وهذا نوع آخر من التخييل، وهو
يرجع إلي ما مضى من تناسي التَّشبيه وصرف النفس عن توهُّمه، إلا أنَّ ما مضى
مُعلَّل، وهذا غير معلّل، بيان ذلك أنهم يستعيرون الصِّفة المحسوسة من صفات الأشخاص
للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على
حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة والقياس لم يجرِ منهم على بال ولم يرَوْه ولا طيفَ
خَيال. ومثالُه استعارتُهم العلوَّ لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر
والسلطان، ثم وَضْعُهم الكلام وضعَ من يذكر علُواً من طريق المكان، ألا ترى إلى قول
أبي تمام: ويَصْعَدُ
حَتَّى يظُنَّ الجَهولُ بأنّ لَهُ حاجةً
في السماءِ
فلولا قصده أن يُنْسِيَ
الشبيه ويرفعَه بجهده، ويُصمِّم على إنكاره وجَحْده، فيجعله صاعداً في السماء من
حيث المسافة المكانية، لمَا كان لهذا الكلام وجهٌ. ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى
قول ابن الرومي: أعْلَمُ الناسِ
بالنجومِ بَنُـو نُـو بَخْتَ عِلماً
لم يَأْتهم بالحِسـابِ
بَلْ بَأنْ
شاهدُوا السَّماءَ سُمُـوّاً بِتَرَقٍّ في
المكرماتِ الصِّعابِ
مبلغٌ لم يكُنْ
ليبلُغَـه الـطـا لِبُ إلاّ
بتِلـكُـمُ الأسْـبـابِ
وأعاده في موضع آخر، فزاد
الدعوى قُوَّةً، ومرّ فيها مرورَ من يقول صِدقاً ويذكر حقّاً:
يا آل نُوبَخْتَ
لا عَدِمتُـكُـم ولا تَبدَّلْتُ
بعـدكـم بَـدَلاََ
إن صَحَّ علمُ
النجوم كان لكم حقًّاٍ إذا ما
سواكُمُ انتحـلاَ
كَمْ عالمٍ
فيكُم وَلَـيْس بـأنْ قاس ولكن بأن
رَقِي فَعَلاَ
أعلاكُمُ في
السماء مَجدُكـمُ فلستمُ تَجْهلون
مَا جُـهِـلاَ
شافَهْتُم
البدرَ بالسُّؤال عن ال أَمْرِ إلى أن
بلغتُـمُ زُحَـلاَ
وهكذا الحكم إذا استعاروا
اسمَ الشيء بعينه من نحو شمس أو بدر أو بحر أو أسد، فإنهم يبلغون به هذا الحدّ،
ويصوغون الكلام صياغاتٍ تقضي بأن لا تشبيه هناك ولا استعارة، مثاله قوله:
قامت تظلِّلني
من الشمس نفسٌ أعزُّ
عليَّ من نَفْسِي
قامت تظلِّلني
ومن عَجَبٍ شمسٌ تُظَلِّلني
من الشَّمس
ِفلولا أنه أنْسَى نفسَهُ أن
هاهنا استعارةً ومجازاً من القول، وعَمِلَ على دعوى شمس على الحقيقة، لما كان لهذا
التعجّب معنًى، فليس ببِدْعٍ ولا مُنكَر أن يظلِّلَ إنسانٌ حسن الوجه إنساناً
ويَقِيه وَهَجاً بشخصه. وهكذا قول البحتري: طَلَعْتَ لهم
وَقْتَ الشُّروق فعَـايَنُـوا سَنَا الشّمسِ
من أُفْقٍ ووَجْهَك من أُفْقِ
وما عَاينُوا
شمسين قبلهما الْـتَـقَـى ضياؤُهما
وَفْقاً من الغَرْب الشَّـرْقِ
معلوم أن القصد أن يُخرج
السامعين إلى التعجّب لرؤية ما لم يروه قط، ولم تَجْرِ العادة به، ولم يتمَّ
للتعجُّب معناه الذي عناه، ولا تظهر صورته على وصفها الخاصّ، حتى يجترئ على
الدَّعوى جُرْأةَ من لا يتوقف ولا يَخشى إنكارَ مُنْكرٍ، ولا يَحْفِل بتكذيب الظاهر
له، ويسُوم النفس، شاءَت أمْ أَبَتْ، تصوُّرَ شَمْسٍ ثانية طلعت من حيث تغرب الشمس،
فالتقتَا وَفْقاً، وصار غرْب تلك القديمة لهذه المتجددةِ شرقاً. ومدارُ هذا النوع
في الغالب على التعجُّب، وهو والي أمره، وصانع سِحْره، وصاحب سرّه، وتراه أبداً وقد
أفضى بك إلى خِلابةٍ لم تكن عندك، وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك، ألا ترى أن
صورة قوله شمس تظللني من الشمس، غير صورة قوله وما عاينوا شمسين، وإن اتَّفق
الشعران في أنهما يتعجّبان من وجود الشيء على خلاف ما يُعقَل ويُعرَف. وهكذا قول
المتنبي: كَبَّرتُ حَوْلَ
دِيارهم لـمّـا بَـدَت منها الشُّموسُ
وليسَ فيها المشرقُ
له صورةٌ غير صورة الأوَّلين.
