أساطين
المسجد النبوي الشريف:
كانت
أعمدة المسجد النبوي الشريف من الخشب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وورد أن أبا
بكر الصديق رأى بعضها أكلته الأرضة فأبدله بأعمدة أخرى من الخشب، ولكن عمر رضي الله
عنه غير أعمدة المسجد النبوي وبناها باللبن لأول مرة ولم يغير مكانها، وكذلك
الخلفاء الذين جددوا ووسعوا المسجد النبوي الشريف بعده فلم يغيروا مكان أعمدته على
مر الزمان مما ترك للمسلمين فرصة التعرف على مكان هذه الأعمدة وتوخي ما ورد في
أمكنتها من فضل وبركة.
والصلاة
في المسجد النبوي كله مضاعفة بألف صلاة فيما سواه غير أنّها في الروضة الشريفة
معنىً وفضلاً زائداً على ذلك، وحيث إن كثيراً من أساطين الروضة الشريفة ارتبط
بمناسبات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه اسم خاص يشير إلى تلك
المناسبات ، وحيث إن الكثير من الصحابة ومن بعدهم من السلف كان يتحرى الصلاة عند
تلك الأساطين التي لا يخلو ما أحاط بها من فراغ وهواء جوٍ من أن يكون لامس بدن
النبي صلى الله عليه وسلم في مروره بينها وجلوسه عندها ، وبما أن أمكنة جلوسه صلى
الله عليه عند هذه الأسطوانات وغيرها من أماكن المسجد النبوي كانت محلاًّ لنزول
الكثير من الآيات القرآنية وورود الأحاديث النبوية وارتياد جبريل عليه السلام على
النبي صلى الله عليه وسلم.
لهذه
المعاني كلها خصصنا باباً مستقلاً لهذه الأساطين وتركنا ما سواها، ولطالما ظل خلفاء
الإسلام وسلاطين المسلمين وملوكهم يحرصون على إبقائها في أمكنتها ويكتبون عليها
أسماءها كلما جدد بناء المسجد النبوي الشريف مما جعل هذه الأساطين معروفة في
أماكنها وبأسمائها المكتوبة عليها إلى وقتنا هذا وإليك أسماءها مع ذكر ما حدث عندها
من مناسبات:
1-أسطوانة
عائشة رضي الله عنها:
وهي
التي تلي أسطوانة التوبة من جهة الغرب وتقع هذه الاسطوانة في وسط الروضة الشريفة
وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مكانها مصلى بعد تحويل القبلة مدة شهرين أو
ثلاثة ثم تحول إلى مكان مصلاه في نهاية جدار المسجد القبلي حيث هو الآن عند
الأسطوانة المخلقة (أي المطيبة) فأصبحت هذه الأسطوانة خلفه، وكان عمر والصديق
وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم يفضلون الصلاة عندها وكان أفاضل أبناء المهاجرين من
التابعين يعتادون الجلوس عندها ، حتى قيل لمجلسهم: مجلس القلادة. وسبب تسميتها
بأسطوانة عائشة رضي الله عنها أن بعضاً من الصحابة رضي الله عنهم كانوا جلوساً عند
عائشة رضي الله عنها ومعهم ابن أختها التابعي الفقيه(عروة بن الزبير) فقالت
عائشة رضي الله عنها: إن في المسجد أسطوانة لو عرفها الناس لاستهموا على الصلاة
عندها بالأسهم.
فسألوها
عنها فأبت أن تعينها لهم ثم بعد قيامهم سارَّت ابن الزبير بشيء ثم قام واتجه إلى
هذه الأسطوانة وصلى عندها. وكان بعض أولئك الصحابة يرقب ماذا سيفعل فلما صلى عندها
جاؤوا وصلوا في مكانه فسميت هذه الأسطوانة بعد ذلك (أسطوانة عائشة) كما هو مكتوب
الآن في أعلاها، كما سميت أيضاً بأسطوانة القرعة لرواية (لاقترعوا عليها بالسهام)
وروى بعض التابعين عن زيد بن أسلم أنه رأى موضع جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند هذه الاسطوانة وأنه رأى بعد ذلك موضع جبهة أبي بكر الصديق دونها ثم رأى موضع
جبهة عمر دون موضع جبهة أبي بكر رضي الله عنه عن الجميع مما يؤكد أن أبا بكر وعمر
رضي الله عنهما كانا يعرفان فضل الصلاة عند هذه الأسطوانة وقد ورد أيضاً أن الدعاء
عندها مستجاب.
ومن
المعلوم أن موضع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم ثم جبهة أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما كان على التراب قبل أن يفرش المسجد بالبلاط.
