{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي نصب فيها جبالاً
ثوابت راسيات لئلا تضطرب بكم وتميل قال أبو السعود: إن الأرض كانت كرةً
خفيفة قبل أن تُخلق فيها الجبال، وكان من حقها أن تتحرك كالأفلاك بأدنى سبب فلما
خُلقت الجبال توجهت بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لها {وَأَنْهَارًا
وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي وجعل فيها أنهاراً وطرقاً ومسالك لكي
تهتدوا إلى مقاصدكم {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي
وعلامات يستدلون بها على الطرق كالجبال والأنهار، وبالنجوم يهتدون ليلاً في البراري
والبحار قال ابن عباس: العلامات معالمُ الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون
بالليل.
تفرد الله بالخلق،
وعلمه السر
{أَفَمَنْ
يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}الاستفهام
إِنكاري أي أتسوّون بين الخالق لتلك الأشياء العظيمة والنعم الجليلة، وبين من لا
يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره؟ أتشركون هذا الصنم الحقير مع الخالق
الجليل ؟ وهو تبكيت للكفرة وإِبطالٌ لعبادتهم الأصنام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
أي أفلا تتذكرون فتعرفون خطأ ما أنتم فيه من عبادة غير الله؟ وهو توبيخٌ آخر
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي إن تعدوا نعم الله
الفائضة عليكم لا تضبطوا عددها فضلاً عن أن تطيقوا شكرها {إِنَّ اللَّهَ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لما صدر منكم من تقصير رحيم بالعباد حيث ينعم عليهم
مع تقصيرهم وعصيانهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
أي يعلم ما تخفونه وما تظهرونه من النوايا والأعمال وسيجازيكم عليها
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ} أي والذين يعبدونهم من دون الله كالأوثان والأصنام لا يقدرون على
خلق شيء أصلاً والحال أنهم مخلوقون صنعهم البشر بأيديهم، فكيف يكونون آلهة تعبد من
دون الله؟ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي وتلك الأصنام أمواتٌ لا أرواح
فيها، لا تسمع ولا تبصر لأنها جمادات لا حياة فيها، فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها
لما فيكم من الحياة؟ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما تشعر
هذه الأصنام متى يبعث عابدوها، وفيه تهكم بالمشركين لأنهم عبدوا جماداً لا يحس ولا
يشعر {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إلهكم المستحق للعبادة إله واحدٌ لا
شريك له {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ} أي
فالذين لا يصدّقون بالبعث والجزاء قلوبهم تنكر وحدانية الله عز وجل {وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون متعاظمون عن قبول الحق بعدما سطعت دلائله {لا
جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي حقاً إن
الله تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم يعلم ما يخفون وما يظهرون {إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي المتكبرين عن التوحيد
والإِيمان.