وكذا قوله: ولم أَر قَبْلي
مَنْ مَشَى البدرُ نحوهُ ولا رَجُلاً
قَامت تُعانقُه الأُسْـدُ
يعرض صورة غير تلك الصُّوَر
كلها، والاشتراك بينها عامّيٌّ لا يدخل في السَّرِقة، إذ لا اتِّفاق بأكثر من أن
أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس، فأمّا إذا جئت إلى خصوصٍ ما يخرج
به عن المتعارف، فلا اتفاق ولا تناسُب، لأن مكان الأعجوبة مرّةً أن تظلل شمسٌ من
الشمس، وأخرى أن يُرَى للشمس مِثْلٌ لا يطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثةً
أن تُرَى الشموس طالعةً من ديارهم، وعلى هذا الحد قوله ولم أرَ قبلي مَن مَشَى
البدر نحوه، العجب من أن يمشيَ البدر إلى آدميٍّ، وتُعانِقَ الأسْد
رجُلاً.
واعلم أن في هذا النوع مذهباً هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضُه، وهو
لطيف جدّاً، وذلك أن يُنظر إلى خاصيَّة ومعنًى دقيقٍ يكون في المشبَّه به، ثم
يُثَبِّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه، ويُتوصَّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه
قد خرج من البَيْن، وزال عن الوَهْم والعين أحسنَ توصُّلٍ وألطفَه، ويقام منه شِبهُ
الحجّة على أنْ لا تشبيهَ ولا مجازَ، ومثال قوله: لاَ تَعْجَبُوا
من بِلَى غِلاَلتـه قد زرَّ
أَزْرَاره على القمَر
قد عمد، كما ترى إلى شيء هو
خاصية في طبيعةِ القمر، وأمرٌ غريب من تأثيره، ثم جَعلَ يُرِى أن قوماً أنكروا
بِلَى الكتّان بسُرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجُّب من ذلك ويقول أما ترونه قد
زرَّ أزرارَه على القمر، والقمرُ من شأنه أن يُسْرِع بِلَى الكتان، وغرضه بهذا كله
أن يُعلِم أن لا شكَّ ولا مِريَة في أن المعاملة مع القمر نفسِهِ، وأن الحديث عنه
بعينه، وليس في البَين شيءٌ غيره، وأن التشبيهَ قد نُسي وأُنْسيَ، وصار كما يقول
الشيخ أبو عليّ فيما يتعلق به الظرف: إنّه شريعَةٌ منسوخة. وهذا موضعٌ في غاية
اللُّطْفِ، لا يَبين إلا إذا كان المتصفِّح للكلام حسَّاساً، يعرف وَحْي طَبْع
الشعر، وخفيَّ حركته التي هي كالخَلْسِ، وكَمَسْرَى النّفْسِ في النّفْس. وإن أردت
أن تظهرَ لك صحّةُ عزيمتهم في هذا النحو على إخفاءِ التشبيه ومَحْوِ صورته من
الوهم، فأبرِزْ صفة التَّشبيه، واكشفْ عن وجهه، وقُلْ لا تعجبوا مِن بِلى غِلاَلته،
فقد زرَّ أزرارَهُ على مَنْ حُسْنُه حسنُ القمر، ثم انظر هل ترى إلاّ كلاماً فاتراً
ومعنًى نازلاً، واخبُرْ نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة? وانظر في أعين
السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمةٍ عن المسرَّة، ودِلاَلةٍ على الإعجاب? ومن
أين ذلك وأنَّى وأنت بإظهار التشبيه تُبطل على نفسك ما له وُضِعَ البيتُ من
الاحتجاج على وُجوب البِلَى في الغلالة، والمَنْعِ من العجب فيه بتقرير الدِّلالة.
وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه، إلاّ أن لفظه لا يُنبئ عن القوة التي لهذا البيت
في دعوى القمر، وهو قوله: تَرَى الثِّياب
من الكَتَّان يلمَحُهـا نُورٌ من البدر
أحياناً فيُبْلـيهَـا
فكيف تُنكر أَن
تَبْلَى مَعَاجرُهـا والبدرُ في كل
وقتِ طَالِعٌ فيها
ومما ينظر إلى قوله قد زرَّ
أزراره على القمر، في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقةً، مبلغَ الاحتجاج به كما
يُحتجُّ بالحقيقة، قولُ العبّاس بن الأحنف: هِيَ الشَّمْسُ
مَسْكَنُها في السماء فَعَزِّ الفؤادَ
عَـزاءً جـمـيلاَ
فلن تَسْتطيع
إليهَا الصُّـعـودَ ولن تستطيعَ
إليكَ الـنُـزولاَ
صورة هذا الكلام ونِصْبَته
والقالب الذي فيه أُفْرِغ، يقتضي أن التشبيه لم يَجْرِ في خَلَده، وأنه معه كما
يقال: لستُ منه وليسَ مِنّي، وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغاً لا حاجة معه إلى إقامة
دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصِّحّة والصدق بحيث تُصحَّح به دعوى ثانيةٌ، ألا تراه
كأنه يقول للنفس ما وَجْهُ الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس، ومَسْكَنُ
الشمس السماء؛ أفلا تراه قد جعل كونها الشَّمس حُجَّةً له على نفسه، يصرفها بها عن
أن ترجو الوصول إليها، ويُلْجِئُها إلى العزاء، ورَدَّها في ذلك إلى ما لا تشكُّ
فيه، وهو مستقرٌّ ثابت، كما تقول: أوَما علمت ذلك? وأليس قد علمت?، ويُبَيِّن لك
هذا التفسيرَ والتقريرَ فضلَ بيانٍ بأن تُقابل هذا البيت بقول الآخر:
فقلتُ لأصْحابِي
هي الشمسُ ضَوْءُها قريبٌ ولكن في
تَنَاوُلِـهـا بُـعْـدُ
وتتأمَّلْ أمر التشبيه فيه،
فإنك تجده على خلاف ما وصفتُ لك، وذلك أنه في قوله فقلت لأصحابي هي الشمس، غيرُ
قاصد أن يجعل كَوْنَها الشمسَ حُجَّةً على ما ذكر بعدُ، من قرب شخصها ومثالها في
العين، مع بُعد منالها بل قال هي الشمس، وهكذا قولاً مرسلاً يُومِئُ فيه بل يُفصِح
بالتشبيه، ولم يُرد أن يقول لا تعجبوا أن تَقْرُب وتَبْعُد بعد أن علمتم أنها
الشمس، حتى كأَنه يقول: ما وَجْهُ شكّكِم في ذلك?، ولم يشكّ عاقلٌ في أن الشمس
كذلك، كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوُصول إليها مع عِلْمِك بأنها
الشمس، وأن الشمسَ مَسْكنُها السماءُ، فبيت ابن أبي عيينة في أنْ لم ينصرف عن
التشبيه جملةً، ولم يَبْرُز في صورة الجاحد له والمتبرّئ منه، كبيت بشَار الذي
صرَّح فيه بالتشبيه، وهو: أو كبَدْر
السَّماءِ غـيرُ قـريبٍ حِين يُوفِي
والضوءُ فيه اقترابُ
وكبيت المتنبي:
كأنَّها الشمس
يُعيي كفَّ قابضِهِ شُعاعُها
ويَرَاه الطَّرْفُ مُقْتربَا
فإن قلت فهذا من قولك يؤدِّي
