7- المأمون
ترجمته:
هو عبد اللَّه المأمون بن هارون الرشيد بن محمد
المهدي. وأمه أم ولد اسمها مراجل ولد سنة170 في اليوم
الذي ولي فيه أبوه الخلافة. وولاه أبوه العهد وسنه13سنة بعد أخيه الأمين
وضمه إلى جعفر بن يحيى وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ومنحه بمقتضى الشروط
التي عقدها استقلالاً يكاد يكون تاماً، ولما توفي أبوه لم يف له أخوه بعهده بل أراد
أن يقدم عليه في ولاية العهد ابنه موسى فأبى ذلك المأمون.
لما تم الأمر للمأمون بالعراق على يد القائدين العظيمين
طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين كان الذي يدير الأمر بمرو الفضل بن سهل الذي يرى
لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون فأراد أن يستفيد من هذه الدولة فيستأثر
بنفوذ الكلمة فيها وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة فأصدر أمرين على
لسان المأمون أولهما بتولية الحسن بن سهل جميع ما افتتحه طاهر من كور الجبال وفارس
والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن. وكتب
إلى طاهر أن يسلمه جميع ما بيده من الأعمال وأن يشخص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث
وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب فلم يسع طاهراً إلا أن يسمع ويطيع فسلم ذلك
كله.
والأمر الثاني إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان فشخص
وبذلك خلا العراق من أسديه وأهل العراق من قديم عبيد القوة ولا سيما أنهم خارجون من
ثورة وهيجان فكان من اللازم أن تظل تلك الأيدي المرهوبة حتى يستكين الناس
ويخضعوا.
ولم يبق المأمون بعد ذلك بخراسان. هل كان
الفضل بن سهل يريد أن يحول الخلافة الإسلامية إلى مرو فيجعلها حاضرة البلاد
الإسلامية أو رأى أن نفوذه يضعف إذا حل الخليفة بغداد وبها الألسنة التي لا تمل
الوشايات فخشي من ذلك على مركزه سواء كان السبب في تخلفه هذا أو ذاك فقد نتج عن هذا
التدبير مضار شديدة واضطرابات كادت ترجع ملك المأمون أثراً بعد عين؟
شاع بالعراق بعد خروج طاهر وولاية الحسن بن سهل أن الفضل بن
سهل قد غلب على المأمون وأنزله قصراً حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده وأنه يبرم
الأمور على هواه فغضب لذلك من كان بالعراق من بني هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة
الفضل على المأمون واستخفوا بالحسن بن سهل وهاجت الفتن في الأمصار وأول فتنة كانت
خروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي خرج بالكوفة
وقام بأمر رجل كبير من رجال هرثمة بن أعين وهو أبو السرايا السري بن منصور الشيباني
فاستولى على الكوفة من يد نائب عاملها سليمان بن أبي جعفر المنصور فأرسل إليه الحسن
بن سهل جيشاً يقوده زهير بن المسيب عشرة آلاف فهزمه أبو السرايا واستباح عسكره وأخذ
ما كان معه من مال وسلاح ودواب وفي غد ذلك اليوم مات محمد بن إبراهيم فجأة وذلك يوم
الخميس أول رجب سنة199 فولى أبو السرايا بدله غلاماً أمرد حدثاً وهو محمد بن محمد
بن زيد بن علي بن الحسين بن علي وكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور ويولي من رأى
ويعزل من شاء وإليه الأمور كلها.
أرسل الحسن جيشاً ثانياً بقيادة عبدوس بن محمد بن أبي خالد
المروروذي فتوجه إليه أبو السرايا وأوقع به وقعة في17 رجب سنة199 فقتله وأسر أخاه
هارون واستباح عسكره وكانوا نحو أربعة آلاف رجل فلم يفلت منهم أحد.
انتشر بعد ذلك الطالبيون في البلاد وضرب أبو السرايا
الدراهم بالكوفة ونقش عليها {إن اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم
بنيان مرصوص}.
