اختلاق
المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم
بالحسنة
{وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي}أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب
الأمر بالخروج، قال ابن عباس: نزلت في "الجد بن قيس" حين دعاه الرسول صلى
الله عليه وسلم إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في الجهاد ولا
تفتني بالنساء {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}أي ألا إِنهم قد
سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن
الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم، قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان
بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات
الردى أسفل سافلين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي لا
مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد
.
{إِنْ
تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك
{وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ
قَبْلُ}أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به
ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل
بنا البلاء {وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم
فرحون مسرورون.
{قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}
أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا وهو مقدر علينا
مكتوب عند الله {هُوَ مَوْلانَا} أي ناصرنا وحافظنا{وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله،
ولا يعتمدوا على أحد سواه {قُلْ هَل تربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ}أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا
إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!!
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ
أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم
الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا{فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم،
وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد.
إحباط
ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا
والآخرة
{قُلْ
أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}أي قل لهم أنفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال
فلن يتقبل الله منكم، قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله {استغفر لهم
أو لا تستغفر لهم} والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً
{إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم
عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله.
ثم
أكد هذا المعنى بقوله {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ
إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}أي وما منع من قبول
النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ
كُسَالَى}أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون {وَلا
يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإكراه لأنهم
يعدونها مغرماً، قال أبو حيّان: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو
الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم
كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين
العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة
في سبيل الله أشرف الأعمال المالية .
{فَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا
عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك
استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا، قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكذبون
لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ
أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة
الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم.
انتهاز
المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان
الكاذبة
{وَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ}أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم
{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما
تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة {لَوْ
يَجِدُونَ مَلْجَأً}أي حصناً يلجأون إِليه {أَوْ مَغَارَاتٍ}أي سراديب يختفون فيها {أَوْ مُدَّخَلاً}أي مكاناً يدخلون فيه
ولو ضيقاً {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لأقبلوا إليه يسرعون
إسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إِلى أنَّ المنافقين لو
قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا
بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم .
{وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا
رَضُوا}أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك {وَإِنْ لَمْ
يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم
سخطوا عليك وعابوك، قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له: "ذو الخويصرة" فقال: اعدل يا محمد
فإِنك لم تعدل فقال صلى الله عليه وسلم: (ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟)، الحديث
.
{وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك
القسمة وإِن قلَّت، قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عز وجل للتعظيم والتنبيه
على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَرَسُولُهُ}أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا
{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله
وإِحسانه لراغبون، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لكان خيراً لهم، قال
الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل:
لو جئتنا .. ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً
عظيماً.
مصارف
الزكاة
ثم
ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء
والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه
الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش،
والمسكين لا شيء له قال يونس: سألت أعرابياً: أفقيراً أنت فقال: لا بل مسكين وقيل:
المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية {وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا}أي الجباة الذين يجمعون الصدقات {وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ}هم قوم من أشراف العرب أعطاهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه
لأحب الناس إِلي {وَفِي الرِّقَابِ}أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من
الرق {وَالْغَارِمِينَ}أي المديونين الذين أثقلهم الدين {وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ}أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من
السلاح والعتاد {وَاِبْنِ السَّبِيلِ}أي الغريب الذي انقطع في سفره
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}أي فرضها الله جل وعلا وحددها
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما
تقتضيه الحكمة قال ابن جزي: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع
طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في
الصدقات.
إيذاء
المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم
سبب
النزول:
كان
جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا
تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال "الجلاس بن سويد": نقول ما
شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله {وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
..}.
قال
مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ثم يقولون
عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ..}
الآية.
{وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم {وَيَقُولُونَ هُوَ
أُذُنٌ}أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه
{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}أي يصدِّق الله
فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم {وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ}أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب
إِيمانهم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في
الآخرة.
أحوال
المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم
القرآن
{يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}أي والحال أنه تعالى
ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه
السلام {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله
ورسوله .
{أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام
للتوبيخ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا}أي فقد حق
دخوله جهنم وخلوده فيها {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الذل
العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رؤوس
الأشهاد.
{يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي
قُلُوبِهِمْ}أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق {قُلِ
اسْتَهْزِءُوا}أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله
{إعملوا ما شئتم} {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} أي مظهر
ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام
ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله،
ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا .
{وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوه من الباطل والكذب في حقك وفي
حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس،
قال الطبري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إِلى تبوك
وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور
الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا
نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين
الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ.
