الأعذار المبيحة للفطر ومفطرات الصائم، وفيه مسألتان:
المسألة
الأولى: الأعذار المبيحة للفطر في رمضان:
يباح
الفطر في رمضان لأحد الأعذار التالية:
الأول: المرض والكبر، فيجوز للمريض الذي
يُرجى برؤه الفطرُ، فإذا برئ وجب عليه قضاء الأيام التي أفطرها؛ لقوله تعالى:
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]، وقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185].
والمرض الذي يرخص معه في الفطر
هو المرض الذي يشق على المريض الصيام بسببه.
أما المريض الذي لا يرجى برؤه، أو
العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالكبير: فإنه يفطر، ولا يجب عليه القضاء، وإنما
تلزمه فدية، بأن يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ لأن الله -عز وجل- جعل الإطعام معادلاً
للصيام حين كان التخيير بينهما في أول ما فرض الصيام، فتعيَّن أن يكون بدلاً عنه
عند العذر.
يقول الإمام البخاري -رحمه الله-: "وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق
الصيام، فقد أطعم أنس بعدما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً. وقال ابن عباس
رضي الله عنهما في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما: فليطعما
مكان كل يوم مسكيناً". (1)
فيطعم العاجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله، بمرض
كان أو كبر، عن كل
يوم مسكيناً نصف صاع من بر، أو تمر، أو أرز، أو نحوها من قوت
البلد، ومقدار
الصاع كيلوان وربع تقريباً (2.25) فيكون الإطعام عن كل يوم: كيلو
جرام ومائة وخمسة وعشرين جراماً (1125 جرام) تقريباً.
__________
(1) صحيح
البخاري برقم (4505)، كتاب الصيام.
هذا
وإن صام المريض صح صيامه وأجزأه.
الثاني: السفر؛ فيباح للمسافر الفطر في رمضان،
ويجب عليه القضاء؛ لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]. وقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185].
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عن الصيام في السفر: (إن شئت فصم، وان شئت فأفطر)
(1). وخرج إلى مكة صائماً في رمضان، فلما بلغ الكَدِيد أفطر، فأفطر الناس
(2).
ويباح الفطر في السفر الطويل الذي يباح فيه قصر الصلاة (3)، وهو ما يقدر
بثمانية وأربعين ميلاً، أي: حوالي ثمانين كيلو متراً.
والسفر المبيح للفطر في
رمضان هو السفر المباح، فإن كان سفر معصية أو سفراً يُراد به التحايل على الفطر، لم
يبح له الفطر بهذا السفر.
وإن صام المسافر صَحَّ صومه وأجزأه، لحديث أنس - رضي
الله عنه -: (كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يعب
الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) (4). ولكن بشرط ألا يشق عليه الصوم في
السفر، فإن شقَّ عليه، أو أضَرَّ به، فالفطر في حقه أفضل؛ أخذاً بالرخصة؛ لأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في السفر رجلاً صائماً قد ظُلِّلَ عليه
من شدة الحر، وتجمع الناس حوله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس
من البرِّ الصيام في السفر) (5).
الثالث: الحيض والنفاس، فالمرأة التي أتاها
الحيض أو النفاس تفطر في رمضان وجوباً، ويحرم عليها الصوم، ولو صامت لم يصح منها؛
لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟
__________
(1) صحيح
البخاري برقم (1943).
(2) أخرجه البخاري برقم (1944).
(3) انظر: المغني
(3/34).
(4) أخرجه البخاري برقم (1947).
(5) رواه البخاري برقم
(1946).
فذلك
من نقصان دينها) (1).
ويجب عليهما القضاء؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كان يصيبنا
ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (2)
الرابع: الحمل والرضاع؛
فالمرأة إذا كانت حاملاً أو مرضعاً، وخافت على نفسها أو ولدها بسبب الصوم جاز لها
الفطر، لما رواه أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، وعن الحبلى
والمرضع الصوم) (3)، وتقضي الحامل والمرضع مكان الأيام التي أفطرتاها، وذلك إن
خافتا على نفسيهما، فإن خافت الحامل مع ذلك على جنينها، أو المرضع على رضيعها؛
أطعمت مع القضاء عن كل يوم مسكيناً؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (والمرضع
والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا، وأطعمتا) (4).
فتلخَّص من ذلك أن
الأسباب المبيحة للفطر أربعة: السفر، والمرض، والحيض والنفاس، والخوف من الهلاك،
كما في الحامل والمرضع.
المسألة
الثانية: مفطرات الصائم:
وهي
الأشياء التي تفسد على الصائم صومه وتفطره. ويفطر الصائم بفعل أحد الأمور
التالية:
الأول: الأكل أو الشرب عمداً؛ لقولى تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187].
فقد بينت
الآية أنه لا يباح للصائم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر حتى الليل -غروب الشمس-. أما
من أكل أو شرب ناسياً فصيامه صحيح، ويجب
__________
(1) رواه البخاري برقم
(304).
(2) رواه مسلم برقم (335).
(3) رواه الترمذي برقم (715) وحسنه،
والنسائي (2/103)، وابن ماجه برقم (1667)، وحسَّنه الألباني (صحيح سنن النسائي برقم
2145).
(4) أخرجه أبو داود برقم (2317، 2318) وصححه الألباني في الإرواء
(4/25.18) وروي مثله عن ابن عمر أيضاً.
عليه
الإمساك إذا تذكَّر، أو ذكر أنه صائم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)
(1).
ويفسد الصوم بالسَّعُوط (2)، وبكل ما يصل إلى الجوف، ولو من غير الفم مما
هو في حكم الأكل والشرب كالإبر المغذية.
الثاني: الجماع، يبطل الصيام بالجماع،
فمَنْ جامع وهو صائم بطل صيامه، وعليه التوبة والاستغفار، وقضاء اليوم الذي جامع
فيه، وعليه مع القضاء كفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم
يستطع أطعم ستين مسكيناً، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس
عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هلكت، فقال: (مالك؟)، قال: وقعت على امرأتي
وأنا صائم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل تجد رقبة
تعتقها؟)، قال: لا. قال: (هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)، قال: لا، قال: (هل
تجد إطعام ستين مسكيناً؟)، قال: لا، قال: فمكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فبينما نحن على ذلك أُتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِعَرَق فيه تمر -والعَرَقُ المكتل- قال: (أين السائل؟)، فقال: أنا، قال: (خذ هذا
فتصدق به)، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيْها
-يريد الحرَّتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه، ثم قال: (أطعمه أهلك) (3).
وفي معنى الجماع: إنزال
المني اختيارا؛ فإذا أنزل الصائم مختاراً بتقبيل، أو لمس، أو استمناء، أو غير ذلك
فسد صومه؛ لأن ذلك من الشهوة التي تناقض الصوم، وعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن
الكفارة لا تلزم إلا بالجماع فقط، لورود النص خاصاً به.
أما إذا نام الصائم
فاحتلم، أو أنزل من غير شهوة كمن به مرض، فلا يبطل صيامه؛ لأنه لا اختيار له في
ذلك.
__________
(1) رواه البخاري برقم (1933)، ومسلم برقم (1155) من حديث
أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) وهو دواء يُصَبُّ في الأنف.
(3) رواه
البخاري برقم (1936)، ومسلم برقم (1111).
الثالث:
التقيؤ عمداً، وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم عمداً، أما إذا
غلبه القيء وخرج منه بغير اختياره، فلا يؤثر في صيامه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من ذَرَعَهُ (1) القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً
فليقض) (2).
الرابع: الحجامة، وهي إخراج الدم من الجلد دون العروق، فمتى احتجم
الصائم فقد أفسد صومه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أفطر الحاجم
والمحجوم) (3)، وكذا يفسد صوم الحاجم أيضاً، إلا إذا حجمه بآلات منفصلة، ولم يحتج
إلى مص الدم، فإنه -والله أعلم- لا يفطر.
وفي معنى الحجامة: إخراج الدم بالفَصْد
(4)، وإخراجه من أجل التبرع به.
أما خروج الدم بالجرح، أو قلع الضرس، أو الرعاف
فلا يضر؛ لأنه ليس بحجامة، ولا في معناها.
الخامس: خروج دم الحيض والنفاس، فمتى
رأت المرأة دم الحيض أو النفاس أفطرت، ووجب عليها القضاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المرأة: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ، ولم تصم)
(5).
السادس: نية الفطر، فمن نوى الفطر قبل وقت الإفطار وهو صائم، بطل صومه، وإن
لم يتناول مفطراً، فإن النية أحد ركني الصيام، فإذا نقضها قاصداً الفطر، ومتعمداً
له، انتقض صيامه.
السابع: الرِّدة، لمنافاتها للعبادة، ولقوله تعالى: (لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65].
__________
(1) أي: سبقه
وغلبه في الخروج.
(2) رواه أبو داود برقم (2380)، والترمذي برقم (720)، وابن
ماجه برقم (1676)، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 1368).
(3) رواه أبو داود
برقم (2367)، وابن خزيمة برقم (1983)، وصحح الألباني إسناده (التعليق على ابن خزيمة
3/236).
(4) الفصد: شق العِرْق.
(5) رواه البخاري برقم
(304).