{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} أي واظبوا أيها المؤمنون وداوموا على أداء الصلوات في أوقاتها وخاصة صلاة العصر فإِن الملائكة تشهدها {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي داوموا على العبادة والطاعة بالخشوع والخضوع أي قوموا لله في صلاتكم خاشعين {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا}أي فإِذا كنتم في خوفٍ من عدوٍ أو غير فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب.
{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي فإِذا زال الخوف وجاء الأمن فأقيموا الصلاة مستوفية لجميع الأركان كما أمركم الله وعلى الوجه الذي شرعه لكم وهذه كقوله {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] والذكرُ في الآية يراد به الصلاة الكاملة المستوفية للأركان قال الزمخشري: المعنى اذكروه بالعبادة كما أحسن إِليكم بما علمكم من الشرائع وكيف تصلون في حال الخوف والأمن.
ثم قال تعالى مبيناً أحكام العدة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}أي والذين يموتون من رجالكم ويتركون زوجاتهم على هؤلاء أن يوصوا قبل أن يُحتضروا بأن تمُتَّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً يُنْفق عليهنَّ من تركته ولا يُخرجن من مساكنهنَّ - وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة إِلى أربعة أشهر وعشرة أيام {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} أي فإِن خرجن مختارات راضيات فلا إِثم عليكم يا أولياء الميت في تركهن أن يفعلن ما لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب والتعرض للخُطّاب {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي هو سبحانه غالبٌ في ملكه حكيم في صنعه.
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}أي واجبٌ على الأزواج أن يمتِّعن المطلقات بقدر استطاعتهم جبراً لوحشة الفراق وهذه المتعة حقٌّ لازم على المؤمنين المتقين لله{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي مثل ذلك البيان الشافي الذي يوجه النفوس نحو المودة والرحمة يبيّن الله سبحانه لكم آياته الدالة على أحكامه الشرعية لتعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم وهم ألوف مؤلفة {حَذَرَ الْمَوْتِ}أي خوفاً من الموت وفراراً منه والغرض من الاستفهام التعجيب والتشويق إِلى سماع قصتهم، وكانوا سبعين ألفاً {فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} أي أماتهم الله ثم أحياهم، وهم قوم من بني إِسرائيل دعاهم ملكهم إِلى الجهاد فهربوا خوفاً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم بدعوة نبيهم "حزقيل" فعاشوا بعد ذلك دهراً، وقيل: هربوا من الطاعون فأماتهم الله قال ابن كثير: وفي هذه القصة عبرةٌ على أنه لا يغني حذرٌ من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إِلا إِليه {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي ذو إِنعام وإِحسان على الناس من حيث يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ما يبصّرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون الله على نعمه بل ينكرون ويجحدون .
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}أي قاتلوا الكفار لإِعلاء دين الله، لا لحظوظ النفس وأهوائها واعلموا أن الله سميع لأقوالكم، عليم بينّاتكم وأحوالكم فيجازيكم عليها، وكما أن الحذر لا يغني من القدر فكذلك الفرار من الجهاد لا يقرّب أجلاً ولا يبعده {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}أي من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله، ولإِعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافاً كثيرة؟ لأنه قرضٌ لأغنى الأغنياء ربّ العالمين جل جلاله وفي الحديث (من يقرض غير عديم ولا ظلوم){وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصطُ} أي يقتّر على من يشاء ويوسّع على من يشاء ابتلاءً وامتحاناً {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي ألم يصل خبر القوم إِليك؟وهو تعجيب وتشويق للسامع كما تقدم وكانوا من بني إِسرائيل وبعد وفاة موسى عليه السلام كما دلت عليه الآية {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}أي حين قالوا لنبيِّهم "شمعون" - وهو من نسل هارون أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَ تُقَاتِلُوا}أي قال لهم نبيّهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه .
{قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}أي أيُّ سببٍ لنا في ألاّ نقاتل عدونا وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال تعالى بياناً لما انطوت عليه نفوسهم من الهلع والجبن{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ}أي لما فرض عليهم القتال نكل أكثرهم عن الجهاد إِلا فئة قليلة منهم صبروا وثبتوا، وهم الذين عبروا النهر مع طالوت، قال القرطبي: وهذا شأن الأمم المتنعِّمة المائلة إِلى الدَّعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإِذا حضرت الحرب جُبنت وانقادت لطبعها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وعيدٌ لهم على ظلمهم بترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى .
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} أي أخبرهم نبيّهم بأنَّ الله تعالى قد ملَّك عليهم طالوت ليكونوا تحت إِمرته في تدبير أمر الحرب واختاره ليكون أميراً عليهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} أي قالوا معترضين على نبيّهم كيف يكون ملكاً علينا والحال أننا أحقُّ بالملك منه لأن فينا من هو من أولاد الملوك وهو مع هذا فقير لا مال له فكيف يكون علينا؟
{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}أي أجابهم نبيّهم على ذلك الاعتراض فقال: إِن الله اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، والعمدة في الاختيار أمران: العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، والأمر الثاني قوة البدن ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الشدائد، وقد خصّه الله تعالى منهما بحظ وافر قال ابن كثير: ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علمٍ، وشكلٍ حسن، وقوةٍ شديدة في بدنه ونفسه، {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}أي يعطي الملك لمن شاء من عباده من غير إِرثٍ أو مال {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل عليمٌ بمن هو أهل له فيعطيه إِياه.
أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت
ظل بنو إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السلام من غير ملك 356سنة، وتعرضوا في تلك الفترة لغزوات الأمم القريبة منهم كالعمالقة من العرب، وأهل مَدْيَن وفلسطين والآراميين وغيرهم، فمرة يَغْلبون وتارة يُغْلبون.
وفي أواسط المائة الرابعة أيام "عالي الكاهن" تحارب العبرانيون مع الفلسطينيين سكان أُشدود قرب غزة، فغلبهم الفلسطينيون، وأخذوا تابوت العهد منهم، وهو التابوت (الصندوق) الذي فيه التوراة أي الشريعة، فعزَّ عليهم ذلك، لأنهم كانوا يستنصرون به.
وكان من قضاة بني إسرائيل نبي اسمه صمويل، جاء إليه جماعة من أشرافهم وشيوخهم في بلدة الرامة، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم، يقودهم إلى قتال أعدائهم الذين أذلوهم وقهروهم زمناً طويلاً، فلم يقتنع بمطلبهم لما يعلمه من تخاذل نفوسهم، إن فرض عليهم القتال، فأجابوه بأن دواعي القتال موجودة: وهي إخراج الأعداء لهم من أوطانهم وأسرهم أبناءهم.
فجعل عليهم طالوت ملكاً، واسمه في سفر صمويل: شاول بن قيس، من سبط بنيامين، وكان شاباً جميلاً عالماً وأطول بني إسرائيل، فرضي به جماعة، ورفضه آخرون، لأنه ليس من سلالة الملوك، وهو راع فقير.
وحاول صمويل إقناعهم بكفاءة طالوت وجدارته للملك والسلطة، وحسن الاختيار، ورضا الله عنه، وأن الدليل المادي على ملكه هو عودة التابوت الذي أخذه منهم الفلسطينيون إليهم، وأن الملائكة تحمله إلى بيت طالوت تشريفاً وتكريماً له، فرضوا به.
قام طالوت بتكوين الجيش وجمع الجنود لمحاربة الفلسطينيين (العمالقة) بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلاً اختيار سبعين أو ثمانين ألفاً من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء.
ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيراً ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله.
وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شاباً صغيراً راعياً للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلاً، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حراً.
فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسداً أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته "ميكال" وجعله رئيس الجند.
إثبات ملك طالوت واختياره الأتباع، وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة
ولما طلبوا آية تدل على اصطفاء الله لطالوت أجابهم إِلى ذلك {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}أي علامة ملكه واصطفائه عليكم {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} أي يردَّ الله إِليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو كما قال الزمخشري: صندوق التوراة الذي كان موسى عليه السلام إِذا قاتل قدَّمه فكانت تسكن نفوس بني إِسرائيل ولا يفرون{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} أي في التابوت السكون والطمأنينة والوقار وفيه أيضاً بقية من آثار آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وثيابه وبعض الألواح التي كتبت فيها التوراة تحمله الملائكة قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن في نزول التابوت لعلامة واضحة أن الله اختاره ليكون ملكاً عليكم إِن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر .
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}أي خرج بالجيش وانفصل عن بيت المقدس وجاوزه وكانوا ثمانين ألفاً أخذ بهم في أرضٍ قفرة فأصابهم حر وعطشٌ شديد {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي مختبركم بنهر وهو نهر الشريعة المشهور بين الأردن وفلسطين {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي من شرب منه فلا يصحبني - وأراد بذلك أن يختبر إِرادتهم وطاعتهم قبل أن يخوض بهم غمار الحرب - {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}أي من لم يشرب منه ولم يذقه فإِنه من جندي الذين يقاتلون معي {إِلاَ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبلَّ عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك، فأذن لهم برشفةٍ من الماء تذهب بالعطش .
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي شرب الجيش منه إِلا فئة قليلة صبرت على العطش قال السدي: شرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقّى منه أربعة آلاف {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي لما اجتاز النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب ورأوا كثرة عدوهم اعتراهم الخوف فقال فريق منهم {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي لا قدرة لنا على قتال الأعداء مع قائد جيشهم جالوت فنحن قلة وهم كثرة كاثرة {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} أي قال الذين يعتقدون بلقاء الله وهم الصفوة الأخيار والعلماء الأبرار من أتباع طالوت {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} أي كثيراً ما غلبت الجماعة القليلة الجماعة الكثيرة بإِرادة الله ومشيئته، فليس النصر عن كثرة العدد وإِنما النصر من عند الله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي معهم بالحفظ والرعاية والتأييد ومن كان الله معه فهو منصور بحول الله .
