تمهيد :
البيت
والمدرسة والمجتمع ركائز التربية الأساسية ، لكن البيت هو المؤثر الأول ، وهو أقوى
هذه الركائز جميعاً ، لأنه يتسلم الطفل من بداية مراحله ، فيبذر فيه بذوره ، ولأن
الوالدين أكثر الناس تأثيراً في الطفل ...
([1]).
ويتسلم
البيت الطفل على الفطرة ، فيدعم هذه الفطرة أو يساعد على انحرافها .
لكن ما هي
المؤسسة التربوية الثانية – بعد البيت – في المجتمع المسلم ؟ هل هي المدرسة أم
المسجد ؟
إن الإجابة
عن هذا السؤال تتغير بتغير المكان ، ففي بعض البلدان انبعثت الصحوة الإسلامية من
الجامعات ، وفي بعضها الآخر انبعثت هذه الصحوة من المساجد . وبعد استقراء خريطة
العام الإسلامي وأحواله المعاصرة ، يرى الباحث أن وجود المسجد المسلم
([2]) أسهل من وجود المدرسة المسلمة ، مع العلم
أن الغزو الفكري الاستعماري غزا المؤسستين معاً ، فجعل المدرسة مؤسسة علمانية تحارب الإسلام بشكل مباشر ، وأحياناً بشكل غير
مباشر ، ولعب فيها (( دنلوب )) ألاعيبه الخبيثة حتى جعلها مؤسسة علمانية تدمر
الأجيال المسلمة
([3]) ،
أما المسجد فقد جعله الغزو الفكري داراً للصلوات الخمس فقط ، بحيث يقفل أبوابه في
غير أوقات الصلاة ، كما حرمه من الإمام الكفء ، حتى صار بعض الأئمة رجالاً ضعفاء
يبحثون عن لقمة الخبز ، ويتخذون إمامة الصلاة مهنة يعيشون من ورائها . ومن خلال
تفاعل الصحوة الإسلامية المعاصرة فإن وجود المسجد المسلم – اليوم – أسهل من وجود
المدرسة المسلمة .
وفي
المجتمع المسلم حيث البيت المسلم ، والمسجد ، والمدرسة المسلمة ، والمؤسسات
المسلمة ، يأتي المسجد بالمكانة الثانية من حيث التربية ، بعد البيت المسلم ، لأن
الطفل يتعرف على المسجد قبل المدرسة ، ولابد للأب المسلم أن يصحب طفله معه في
الرابعة والخامسة إلى المسجد ، كما أن الطفل في الخامسة يلتحق بجماعة تحفيظ القرآن
في المسجد ، وفي السادسة يدخل المدرسة الابتدائية وتستمر صلته بالمسجد .
أثر
المسجد في تربية الفرد المسلم :يولد الطفل
في البيت ، ويقضي سنواته الأولى فيه ، ويكتسب منه سماته الشخصية التي ترافقه مدى
الحياة ، ثم يبدأ الطفل في التحرر من البيت بالتدريج ، فيقلل اعتماده على أسرته ،
محاولاً الاعتماد على ذاته ، وهذه إرهاصات الرشد عند الطفل ، ولابد من مؤسسة
تربوية تتلقف الطفل بعد البيت ، فتوفر له المناخ السليم الذي تنمو فيه فطرته ،
نمواً شاملاً ، يوفر نمو الروح والعقل والجسم ، ويوفر له إشباع حاجاته المتزايدة ،
وأولها الحاجات الروحية ، والحاجات الاجتماعية ، وهنا يأتي دور المسجد ليقوم بهذه
المهمة ، وسيعرض الباحث خلاصة لدور المسجد في التربية وفقاً لمراحل النمو عند
الطفل .
المسجد
وأطفال ما قبل المدرسة : يصحب الأب
طفله بعد الرابعة من عمره إلى المسجد ، في بعض الأحيان ليعرّفه على المسجد ،
والطفل بعد الرابعة في الغالب تسهل طهارته والمحافظة عليها ، وخاصة إذا أمره والده
بذلك .
