إن
موضع المسجد النبوي الشريف كان محل تجفيف تمر ليتيمين من بني النجار في حجر أسعد بن
زرارة.
فلما
طلب النبي صلى الله عليه وسلم المكان اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعشرة
دنانير ذهباً ونبش ما كان في هذا المكان من قبور المشركين وسويت الخرب وقطع النخل
الذي فيه ثم بناه صلى الله عليه وسلم أول ما بناه بالجريد وجعل أساسه أربعة أذرع من
الحجارة وكانوا ينشدون أثناء بنائه:
(اللهم
لاّ خير إلا خير الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة).
2- وهو
أول مكان نزل فيه صلى الله تعالى عليه وسلم. فعندما وصل النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم موضع مسجده بركت الناقة ووضعت جرانها على الأرض في مكان منبره الشريف فجاء
زعماء الخزرج يتسابقون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يقول يا رسول
الله أنا أحق بأن تنزل عندي فيذكر قرابته و خؤولته فانسل أبو أيوب رضي الله عنه
وأخذ الرحل من فوق الناقة وأسرع به إلى منزله فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم
ابتسم وقال: "المرء مع رحله".
3- ولما
بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسجده الشريف جعل رجالاً على زواياه ليعدِّل
القبلة فجاءه جبريل عليه السلام وقال بيده هكذا فأماط كل جبل بينه وبين الكعبة ثم
قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة وبعدما وضع
القبلة قال جبريل بيده هكذا مرة أخرى فعاد كل جبل إلى مكانه.
بأي
شيء بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده:
ثبت
في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهر والشهران لم يوقد في بيت
من بيوته نار للطبخ وإنما الطعام التمر والماء فقط، كما كان فراشه من أدم حشوها ليف
وربما نام على الحصير فيؤثر في جنبه الشريف، وكان يخرج في غزواته على قل من الزاد
ونقص في الراحلة إلى حد أن يتعاقب ثلاث من أصحابه على راحلة واحدة كما وقع في غزوة
بدر، وربما جاءه الضيف فيمر على بيوته فلا يجد له طعاماً فيقول: منْ لهذا الضيف؟
فيبادر أحد أصحابه إلى أخذ الضيف إلى منزله فيقدم له القرى الكافي مؤثراً إياه على
حاجته وحاجة أولاده للطعام، وكان يأتيه بعض أصحابه الراغبين في الخروج معه للجهاد
في سبيل الله فيقول لهم:
" لا
أجد ما أحملكم عليه "
فيرجعون وأعينهم تفيض بالدموع حزناً لعدم وجود ما يقدرون به على الجهاد في سبيل
الله.
فهل
معنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان فقيراً عاجزاً حتى عن الحصول على ضروريات
العيش ومتطلبات الجهاد؟ والجواب بالطبع لا بل هو اختيار من النبي صلى الله عليه
وسلم وإيثار للآخرة على الأولى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله
عنه لما بكى حين رأى الحصير أثر في جنبه الشريف وقال: يا رسول الله ألا نصنع لك
فراشاً وذكر له ما عند كسرى وقيصر من الأسرة والأرائك. قال النبي صلى الله عليه
وسلم وهو كالمغضب: (يا عمر أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) وهذه يعني أن
النبي صلى الله عليه وسلم ترفع عن زخرف الحياة الدنيا ومتاعبها القليل والزائل رغبة
فيما عند الله من النعيم المقيم، وظهر هذا الترف السامي في تواضع عيشه وبيوته
ومسجده، وحين خُيِّرَ بين البقاء في الدنيا إلى نهايتها وبين لقاء ربه اختار لقاء
ربه.
ولم
يرضَ صلى الله عليه وسلم وضع أقل زينة في بيوته، ولهذا لما عاد النبي صلى الله عليه
وسلم من غزوة دومة الجندل وجد أم المؤمنين ( أم سلمة ) رضي الله عنها بَنَتْ حجرتها
- ولا أقول قصرها - باللبن وطينت سقفها بالطين لأنه كان يخر بالماء إذا نزل المطر،
فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك قال لأم سلمة لِم فعلت هذا؟ فقالت: يا رسول
اللّه أردت أن أكف أبصار الناس فقال لها: (يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم
البنيان).