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}أي ظهروا في الفضاء المتسع وجهاً لوجه أمام ذلك الجيش الجرار جيش جالوت المدرّب على الحروب {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} دعوا الله ضارعين إِليه بثلاث دعوات تفيد إِدراك أسباب النصر فقالوا أولاً: ربنا أفضْ علينا صبراً يعمنا في جمعنا وفي خاصة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي ثبتنا في ميدان الحرب ولا تجعل للفرار سبيلاً إِلى قلوبنا وهي الدعوة الثانية {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}أي انصرنا على من كفر بك وكذب رسلك وهم جالوت وجنوده وهي الدعوة الثالثة.
قال تعالى إِخباراً عن نتيجة هذه المعركة فقال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي هزموا جيش جالوت بنصر الله وتأييده إِجابةً لدعائهم وانكسر عدوهم رغم كثرته {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} أي وقتل داود - وكان في جيش المؤمنين مع طالوت - رأس الطغيان جالوت واندحر جيشه {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}أي أعطى الله تعالى داود الملك والنبوة وعلّمه ما يشاء من العلم النافع الذي أفاضه عليه قال ابن كثير: كان طالوت قد وعده إِن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إِلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} أي لولا أن يدفع الله شرّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة، لأن الشر إِن غلب كان الخراب والدمار {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}أي ذو تفضلٍ وإِنعام على البشر حيث لم يمكّن للشر من الاستعلاء.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}أي ما قصصنا عليك يا محمد من الأمور الغريبة والقصص العجيبة التي وقعت في بني إِسرائيل هي من آيات الله وأخباره المغيبة التي أوحاها إِليك بالحق بواسطة جبريل الأمين {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنك يا محمد لمن جملة الرسل الذين أرسلهم الله لتبليغ دعوة الله عز وجل.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي أولئك الرسل الكرام الذين قصصنا عليك من أنبائهم يا محمد هم رسل الله حقاً، وقد فضّلنا بعضهم على بعض في الرفعة والمنزلة والمراتب العالية {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}أي منهم من خصّه الله بالتكليم بلا واسطة كموسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}أي ومنهم من خصّه الله بالمرتبة الرفيعة السامية كخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وكأبي الأنبياء إِبراهيم الخليل {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}أي ومنهم من أعطاه الله المعجزات الباهرات كإِحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإِخبار عن المغيبات {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}أي قويناه بجبريل الأمين وهو عيسى بن مريم .
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاءوا بعد الرسل من بعد الحجج الباهرة والبراهين الساطعة التي جاءتهم بها رسلهم، فلو شاء الله ما تنازعوا ولا اختلفوا ولا تقاتلوا، ولجعلهم متفقين على اتباع الرسل كما أن الرسل متفقون على كلمة الحق {وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} أي ولكنَّ الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم، فمنهم من ثبت على الإِيمان ومنهم من حاد وكفر {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون ولكنّ الله حكيم يفعل ما فيه المصلحة، وكلُّ ذلك عن قضاء الله وقدره فهو الفعال لما يريد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}أي أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إِيّاه، ادفعوا الزكاة وأنفقوا في وجوه الخير والبر والصالحات {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} أي من قبل مجيء ذلك اليوم الرهيب الذي لا تستطيعون أن تفتدوا نفوسكم بمالٍ تقدمونه فيكون كالبيع، ولا تجدون صديقاً يدفع عنكم العذاب، ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إِلا أن يأذن الله رب العالمين {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي لا أحد أظلم ممن وافى الله يؤمئذٍ كافراً، والكافر بالله هو الظالم المعتدي الذي يستحق العقاب.
{اللهُ لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}أي هو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ذو الحياة الكاملة، الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شؤون الخلق بالرعاية والحفظ والتدبير {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أي لا يأخذه نعاسٌ ولا نوم كما ورد في الحديث (إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه).
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} أي لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى، قال ابن كثير: وهذا بيانٌ لعظمته وجلاله وكبريائه بحيث لا يتجاسر أحد على الشفاعة إِلا بإِذن المولى.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما هو حاضر مشاهد لهم وهو الدنيا وما خلفهم أي أمامهم وهو الآخرة فقد أحاط علمه بالكائنات والعوالم {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاءَ} أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته إِلا بما أعلمهم إِياه على ألسنة الرسل {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أحاط كرسيّه بالسماوات والأرض لبسطته وسعته، والسماواتُ السبع والأرضون بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاة، وروي عن ابن عباس {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال: علمه بدلالة قوله تعالى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] فأخبر أن علمه وسع كل شيء، وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش، قال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.
{وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما وهو العلي فوق خلقه ذو العظمة والجلال كقوله {وهو الكبير المتعال}.
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}أي لا إِجبار ولا إِكراه لأحد على الدخول في دين الإِسلام، فقد بان ووضح الحق من الباطل والهدى من الضلال {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي من كفر بما يعبد من غير الله كالشيطان والأوثان وآمن بالله فقد تمسك من الدين بأقوى سبب {لا انفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع لها ولا زوال {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم .
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ منْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم، يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين يخرجونهم مننور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً