الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه رواه الترمذي وغيره هكذا.
هذا الحديث خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية الأوزاعي عن قرة بن
عبدالرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهم وقال الترمذي غريب وقد
حسنه الشيخ المصنف رحمه الله لأن رجال إسناده ثقات وقرة بن عبدالرحمن بن حيوة وثقة
قوم وضعفه آخرون وقال ابن عبدالبر هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من
رواية الثقات وهذا موافق لتحسين الشيخ له رضي الله عنه وأما أكثر الأئمة فقالوا ليس
هو محفوظًا بهذا الإسناد إنما هو محفوظ عن الزهري عن على بن حسين عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلًا كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطأ ويونس ومعمر
وإبراهيم ابن سعد إلا أنه قال من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه وممن قال إنه لا يصح
إلا عن على بن حسين مرسلًا الإمام أحمد ويحيي بن معين والبخاري والدارقطني.
وقد خلط الضعف في إسناده عن الزهري تخليطا فاحشا والصحيح فيه المرسل
ورواه عبدالله بن عمرو العمري عن الزهري عن على بن حسين عن أبيه عن النبي صلى الله
عليه وسلم فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي وخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا
الوجه والعمري ليس بالحافظ.
وخرجه أيضًا من وجه آخر عن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم
وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه أيضًا وقال لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكلها ضعيفة وهذا الحديث أصل عظيم
من أصول الأدب وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام
المالكية في زمانه أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي
صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.
وقوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه،
وقوله صلى الله عليه وسلم الذي اختصر له في الوصية لا تغضب، وقوله صلى الله عليه
وسلم المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ومعنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا
يعنيه من قول وفعل واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ومعنى يعنيه أن تتعلق
عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه والعناية شدة الاهتمام بالشيء يقال عناه يعنيه
إذا اهتم به وطلبه وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى
وطلب النفس بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام فإذا حسن إسلام المرء
ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات
كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه
ترك المحرمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده وإذا حسن اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات أو المشتبهات والمكروهات وفضول
المباحات التي لا يحتاج إليها فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى
درجة الإحسان وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه فمن
عبدالله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه
فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه
فيه فإنه يتولى من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى
صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يستحيى من الله كما يستحيى من رجل من صالحي عشيرته لا
يفارقه.
وفي المسند من حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من
حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه.
وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتى النبي صلى
الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم قال له مرهم
بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم.
وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا
على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر
فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن
لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو حرفة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل
أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه
إلا فيما يعنيه.
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا
فيما يعنيه وهو كما قال فإن كثيرًا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا
يتحري وقد خفي هذا على معاذ بن جبل رضي الله عنه حتى سأل عنه صلى الله عليه وسلم
فقال أنؤاخذ بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في
النار إلا حصائد ألسنتهم وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم
فقال لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس
النساء.
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر
الله عز وجل.
وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال توفى رجل من أصحابه يعني
النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث
من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها أنه قتل شهيدًا.
وخرج أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث شهاب بن مالك، وكان وفد
على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة يا
رسول الله ألا تسلم علينا فقال إنك من قبيل يقللن الكثير ومنعها ما لا يغنيها
وسؤالها عما لا يعنيها.
وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أكثر الناس
ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه.
قال عمرو بن قيس الملائي مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له ألست
عبد بني فلان قال بلى قال الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا قال بلى فقال فما بلغ بك
ما أرى قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني.
وقال وهب بن منبه كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن
مشيا على الماء فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء فقالا له
يا عبدالله بأي شيء أدركت هذه المنزلة قال بيسير من الدنيا فطمت نفسي عن الشهوات
وكففت لساني عما لا يعنيني ورغبت فيما دعاني إليه ربي ولزمت الصمت فإن أقسمت على
الله أبر قسمي وإن سألته أعطاني ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه
عن سبب تهلل وجهه فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني،
وكان قلبي سليمًا للمسلمين.