2- اسطوانة
الوفود:
وهي
الأسطوانة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عندها لوفود العرب القادمة عليه
لكي تبايعه على الإسلام وهي التي وقع عندها نداء بني تميم من وراء الحجرات حيث
نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا محمد أخرج لنا نفاخرك) فأنزل
اللَّه تعالى في شأنهم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:
4-5].
وعند
هذه الأسطوانة أيضاً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ضمام بن ثعلبة وافداً عن بني
سعد بن بكر فلما أقبل ووقف على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يكن يعرف
الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب فقال له ضمام: محمد يا بن عبد المطلب إني سائلك
ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدنَّ في نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أجد في
نفسي، قل عما بدا لك . فقال ضمام: أنشُدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو
كائن بعدك آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئاً وأن نخلع هذه
الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال ضمام:
فأنشدك الله ألهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نصلي هذه
الصلوات الخمس؟.
فقال
صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، ثم جعل ضمام يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة
وبالأسلوب نفسه، ثم قال في النهاية أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
وساؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف إلى بعيره
راجعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة
" وكم عند هذه الأسطوانة حصلت مناسبات وكم جرى من حوار بين النبي صلى الله عليه
وسلم وبين وفود العرب كالذي وقع بينه وبين وفد نجران وغيره.
3-
اسطوانة
التوبة:
وهي
الأسطوانة التي ربط فيها الصحابي الجليل (أبو لبابة) الأنصاري رضي الله عنه نفسه
وظل فيها أسيراً وقال: والله لا أفك هذا الأسر عن نفسي حتى يتوب الله عليَّ ويحلني
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده . وقصة أبي لبابة هذه سببها أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم عندما حاصر اليهود بني قريظة بعد غدرهم بعهده وانضمامهم إلى معسكر
الأحزاب وطال عليهم الحصار وامتلأت قلوبهم من الرعب وضاقت الأرض بهم وجهلوا النكاية
التي سوف تحل بهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة رضي
الله عنه لأنه كان حليفاً لهم قبل الإسلام لكي يتفاوض معهم فلما جاء إليهم أرسلوا
الصبيان في وجهه يجأرون وصاحت نساؤهم مستعطفة لرحمته ثم حاولوا استغلال عاطفته
فقالوا له: ماذا ترى؟ أننزل حكم محمد؟ فقال لهم: إن نزلتم على حكم محمد (وأشار بيده
إلى حلقه) يعني سوف يذبحكم. فقال أبو لبابة فوالله ما تحركت قدماي حتى علمت أني
خُنْت ورسوله فلم يعد إلي الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذهب مسرعاً إلى المسجد
النبوي وربط نفسه في هذه الأسطوانة.
فلما
سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أما إنه لو جائني لاستغفرت له ". وبعد
انتهاء حصار بني قريظة عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا يزال أبو
لبابة مستأسراً في ساريته فتأتيه بنته وتطلقه للصلاة وقضاء الحاجة ثم تعيده إلى
أسره. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما إذ فعل بنفسه ما فعل فما
أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه". فلما أنزل الله توبته على النبي
صلى الله عليه وسلم وهو فيبيت أم سلمة رضي الله عنها، تقول أم سلمة: لقد سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في السَّحَر يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله أضحك الله
سنك؟ قال: " تيب على أبي لبابة ". فقالت أم سلمة: ألا أبشره يا رسول
الله ؟ قال: بلى إن شئت فقامت على باب حجرتها(والحجاب لم يضرب بعد) وقالت:
يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. وهذا يعني أن دارها كان بابها مفتوحاً على
المسجد فلما سمع الناس التوبة على أبي لبابة ثاروا إليه ليطلقوه من أسره، فقال: لا
والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه
الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر أطلقه من الأسر.
وهذه
الأسطوانة مكتوب عليها حتى الآن (أسطوانة أبي لبابة) وتعرف بالتوبة وتقع إلى الشرق
من أسطوانة عائشة وهذه الأسطوانة أيضاً هي التي أسر النبي صلى الله عليه وسلم فيها
ثمامة بن أثال سيد اليمامة حين جاء به الصحابة في سرية أسيراً فأكرمه النبي صلى
الله عليه وسلم وكان يبعث إليه كل يوم بلبن عدة شياه فيشربه كله وكان ثمامة في أسره
يراقب تصرفات المسلمين وأفعالهم فرأى من التقوى والمحبة والتعاطف والتواضع وكثرة
العبادة ما لم ير في حياته فدخل في قلبه حب الإسلام وأعجب بأهله وأضمر في نفسه
الدخول في الإسلام ولكن أنفة الزعامة والعزة جعلته يؤخر إسلامه إلى نهاية أسره ،
وكان إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم أسْلم يا ثمامة يرد عليه بقوله: يا محمد إن
تنعم عليَّ تنعمْ على شاكر وإن تقتلني تقتل ذا دم . وفي اليوم الثالث من أسره أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ثمامة من أسره وقال له اذهب حيث شئت. فذهب ثمامة
واغتسل وفاجأ المسلمين بإعلان إسلامه.