إلى أن يكون الغَرَض من ذكر الشمس، بيانَ حال المرأة في القُرب من وجهٍ ، والبعدِ
من وجهٍ آخر، دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه، وهو خلافُ المعتاد، لأن
الذي يَسْبق إلى القلوب، أن يُقْصدَ من نحو قولنا هي كالشمسِ أو هي شمسٌ، الجمالُ
والحُسْن والبهاء. فالجواب إنّ الأمرَ وإن كان على ما قلتَ، فإنه في نحو هذه
الأحوال التي ُقصَد فيها إلى بيان أمرٍ غير الحُسن، يصير كالشيء الذي يُعقل من طريق
العُرْف، وعلى سبيل التَّبَع، فأما أن يكون الغرضُ الذي له وُضع الكلام فلا وإذا
تأمّلت قوله فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءُها قريبٌ، وقولَ بشار: "أو كبدر السماء"،
وقولَ المتنبي: "كأنها الشَّمس"، علمتَ أنهم جعلوا جُلَّ غَرَضهم أن يُصِيبوا لها
شبهاً في كونها قريبة بعيدةً، فأما حديث الحُسن، فدخل في القصد على الحدِّ الذي مضى
في قوله، وهو للعباس أيضاً: نِعْمةٌ كالشّمس
لمَّا طَلَعت بَثَّت الإشراقَ
في كُلّ بَلَدْ
فكما أن هذا لم يضع كلامه
لجعل النعم كالشمس في الضِّياء والإشراق، ولكن عَمَّت كما تعمُّ الشمس بإشراقها
كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم على أن يجعلوا المرأة كالشمس والبدرِ في الحسن ونورِ
الوجه، بل أَمُّوا نحو المعنى الآخر، ثم حَصَل هذا لهم من غير أن احتاجوا فيه إلى
تجشُّمٍ، وإذا كان الأمر كذلك، فلم يقُل إن النعمة إنما عمّت لأنها شمس، ولكن أراك
لعمومها وشمولها قياساً، وتحرَّى أن يكون ذلك القياس من شيء شَرِيف له بالنعمة شبهٌ
من جهة أوصافه الخاصّة، فاختار الشمس، وكذلك لم يُرد ابن أبي عيينة أن يقول إنها
إنما دَنت ونَأت لأنها شمس، أو لأنها الشمس، بل قاس أمرها في ذلك كما عرّفتُك.
وأمّا العبّاس فإنه قال إنها إنما كانت بحيث لا تُنال، ووجب اليأس من الوصول إليها،
لأجل أنها الشمس فاعرفه فرقاً واضحاً. ومما هو على طريقة بيت العبّاس في الاحتجاج،
وإن خالفه فيما أذكره لك، قول الصابئ في بعض الوزراء يهنّئه بالتخلُّص من
الاستِتار: صَحَّ أنَّ
الوزيرَ بدرٌ مُـنـيرٌ إذ تَوَارَى كما
تَوَارَى البدورُ
غَاب لا غَابَ
ثُمَّ عاد كما كـا نَ على
الأُْفْقِ طالعاً يستنيرُ
لا تسَلْني عن
الوزير فقد بَيَّ نْتُ بالوصف أنه
سَـابـورُ
لا خَلاَ منه
صدرُ دَسْتٍ إذا ما قَرَّ فيه
تَقِرُّ منه الـصـدورُ
فهو كما نراه يحتجّ أن لا
مجازَ في البين، وأنَّ ذكر البدر وتسميةَ الممدوح به حقيقة،واحتجاجُه صريحٌ لقوله
صح أنه كذلك، وأما احتجاج العبّاس وصاحبه في قوله قد زرَّ أزرَارهُ على القَمر،
فعلى طريق الفَحْوى، فهذا وَجهُ الموافقة، وأما وَجْهُ المخالفة، فهو أنَّهما
ادّعيا الشَّمس والقَمَر بأنفسهما، وادَّعى الصابئ بدراً، لا البدر على الإطلاق.