وقال مورق العجلي أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه
ولست بتارك طلبه أبدًا قالوا وما هو قال الكف عما لا يعنيني رواهما ابن أبي
الدنيا.
وروى أسد بن موسى قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل
عبدالله بن سلام فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له أخبرنا بأوثق عملك في نفسك قال إن
عملي لضعيف وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني.
وروى أبو عبيدة عن الحسن قال من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن
يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل.
وقال سهل بن عبدالله التستري من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق وقال
معروف كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل وهذا الحديث يدل على أن ترك
ما لا يعني المرء من حسن إسلامه فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل
حسن إسلامه وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته
والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها
تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل
فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لا بد منه والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام
وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب
وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة ويشهد لذلك ما روى عطية عن ابن عمر
رضي الله عنه قال نزلت
{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
الأنعام في الأعراب قيل له فما للمهاجرين قال ما هو أكثر ثم تلا قوله تعالى
{وَإِن تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء.
وخرج النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا
أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ومحيت عنه كل سيئة كان
أزلفها ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها
إلا أن يتجاوز الله وفي رواية أخرى.
وقيل له استأنف العمل والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها ما
سبق منه قبل الإسلام وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم ويمحي عنه
سيئاته إذا أسلم لكن بشرط أن يحسن إسلامه ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه.
ولكن قد أجيب عن هذا بأن التائب يوقف على سيئاته ثم تبدل حسنات.
قال أبو عثمان النهدي إن المؤمن يؤتي كتابه في ستر من الله عز وجل
فيقرأ سيئاته فإذا قرأ تغير لها لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ثم
ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات فعند ذلك يقول هاؤم اقرءوا كتابيه الحاقة.
ورواه بعضهم عن أبي عثمان عن ابن مسعود وقال بعضهم عن أبي عثمان عن
سلمان.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني
لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم
القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه
فيقال له علمت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا
يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة
حسنة فيقول يا رب وقد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه
بالنار ففي حق من محيت سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولي لأن محوها بذلك أحب إلى
الله من محوها بالعقاب.
وخرج الحاكم من طريق الفضل بن موسى عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمنين أقوام أنهم
أكثروا من السيئات قالوا بم يا رسول الله قال الذين بدل الله سيئاتهم حسنات وخرجه
ابن أبي حاتم من طريق سلمان بن داود الزهري عن أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة
موقوفا وهو أشبه من المرفوع ويروي مثل هذا عن الحسن البصري أيضًا ويخالف قوله
المشهور إن التبديل في الدنيا وأما ما ذكره الحربي في التبديل وأن من قلت سيئاته
يزاد في حسناته ومن كثرت سيئاته يقل من حسناته فحديث أبي ذر صريح في رد هذا وأنه
يعطى مكان كل سيئة حسنة وأما قوله يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالًا
ممن قلت سيئاته فيقال إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته وجعلها نصب عينيه فكلما
ذكرها ازداد خوفا ووجلا وحياء من الله ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال
تعالى
{إِلاَّ
مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} الفرقان وما ذكرناه
كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على
ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها ويصير كل ذنب من ذنوبه سببًا للأعمال
الصالحة ماحية له فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات.
وقد وردت أحاديث صريحة في أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه تبدلت
سيئاته في الشرك حسنات فخرج الطبراني من حديث عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبي
فروة شطب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها ولم
يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة فقال أسلمت فقال نعم قال فافعل الخيرات واترك
السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها قال وغدراتى وفجراتى قال نعم قال فما زال يكبر
حتى تواري وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن أبي نفيل عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
وخرج ابن أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلا.
وخرج البزار الحديث الأول وعنده عن أبي طويل أنه أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فذكره بمعناه وكذا خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه وذكر أن الصواب عن
عبدالرحمن بن جبير بن نفير مرسلًا أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم طوي شطب
والشطب في اللغة الممدود فصحفه بعض الرواة وظنه اسم رجل.