أما صلة
الصغار بالمسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بينتها أحاديث صحيحة في
مناسبات مختلفة ، نذكر طرفاً منها ، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل
أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يؤم الناس في المسجد ، كما
روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلن يصلي وهو حامل
أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأبي العاص بن الربيع ، فإذا
قام حملها ، وإذا سجد وضعها
([4]) ومن ذلك أن النساء المصليات
كن يحضرن صلاة الجماعة بأطفالهنّ ، فيبكي الأطفال ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يؤم الناس ، فيخفف صلاته شفقة عليهم وعلى أمهاتهم ، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي
الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد
أن أطيلها ، فأسمع بكاء الصبي ن فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه
))
([5]). والآثار في ذلك كثيرة ، تؤكد صلة الأطفال الصغار قبل سن التمييز بالمسجد على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وسائل
حب الصغار للمسجد : 1- أن يرى
الطفل القدوة الحسنة في الكبار ، كأبيه وإخوانه وجيرانه ، يراهم يذهبون إلى المسجد
في كل صلاة ، ومن طبيعة الأطفال حب التقليد للكبار ، لذلك يطلب الطفل بإلحاح من
والده أن يصحبه إلى المسجد .
2- أن يلقن
الصغير من أسرته وخاصة أمه فضائل المسجد ، لأنه بيت الله ، ويلقن احترام المسجد .
3- اصطحابه
إلى المسجد برفقة الكبار .
4- أن
يلقاه إمام المسجد والعاملون فيه ، وكذلك المصلون ن بالملاطفة والابتسام ، ويقترح
الباحث أن يقدم له إمام المسجد أو أحد موظفي المسجد قطعة من الحلوى للترحيب به .
5- أن يأمر
الاب طفله في السابعة بحضور صلاة الجماعة في المسجد ، كما روي عنه صلى الله عليه
وسلم : (( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها ، وهم أبناء
عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ))
([6]).
6- أن يجد
الصغير ما يشبع رغباته الروحية والعقلية والجسمية في المسجد ، وتلاوة القرآن
وإقامة الصلاة تشبع حاجاته الروحية ، كما يتعلم في كتّاب المسجد فينمي عقله ، كما
يوفر المسجد للأطفال بعض الألعاب الرياضية ومنها السباحة ، وركوب الخيل وكذلك
الدراجات ، والتدرب على الرماية ، ويمكن تأمين ذلك عندما تتجلور المدرسة مع المسجد
، ويمكّن المسجد من استخدام بعض مرافق المدرسة .
7- يشكل المسجد
من الأطفال جماعة للأناشيد الخفيفة ، ذات المعاني الجميلة تتضمن حب الله ورسوله
ودين الإسلام ، وإنشاد الشعر في المسجد جائز ، وقد أنشد الشعر في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو حاضر يسمع
([7]).
ومن الخطر
امتعاض المصلين الكبار من الأطفال ، وطردهم من الصف الأول بشيء من القسوة ن حت إن
بعض موظفي المسجد يمنعونهم من دخوله ، وسبب ذل جهل المسلمين بالتربية بشكل عام ،
وأهمية مرحلة الطفولة بشكل خاص ، وأكثرمن ذلك جهلهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وقد اعتمدوا على حديث ضعيف جاء فيه أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : (( جنبوا مساجدكم صبيانكم
... وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر )) . بينما تعارضه أحاديث
صحيحة ، أوردنا بعضها آنفاً ، وقد أورد كثيراً منها الدكتور عبدالله قادري جزاه
الله خيراً
([8]).
60- محمد قطب ، منهج التربية الإسلامية ، (2- 93) .
61- المسجد المسلم – كما يتصوره الباحث – مؤسسة تربوية تكون قلب المجتمع
المسلم ، ويعمره المسلمون بالعبادة والعلم والشورى على مدى اليوم والليلة .
62- محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، ص 217 .
63- مسلم ، (1- 385) .
64- متفق عليه ، وهو في شرح السنة للإمام البغوي رحمه الله ( 3-410) .
وفي جامع الأصول ( 5- 592) .
65- أبوداود ، ( 2- 161 ) . وهو في شرح السنة للبغوي ( 2 – 406 ) -3-
راجع المقاصد الحسنة للسخاوي ، حديث (732) .
66- لخصت هذه الرسائل المذكورة عن عبدالله قادري ، ص 132- 146 .
67- انظر عبدالله قادري ، ص 129 .