ومن ادّعاه الشمس على الإطلاق قولُ بشَّار: بَعَثْتُ
بِذكْرها شِعري وقَدَّمتُ
الهَوَى شَرَكَا
فلمَّا شاقَها
قَـولـي وشَبَّ الحبُّ
فاحْتَنَكَا
أتتني الشمـسُ
زائرةً ولم تكُ تبرَحُ
الفَلَكَا
وَجَدتُ العيش
في سُعدَى وكان العَيْشُ
قد هَلَكَـا
فقوله ولم تك تَبرَحُ
الفَلَكا، يريك أنه ادَّعى الشمس نفسها، وقال أشجع يرثي الرشيد، فبدأ بالتعريف، ثم
نكّر فخلَط إحدى الطريقتين بالأخرى، وذلك قوله: غَرَبَتْ
بالمشرق الشـم سُ فقُلْ للعين
تدمـعْ
ما رَأَيْنا
قَطُّ شَمـسـاً غَرَبت من
حَيْثُ تطلعْ
فقوله غربت بالمشْرق الشمسُ
على حدّ قول بشار: "أتتني الشمس زائرةً، في أنه خيّل إليك شمس السماء"، وقوله بعد
ما رأينا قَطّ شمساً، يُفتِّر أمرَ هذا التخييل، ويميل بك إلى أن تكون الشمس في
قوله: غربت بالمشرق الشمس، غير شمس السماءِ، أعني غير مدَّعى أنها هي، وذلك مما
يضطرب عليه المعنى وَيقْلَق، لأنه إذا لم يدَّع الشمسَ نفسها، لم يجب أن تكون جهة
خراسان مَشْرِقاً لها، وإذا لم يجب ذلك، لم يحصل ما أراده من الغرابة في غروبها من
حيث تطلع، وأظُنُّ الوجهَ فيه أن يُتأوّل تنكيره للشمس في الثاني على قولهم: خرجنا
في شمس حارّة، يريدون في يوم كانَ للشمس فيه حرارة وفضلُ توقُّد، فيصير كأنه قال:
ما عهدنا يوماً غَرَبت فيه الشمس من حيث تطلع، وهوت في جانب المشرق، وكثيراً ما
يتفِق في كلام الناس ما يُوهم ضرباً من التنكير في الشمس كقولهم: "شَمْسٌ صيفية"،
وكقوله: واللَّه لا طَلَعت شمسٌ ولا غربت
ولا فرق بين هذا وبين قول
المتنبي: لم يُرَ قَرْنُ
الشَّمْسِ في شرْقِه فشكَّت الأنفسُ
في غَرْبـهِ
ويجيءُ التنكير في القمر
والهلال على هذا الحدّ، فمنه قول بشّار: أمَلي لا تأتِ
في قَمَرٍ بحديثٍ واتَّق
الدُّرَعَا
وتَوَقَّ الطيبَ
لَيْلتَنـا إنَّه واشٍ إذا
سَطَعا
فهذا بمعنى لا تأت في وقت قد
طلع فيه القمر، وهذا قولُ عمر بن أبي ربيعة: وَغَاب قُميْرٌ
كنتُ أرجُو غُيُوبَهُ وَرَوَّحَ
رُعْيَانٌ ونَوَّمَ سُـمَّـرُ
ظاهره يوهم أنه كقولك: جاءني
رجل، وليس كذلك في الحقيقة، لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعمَّ شيئين وأكثر، وليس
هنا شيئان يَعُمّهما اسم القمر. وهكذا قول أبي العتاهية:
تُسرُّ إذا
نظرتَ إلـى هـلالٍ ونَقْصُك إذْ
نظرتَ إلى الهلالِ
ليس المنكَّر غير المعرَّف،
على أنّ للهلال في هذا التنكير فضلَ تمكُّنٍ ليس للقمر، ألا تراه قد جُمع في قوله
تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ" "البقرة: 189"، ولم يجمع القمر
على هذا الحدّ. ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري: وبَدْرَين
أَنْضيْنَاهما بعد ثَالثٍ أكلْناه
بالإيجاف حتى تَمَحَّقَّا
ومما أتى مستكرهاً نابياً
يتظلم منه المعنى وينكره، قولُ أبي تمام: قَرِيبُ
النَّدَى نائِي المَحَلِّ كأنّه هِلالٌ قريبُ
النُّورِ ناءٍ مَنازلُهْ
سببُ الاستكراه، وأنّ المعنى
ينبو عنه أنه يُوهم بظاهره أنّ هاهنا أهِلَّةً ليس لها هذا الحكم، أعني أنه ينأَى
مكانهُ ويدنو نورُه، وذلك مُحالٌ فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرَّفاً على
حدّه في بيت البحتري: كالبدْرِ أفرط
في العُلوِّ وضوءُه للعُصْبة
السَّارين جِدُّ قـريب
فإن قلت أَقْطَعُ وأستأنفُ
فأقولُ: كأن هلال وأسكتُ، ثم أَبتدئُ وآخُذ في الحديث عن شأنِ الهلال بقولي قريب
النور ناءٍ منازله أمكنك، ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى من نبوّ اللفظ به وسوء
ملاءَمة العبارة، واستقصاءُ هذا الموضع يَقْطع عن الغرض وحقُه أنه يُفرَد له
فصل.تابع