ثم
كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ}أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد
ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إِظهاركم الإِيمان {إِنْ
نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم
وإِخلاصهم {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي نعذب
فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام.
صفات
المنافقين وجزاؤهم الأخروي
{الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}
أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان،
كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال الزمخشري: وأريد بقوله {بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ} نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم فيما أخبر القرءان عن حلفهم
{ويحلفون بالله إِنهم لمنكم} ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال
المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمَعْرُوفِ}أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل
الله {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}أي تركوا طاعته فتركهم من رحمته
وفضله وجعلهم كالمنسيين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي
الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل
النفاق.
{وَعَدَ
اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ}أي وعد الله المنافقين والمجاهرين بالكفر بإِصلائهم نار جهنم {خَالِدِينَ
فِيهَا}أي ماكثين فيها أبداً {هِيَ حَسْبُهُمْ}أي هي
كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها {وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ}أي أبعدهم من رحمته وأهانهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}أي دائم
لا ينقطع .
{كَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ}أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة
إِلى الخطاب {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منكم أجساماً
وأشد بطشاً {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا}أي وكانوا أوفر
أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم
{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ}أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ
الدنيا {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع
أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}أي
وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه، قال الطبري: المعنى سلكتم أيها
المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم،
وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من
عقوبة الله مثل الذي حل بهم {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً
فلا ثواب لها إِلا النار{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي
وأولئك هم الكاملون في الخسران .
{أَلَمْ
يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم
من العقوبة؟ {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}أي قوم نوح الذين
أهلكوا بالطوفان وقوم هود "عاد" الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح "ثمود" الذين
أهلكوا بالصيحة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ}الذين أهلكوا بسلب النعمة
{وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها
سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ} أي
جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم {وَلَكِنْ كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن
هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذِبين من أهل
الإِجرام؟
صفات
المؤمنين وجزاؤهم الأخروي
ولما
ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}أي هم إخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي
الله، وينهونهم عن كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر
وينهون عن المعروف {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}أي يؤدونها على الوجه
الكامل {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء
وجه الله {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي
{أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض
عليهم جلائل نعمته {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}أي غالب لا يُغلب من
أطاعه ويذل من عصاه {حَكِيمٌ} أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في
النعمة والنقمة.
{وَعَدَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ}أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار
{خَالِدِينَ فِيهَا}أي لابثين فيها أبداً لا يزول عنهم نعيمها ولا
يبيد {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}أي ومنازل يطيب
فيها العيش في جنات الخلد والإقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر
والزبرجد {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}أي وشيء من رضوان الله
أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة: "يا أهل الجنة فيقولون:
لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم
تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟
فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ}أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة
بعده.
أسباب
جهاد الكفار والمنافقين
{يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}
قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان {وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ}أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب {وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ}أي مسكنهم ومثواهم جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس
المكان الذي يصار إليه جهنم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} أي يحلف
المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب، قال قتادة: نزلت في عبد
الله بن أُبيّ، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري،
فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال
القائل "سمن كلبك يأكلك" فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية
.
{وَلَقَدْ
قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}وقيلهي قول ابن سلول "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"
{وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قال ابن كثير: هم نفر من
المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك وكانوا بضعة
عشر رجلاً {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ
فَضْلِهِ} أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته،
ويُمْنِ سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب .. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة
فقال {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ}أي فإِن يتوبوا عن
النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا}أي
يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي
يعذبهم عذاباً شديداً {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}أي في الدنيا
بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم
وينجيهم يوم الحساب.
كذب
المنافقين وخلفهم العهد والوعد
سبب
النزول:
روي
أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ادع الله
أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال:
والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزل
يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى
عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما،
ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه
فأخبروه بخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ..} الآية فهلك في خلافة
عثمان ..
عن
ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟
فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت فقيل لي {استغفر لهم} الآية ولو
أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلي عليه ومشى معه وقام على قبره فما
كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله {ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً ..}
الآية.
{وَمِنْهُمْ
مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه {لَئِنْ ءاتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ}أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق
{لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لنصدقن على الفقراء
والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح .
{فَلَمَّاءاتَاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ}
أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله{بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ} أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}أي جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله {بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من
التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي وبسبب كذبهم في دعوى
الإِيمان والإِحسان .
{أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم
وأحوالهم، ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ {وَأَنَّ اللَّهَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار
والحواس؟.