إن
حكمة الأسر في المسجد لحكمة عظيمة حيث تمكن الأسير من معرفة الإسلام والوقوف على
حقيقة أهله مما يدفع الأسير للدخول في الإسلام. هذا ما وقع لثمامة، وبعد أن أسلم
أتى باللبن الذي كان يشربه كل يوم فلم يشرب منه إلا لبن الشاة الواحدة فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المؤمن يأكل
في معي واحد".
وورد
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أكثر نوافله عند أسطوانة التوبة وتقع عن يمين
حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ضمن أسطوانات الروضة الشريفة.
4-
الأسطوانة
المخلقة:
(أي
المطيبة بطيب الخلوق): وهي الأسطوانة الملاصقة لمصلى النبي صلى الله عليه
وسلم من جهة القبلة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها بعد تحوله عن
أسطوانة عائشة رضي الله عنها ولكن هذه الأسطوانة اليوم متقدمة عن محلها الأصلي إذ
محلها الأصلي عن اليمين الإمام إذا وقف في المصلى الشريف.
وروى
يزيد بن عبيد أنه كان يجيء مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى (أي صلاة الضحى) فيعمد
سلمة إلى مكان الأسطوانة المخلقة ويصلي عندها سبحة الضحى ، فقال له يزيد: ألا تصلي
في مكان آخر من المسجد؟ فقال له سلمة: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى
هذا المقام ، وهذا الحديث مروي في الصحيحين وفي صحيح البخاري عن يزيد بن عبيد:
"كنت آتي مع سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف
- أي المخلقة - فقلت: يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، فقال: فإني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها ".
وفي
صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك. فرضي الله عن سلمة وجميع الصحب الكرام، فإن استطعت
أيها المسلم أن تتحرى بصلاتك ونوافلك المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم
يتحرى الصلاة فيه فافعل، ولكن احذر من أن تضر أحداً من الجالسين والقاصدين من الفضل
مثلما تقصد حتى لا يتسبب ذلك في إحباط عملك.
وهذه
الأسطوانة اليوم يرتكز عليها المحراب النبوي الشريف ومكتوب في أعلاها (الأسطوانة
المخلقة) وسبب تسميتها بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها نخامة فساءه
ذلك فقام أحد الصحابة وحك النخامة وطيب مكانها بطيب يسمى الخلوق فسر النبي صلى الله
عليه وسلم لذلك واعتبر هذا أول تطييب للمسجد النبوي الشريف.
5-أسطوانة
السرير:
وهي
الأسطوانة التي تقع في مكان اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم وكان يوضع له عندها
سرير وكان هذا السرير من جريد النخل وفيه السعف ولا تظن أنه أريكة وثيرة فإن ذلك من
نعيم الدنيا الزائل الذي ترفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عليه نعيم الآخرة.
وتقع
هذه الأسطوانة شرقي أسطوانة التوبة وليس بينها أسطوانة أخرى وهي اليوم ملاصقة لشباك
الحجرة الشريفة، وأول من عمل حظيراً على الحجرة الشريفة السلطان قايتباي، وعندها
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقْرِعُ بين نسائه. ومن مكان اعتكافه عليه الصلاة
والسلام هذا كان يعطي رأسه لعائشة رضي الله عنها وهي في داخل باب حجرتها لتسرحه
وترجله كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
6- أسطوانة
المحرس، أو الحرس:
وكانت
تسمى أيضاً أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه كان يجلس عندها حارساً للنبي
صلى الله عليه وسلم قبل أن يترك الحراس فلما نزل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]ترك الحراس
حينئذ.
وترتيب
هذه الأسطوانات: المخلقة عند المحراب، وأسطوانة عائشة خلفه إلى اليسار قليلاً،
والتوبة على يسارها، ثم السرير عن يسار هذه، ثم الوفود خلف ذلك شمالاً ، ثم الحرس
خلف الوفود، ومكتوب في أعلى كل واحدة اسمها.
وبداخل
الشباك أسطوانات أخرى لا تمكن الصلاة عندها منها أسطوانة مربعة القبر، وأسطوانة
التهجد وهي التي كانت في مكان تهجده صلى الله عليه وسلم من
الليل.