وكان للطالبيين في تلك الفتن أسوأ أثر بمكة والمدينة فإن
أبا السرايا كان قد ولي مكة حسين بن حسن بن علي بن الحسين بن علي وكان بها داود بن
عيسى بن موسى العباسي والياً فلم يرض القتال في الحرم وخرج عن مكة فدخلها الحسين
قبل مغرب يوم عرفة ولما تفرق الحاج من مكة جلس خلف المقام على نمرقة مثنية فأمر
بثياب الكعبة التي عليها فجردت حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئاً ثم كساها ثوبين من
خز رقيق كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما أمر به الأصفر بن أبي الأصفر
أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت اللَّه الحرام وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من
ولد العباس ليطهر من كسوتهم وكتب سنة199 ثم قسم الكسوة التي كانت على الكعبة بين
أصحابه وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بوديعة عند أحد لبني
العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره فإن وجد من ذلك شيئاً أخذه وعاقب الرجل وإن
لم يجد عنده شيئاً حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله ويقر عنده الشهود أن ذلك
للمسودة من بني العباس وأتباعهم حتى عم ذلك خلقاً كثيراً وكان لهم دار اسمها دار
العذاب يعذب فيها الناس حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم فيتبعوهم بهدم دورهم
وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رؤوس أساطين المسجد فيخرج من الأسطوانة بعد
التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام وقلعوا
الحديد الذي على شبابيك زمزم وخشب الساج فبيع بالثمن الخسيس.
انتهت هذه الفتن العلوية التي عادت بالضرر على البلاد
والعباد والفضل في انتهاء أمرها لهرثمة بن أعين القائد المحنك. ولما
فرغ هرثمة من أداء تلك المهمة أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة
الحال وما ينكره الناس عليه من استبداد الفضل بن سهل على أمره ولم يكن مما يروق في
عين الفضل فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد وأنه هو الذي دس إلى أبي السرايا
حتى صنع ما صنع ولو شاء أن لا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعل لأنه كان من ضمن جنوده.
وكان المأمون قد كتب لهرثمة كتاباً من الطريق ليرجع ويلي الشام والحجاز فأبى هرثمة
أن يرجع حتى يرى أمير المؤمنين ويبين له حقيقة الحال فكان ذلك مما زاد المأمون وحشة
منه. ولما بلغ هرثمة مرو خشي أن يكتم المأمون خبر قدومه فضرب الطبول كي يسمعها
المأمون فلما سمعها سأل فقالوا هرثمة جاء يبرق ويرعد وظن هرثمة أن قوله المقبول
فأدخل على المأمون وقد أشرب قلبه منه ما أشرب فلم يسمع منه كلمة وأمر به فوجىء عنقه
وديس بطنه وسحب بين يديه وقد تقدم الفضل إلى الأعوان بالتغليظ عليه والتشديد فمكث
في حبسه أياماً ثم دسوا إليه فقتلوه وقالوا إنه مات. هكذا ذهب القائد العظيم من غير
جناية ضحية خبث البطانة.
ومما كان في تلك الآونة أن المأمون اختار لولاية عهده عليّ
الرضا بن موسى بن جعفر الصادق وهو الثامن من أئمة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية
وسماه الرضا من آل محمد وأمر جنده بطرح السواد شعار العباسيين ولبس ثياب الخضرة
الذي اختاره شعاراً للدولة الجديدة وكتب بذلك إلى الآفاق ويغلب على الظن أن هذا من
عمل الفضل بن سهل لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علوياً وطالما قاتلوا في
سبيل رجوع السلطان إلى بني علي وهذه فرصة يأخذون فيها الخلافة من غير حرب ولا قتال
وساعد على ذلك ما كان يراه المأمون نفسه من تفضيل عليّ على غيره من الخلفاء
الراشدين وأنه كان أحق بالخلافة منهم ولا نرى ذلك جاء المأمون إلا من البيئة التي
تربى فيها فإنه كان في أول أمره في حجر جعفر البرمكي ثم انتقل إلى الفضل بن سهل
وكلهم ممن يتشيع فاختمرت عنده هذه الفكرة على غير ما كان عليه آباؤه.
بلغ ذلك أهل بغداد فاختلفوا فقال بعضهم نبايع ونلبس الخضرة
وقال بعضهم لا نبايع ولا نلبس الخضرة ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس وإنما هذا
دسيس من الفضل بن سهل فمكثوا على ذلك أياماً وغضب ولد العباس من ذلك واجتمع بعضهم
إلى بعض وتكلموا فيه وقالوا نولي بعضنا ونخلع المأمون واتفقوا أخيراً على مبايعة
إبراهيم المهدي عم المأمون بالخلافة وخلعوا المأمون وكان ذلك في أول المحرم
سنة202.