إنكار المشركين الوحي
وجزاؤهم يوم القيامة
{وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} أي وإِذا سئل هؤلاء
الجاحدون أيَّ شيء أنزل ربكم على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ {قَالُوا أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِينَ} أي قالوا على سبيل الاستهزاء: ما أنزله ليس إلا خرافات وأباطيل
الأمم السابقين ليس بكلام رب العالمين قال المفسرون: كان المشركون يجلسون
على مداخل مكة يُنفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج ماذا
أُنزل على محمد؟ قالوا أباطيل وأحاديث الأولين {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ
كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي قالوا ذلك البهتان ليحملوا ذنوبهم كاملةً من
غير أن يُكفَّر منها شيء {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ} أي وليحملوا ذنوب الأتباع الذين أضلوهم بغير دليلٍ أو برهان، فقد كانوا
رؤساء يُقتدى بهم في الضلالة ولذلك حملوا أوزارهم وأوزار من أضلوهم {أَلا سَاءَ
مَا يَزِرُونَ} ألاَ للتنبيه أي فانتبهوا أيها القوم بئس الحمل الذي حملوه على
ظهورهم، والمقصودُ المبالغة في الزجر {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ} أي مكر المجرمون بأنبيائهم وأردوا إطفاء نور الله من قبل كفار مكة،
وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ} أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه، وهذا تمثيلٌ لإِفساد ما أبرموه
من المكر بالرسل {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي فسقط
عليهم سقف بنيانهم فتهدّم البناء وماتوا {وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ} أي جاءهم الهلاك والدمار من حيث لا يخطر على بالهم، والآية مشهد
كاملٌ للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين، وتدبير المدبرين، الذين يقفون
لدعوة الله ويحسبون مكرهم لا يُردّ، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم ويهينهم
{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي
يقول تعالى لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين هؤلاء الشركاء الذين كنتم تخاصمون
وتعادون من أجلهم الأنبياء ؟ أحضروهم ليشفعوا لكم، والأسلوب استهزاءٌوتهكم
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى
الْكَافِرِينَ} أي يقول الدعاة والعلماء شماتةً بأولئك الأشقياء إن الذلَّ
والهوان والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي تقبض الملائكة أرواحهم الخبيثة حال
كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والإِشراك بالله {فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا
نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي استسلموا وانقادوا عند الموت على خلاف عادتهم في
الدنيا من العناد والمكابرة، وقالوا ما أشركنا ولا عصينا كما يقولون يوم المعاد
{والله ربنا ما كنا مشركين} {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ} أي يكذبهم الله ويقول: بلى قد كذبتم وعصيتم وكنتم مجرمين
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي أدخلوا جهنم ماكثين
فيها أبداً {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً
ومقاماً للمتكبرين عن طاعة الله.
حال المتقين مع الوحي
وجزاؤهم
{وَقِيلَ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}أي قيل للفريق
الثاني وهم أهل التقوى والإِيمان {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا
خَيْرًا} أي ماذا أنزل ربكم على رسوله ؟ قالوا أنزل خيراً قال المفسرون:
هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إِنه
ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وعن ما أنزل الله عليه فيقولون:
أنزل الله عليه الخير والهدى والقرآن، قال تعالى بياناً لجزائهم الكريم
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي لهؤلاء المحسنين
مكافأة في الدنيا بإِحسانهم {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي وما ينالونه في
الآخرة من ثواب الجنة خيرٌ وأعظم من دار الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة
{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة وهي
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جناتُ إِقامة {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخلون تلك الجنان التي تجري من بين أشجارها وقصورها
الأنهار {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في تلك الجنات ما يشتهون
بدون كدٍّ ولا تعب، ولا انقطاعٍ ولا نَصب {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ
الْمُتَّقِينَ} أي مثل هذا الجزاء الكريم يجزي الله عباده المتقين لمحارمه،
المتمسكين بأوامره {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} أي
هم الذين تقبض الملائكةُ أرواحهم حال كونهم أبراراً، قد تطهروا من دنس الشرك
والمعاصي، طيبةً نفوسهم بلقاء الله {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي تسلم
عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة قال ابن عباس: الملائكة يأتونهم بالسلام من
قِبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} أي هنيئاً لكم الجنة بما قدمتم في الدنيا من صالح
الأعمال.
تهديد المشركين على
تماديهم في الباطل
{هَلْ
يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ}عاد الكلام
إِلى تقريع المشركين وتوبيخهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا والمعنى ما
ينتظر هؤلاء إِلا أحد أمرين: إِما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب العاجل، أو ليس
في مصير المكذبين قبلهم عبرةٌ وعظة؟.
{كَذَلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذلك صنع من قبلهم
من المجرمين حتى حلَّ بهم العذاب {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ولكنْ ظلموا
أنفسهم بالشرك والمعاصي {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي أصابهم
عقوبات كفرهم وجزاء أعمالهم الخبيثة {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُون} أي أحاط ونزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب الأليم في دركات
الجحيم.