وهذا
لا يعني أنه حرم على الإنسان أن يتخذ لنفسه داراً لسكناه أو داراً يكتسب بكرائها
فالكسب بالتجارة والإجارة حلال لأمته صلى اللّه عليه وسلم وإنما المراد تقبيح
التطاول في البنيان والتفاخر بزخرفتها وتجميد الأموال في الحجر والطين حتى لا
يستفيد منها قريب أو بعيد، وحتى تقام بهذه الأموال المشاريع الحية التي تفيد الأمة
وتساعد في الرخاء. وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده الشريف بالجريد والطين
كما بنى حجراته الشريفة بنفس الشيء وترك مساحة كبيرة من المسجد رحبة غير مسقوفة،
وكان ارتفاع مسجده في بنائه الأول خمسة أذرع وبعد فتح خيبر بناه ووسعه وجعل ارتفاعه
سبعة أذرع كما تقدم.
قِبلته
إلى الشام:
من
خلال ما ذكرنا من وضع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقبلة مسجده الشريف وهو ينظر
إلى الكعبة، قد أحسَّ بأن قبلته كانت إلى الكعبة الشريفة عند قدومه المدينة وأنها
حوّلت إلى بيت المقدس وعندئذ صار النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقلب وجهه في
السماء ليجعل قبلته إلى بيت الله الحرام وقال اليهود بعد تحويلها: {مَا وَلاهُمْ
عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا..} [البقرة:
142].
ولقد
مكث النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس في الصلاة نحو ستة عشر شهراً بعد
قدومه المدينة وكان محرابه إلى البيت المقدس في نهاية المسجد آنذاك من الشمال مقابل
باب جبريل اليوم عند الاسطوانة الخامسة شمالي أسطوانة عائشة رضي الله عنها بحيث
تجعلها خلف ظهرك وتسير إلى الشمال وتعد خمس أسطوانات غربي دكة الاغواث (خدام
الحرم).
منبرُ
النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم:
كان
النبي الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة إلى جزع نخلة في المسجد وكان الجزع بين مكان
المنبر والمحراب أقرب إلى الأسطوانة المخلقة ولما شق على النبي صلى الله عليه وسلم
القيام اتخذ منبراً يجلس عليه ويخطب. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى
امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار يقول لها: " انظري غلامك النجار يعمل لي
أعواداً أكلم الناس عليها " فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت في هذا
المكان فأصبحت منبره الشريف في مكانه الدائم.
فلما
تحوّل النبي صلى الله عليه وسلم بخطبته عن الجزع إلى المنبر قام الجذع حنين إلى
النبي صلى الله عليه وسلم مثل حنين الناقة التي فقدت ابنها وارتفع حنينه حتى أحزن
الصحابة رضي الله عنهم فنزل إليه النبي صلى الله عليه وسلم واحتضنه وسارَّه بحديث:
"إن شئت عادت إليك خضرتك ونضرتك و إن شئت دعوت الله أن يجعلك من غراس الجنة
" فاختار الجزع أن يكون من غراس الجنة وسكت عن الحنين. ودفن هذا الجزع فيما بعد
تحت المنبر من جهة القبلة.
وقد
ورد في منبره الشريف أحاديث تدل على فضله، فقد روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " قوائم منبري رواتب في الجنة " وهذا يعني أن هذا
المنبر بذاته يعيده الله يوم القيامة على حاله فينصبه عند حوضه صلى الله عليه وسلم
كما يعيد الله تعالى الخلائق يوم البعث.
وعن
أنس رضي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " منبري على ترعة من ترع
الجنة " والترعة هي الروضة أو الباب أو الدرجة. وفي سنن أبي داود من حديث جابر
بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحلف أحد
عند منبري هذا على يمين آثمه ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له
النار ".
وقد
عرف الصحابة رضي الله عنهم لهذا المنبر فضله وأنه حظي بوقوف النبي صلى الله عليه
وسلم.
ولما
ولي الصديق رضي الله عنه الخلافة قام في خطبته على درجة المنبر الثانية تأدباً مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يجلس على المنبر ويضع قدميه على الدرجة
الثانية.
ولما
ولي عمر رضي الله عنه الخلافة قام في خطبته على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض
تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأدباً مع الصديق رضي الله عنه.
وهكذا
يكون الأدب والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هكذا يكون التأدب أيضاً مع
أصحابه رضوان الله عليهم. وفي عهد معاوية رضي الله عنه قام بكسوة المنبر الشريف
بقبطية وزاد فيه ست درجات فاصبح تسع درجات ولم يزد فيه أحد قبل معاوية ولا بعده غير
أنه جدد عدة مرات