بلغت هذه الأحوال المأمون ويقال إن الذي أبلغه إياها عليّ
الرضا ولي عهده فإنه أخبره بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه وبما كان
الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار وأن أهل بيته قد نقموا عليه أشياء فبايعوا
لإبراهيم بن المهدي بالخلافة فقال له المأمون: إنما بايعوه ليكون أميراً لهم يقوم
بأمرهم على ما أخبره به الفضل فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه وأن الحرب قائمة بين
إبراهيم بن المهدي والحسن بن سهل وأن الناس ينقمون عليه مكانه ومكان أخيه ومكاني
ومكان بيعتك لي من بعدك وسمى له عدة من القواد يشهدون بما قال فأحضرهم المأمون
وسألهم فأخبروه بالخبر على وجهه بعد أن أعطاهم أماناً من الفضل بن سهل وأخبروه بما
موّه عليه الفضل في أمر هرثمة وأن هرثمة إنما جاء ناصحاً ليبين له ما يعمل وأنه إن
لم يتدارك الأمر خرجت الخلافة منه ومن أهل بيتته وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله
وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله
وصير في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده
وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترىء به على
الحسن بن سهل وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد فإن
بني هاشم والموالي والقواد والجنود لو رأوك سكنوا وفاءوا بالطاعة لك.
لما تحقق ذلك المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد ولم يسلم هؤلاء
القواد من شر الفضل بل عاقبهم بالحبس والطرد فراح عليّ الرضا إلى المأمون وأعلمه
بما كان من ضمانه لهم فأعلمه أنه يداري ما هو فيه.
ارتحل المأمون من مرو حتى سرخس وهناك شد قوم على الفضل بن
سهل وهو في الحمام فضربوه بسيوفهم حتى مات وذلك في2 شعبان سنة202 فأخذ ضاربوه وهم
أربعة من خدم المأمون فلما جيء بهم إليه قالوا أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت
أعناقهم. وسوابق العلة تؤكد أن صدورها كان بتدبير المأمون
لأنه أحسّ بثقل يد الفضل عليه وبما كان من غشه له وأنه ما دام معه لا يرى من أهل
بغداد طاعة فاحتال بهؤلاء الخدم ثم قتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل وعزاه
وأخبره أنه صيره مكانه.
رحل المأمون من سرخس يوم عيد الفطر وكان هذا الرحيل سبباً
لاختلاف القواد ببغداد على إبراهيم بن المهدي لأن السبب الذي من أجله خلعوا المأمون
قد زال فاضطرب أمر إبراهيم ببغداد.
لما صار المأمون بطوس حدثت حادثة أخرى وهي وفاة علي الرضا
ويتهمون المأمون بأنه سمه وليس عندنا من البراهين ما يؤكد هذه التهمة لأنه بقدر ما
يقربها إرادة المأمون التقرب إلى أهل بغداد والعباسيين بالتخلص منه يبعدها ما كان
مغروساً في نفس المأمون من محبة آل أبي طالب وأنه صاهر علياً وأن علياً هو الذي
أظهر له حقيقة ما كان يدور بالعراق من الفتن ولا يبعد عندي أنه من فعل بعض البطانة
المأمونية ليخففوا عن المأمون اضطراب العباسيين ويخلصوا مما يعتقدونه شراً وهو خروج
الخلافة من آل العباس. وهناك كتب المأمون إلى بني العباس والموالي وأهل
بغداد يعلمهم موت علي بن موسى.
رحل المأمون من طوس إلى الري وهناك تحبب إلى أهلها بإسقاط
ألفي ألف درهم من خراجها. وكان كلما قرب من بغداد زاد الاضطراب على
إبراهيم بن المهدي وقام القواد في وجهه حتى كتبوا إلى قائد من قواد الحسن بن سهل
يطلبون إليه الحضور ليسلموا إليه بغداد فلم يلبث أن حضر وسلم له جند بغداد المدينة
وأعلن خلع إبراهيم بن المهدي والدعوة للمأمون فاختفى إبراهيم ليلة الأربعاء 17ذي
الحجة سنة203 فكانت أيامه كلها ببغداد سنة واحدة وأحد عشر شهراً وأثني عشر
يوماً.
ما زال المأمون ينتقل من منزلة إلى منزلة حتى وصل النهروان
وهناك خرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس فسلموا عليه ووافاه طاهر بن الحسين من
الرقة لأنه أمره بذلك وفي يوم السبت لأربع عشر بقيت من صفر سنة204 دخل مدينة بغداد
في لباسه ولباس أهله الخضرة أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم فلبس ذلك أهل بغداد وبنو
هاشم أجمعون. ومكثوا على ذلك ثمانية أيام فتكلم في ذلك بنو
هاشم وولده العباس خاصة وقالوا يا أمير المؤمنين تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتك
ولبست الخضرة وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان وسأله طاهر بن الحسين أن يرجع إلى
لبس السواد فلما رأى المأمون طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها قعد لهم
وعليه ثياب خضر فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهراً
ثم دعا بعدة من قواده فألبسهم أقبية وقلانس سوداً فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد
طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة ولبسوا السواد وابتدأ من ذلك الوقت ملك المأمون
الحقيقي.