تذرع الكفار بحجج واهية
وإنكارهم البعث
سبب النزول
:
نزول الآية
(38) :
{وأقسموا
بالله..} قال الربيع بن أنس،
عن أبي العالية : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه،
فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث
بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه
الآية.
{وَقَالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا}أي قال أهل
الكفر والإِشراك وهم كفار قريش {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ
مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}
أي لو شاء الله ما عبدنا الأصنام لا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من البحائر
والسوائب وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد، وغرضُهم أن
إِشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راضٍ به وهو حقٌّ
وصواب.
{كَذَلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل هذا التكذيب
والاستهزاء فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم
لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار
وغضب الجبار {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس على
الرسل إِلا التبليغ، وأمَّا أمر الهداية والإِيمان فهو إِلى الله جلَّ
وعلا.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} أي أرسلنا الرسل إِلى
جميع الخلق يأمرونهم بعبادة الله وتوحيده ونترك كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن
والصنم، وكل من دعا إِلى الضلال {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} أي فمنهم
من أرشده الله إِلى عبادته ودينه فآمن {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ} أي ومنهم من وجبت له الشقاوة والضلالة فكفر، أعْلمَ تعالى انه
أرسل الرسل لتبليغ الناس دعوة الله فمنهم من استجاب فهداه الله، ومنهم من كفر
فأضَّله الله.
{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي سيروا يا معشر
قريش في أكناف الأرض ثم انظروا ماذا حلَّ بالأمم المكذبين لعلكم تعتبرون
!.
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى
هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} الخطاب للرسول صلى
الله عليه وسلم أي إِن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء الكفار فاعلم أنه تعالى لا
يخلق الهداية جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره {وَمَا لَهُمْ
مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من ينقذهم من عذابه تعالى {وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أي حلف
المشركون جاهدين في أيمانهم مبالغين في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت،
استبعدوا البعث ورأوه أمراً عسيراً بعد البلى وتفرق الأشلاء
والذرات.
قال تعالى
رداً عليهم {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي بلى ليبعثنَّهم، وعد بذلك
وعداً قاطعاً لابدَّ منه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي
ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والنشور {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي سيبعثهم ليكشف ضلالهم في إِنكارهم البعث،
وليظهر لهم الحق فيما اختلفوا فيه، وليحقق العدل وهو التمييز بين المطيع والعاصي،
وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أي وليعلم الجاحدون
للبعث، والمكذبون لوعد الله الحق أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون {إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا
يحتاج الأمر إلى كبير جهد وعناء فإِنا نقول للشيء كنْ فيكون.
قال
المفسرون : هذا تقريبٌ للأذهان،
والحقيقةُ أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان بغير احتياج إِلى لفظ{كُنْ}.
منزل المهاجرين، ومهمة
الرسول صلى الله عليه وسلم تبيين كلام الله
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}أي تركوا
الأوطان والأهل والقرابة في شأن الله وابتغاء رضوانه من بعد ما عُذّبوا في الله
قال القرطبي: هم صهيب وبلال وخَبَّاب وعمّار، عذّبهم أهل مكة حتى قالوا لهم
ما أرادوا، فلما خلّوهم هاجروا إِلى المدينة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً} أي لنسكننهم داراً حسنة خيراً مما فقدوا.
قال ابن
عباس: بوأهم الله المدينة
فجعلها لهم دار هجرة {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ} أي ثواب الآخرة أعظم وأشرف وأكبر لو كان الناس يعلمون
{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هم الذين صبروا
على الشدائد والمكاره، فهجروا الأوطان، وفارقوا الإِخوان، واعتمدوا على الله وحده
يبتغون أجره ومثوبته.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا من
قبلك يا محمد إِلى الأمم الماضية إِلا بشراً نوحي إِليهم كما أوحينا
إِليك.
قال
المفسرون: أنكر مشركو قريش نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث
إِلينا ملكاً، فنزلت {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} أي اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوراة والإِنجيل يخبرونكم أن
جميع الأنبياء كانوا بشراً إِن كنتم لا تعلمون ذلك {بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ} أي أرسلناهم بالحجج والبراهين الساطعة الدالة على صدقهم وبالزبُر
أي الكتب المقدسة.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ} أي القرآن المذّكِّر
الموقظ للقلوب الغافلة {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي
لتعرّف الناس الأحكام، والحلال والحرام {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي
ولعلهم يتفكرون في هذا القرآن فيتعظون.
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ} أي هل أمن
هؤلاء الكفار الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واحتالوا لقتله في دار
الندوة، هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون؟ {أَوْ يَأْتِيَهُمْ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي يأتيهم العذاب بغتةً في حال أمنهم
واستقرارهم، من حيث لا يخطر ببالهم ومن جهةٍ لا يعلمون بها {أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي يهلكهم في أثناء أسفارهم
للتجارة واشتغالهم بالبيع والشراء فإِنهم على أي حال لا يعجزون الله {أَوْ
يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي يهلكهم الله حال كونهم خائفين مترقبين لنزول
العذاب.
قال ابن
كثير: فإِنه يكون أبلغ وأشد
فإِن حصول ما يتوقع مع الخوف شديدٌ {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى
مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي أولم يعتبر هؤلاء
الكافرون ويروا آثار قدرة الله وأنه ما من شيء من الجبال والأشجار والأحجار ومن
سائر ما خلق الله {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ
سُجَّدًا لِلَّهِ} أي تميل ظلالها من جانب إِلى جانب ساجدة للهِ سجود خضوعٍ
لمشيئته تعالى وانقياد، لا تخرج عن إِرادته ومشيئته {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي
خاضعون صاغرون فكل هذه الأشياء منقادة لقدرة الله وتدبيره فكيف يتعالى ويتكبر على
طاعته أولئك الكافرون؟.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ} أي له تعالى وحده
يخضع وينقاد جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة فهم لا يستكبرون عن عبادته
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي
يخافون جلال الله وعظمته، ويمتثلون أوامره على الدوام.
توجيه الله الكفار
للتوحيد، وتذكيرهم بنعمه
{وَقَالَ
اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}أي لا تعبدوا
إِلهين فإِن الإِله الحق لا يتعدد {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إِلهكم
واحد أحد فردٌ صمد {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي} أي خافون دون سواي {وَلَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَهُ
الدِّينُ وَاصِبًا} أي له الطاعة والانقياد واجباً ثابتاً فهو الإِله الحق، وله
الطاعة خالصة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي
كيف تتقون وتخافون غيره، ولا نفع ولا ضر إِلا بيده؟.
{وَمَا بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} أي ما تفضَّل عليكم
أيها الناس من رزقٍ ونعمةٍ وعافيةٍ ونصر فمن فضلِ اللهِ وإِحسانه {ثُمَّ إِذَا
مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي ثم إِذا أصابكم الضُّرُ من فقرٍ
ومرضٍ وبأساء فإِليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء، والغرض أنكم تلجأون إِليه وحده
ساعة العسرة والضيق، ولا تتوجهون إِلا إِليه دون الشركاء {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ
الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي إِذا
رفع عنكم البلاء رجع فريق منكم إِلى الإِشراك بالله قال القرطبي: ومعنى
الكلام التعجيبُ من الإِشراك بعد النجاة من الهلاك {لِيَكْفُرُوا بِمَا
آتَيْنَاهُمْ} أي ليجحدوا نعمته تعالى من كشف الضر والبلاء {فَتَمَتَّعُوا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي تمتعوا بدار الفناء فسوف تعلمون عاقبة أمركم وما ينزل
بكم من العذاب، وهو أمرٌ للتهديد والوعيد.
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا
يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي يجعلون للأصنام
التي لا يعلمون ربوبيتها ببرهان ولا بحجة نصيباً من الزرع والأنعام تقرباً إِليها
{تَاللَّهِ لَت