إعابة
المنافقين على المؤمنين المنفقين
{الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ}أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم {وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}أي ويعيبون الذين لا
يجدون إِلا طاقتهم فيهزؤون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف
بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من
تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءً، وإِن كان
الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}أي
جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب
موجع، هو عذاب الآخرة المقيم .
{اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم
فلن يغفر الله لهم {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ} قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم
للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}أي عدم المغفرة
لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يوفق للإِيمان
الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة.
فرح
المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك
{فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ}أي فرح المنافقون الذي تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج
الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له حين سار وأقاموا {وَكَرِهُوا أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وكرهوا
الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من
الكفر والنفاق .
{وَقَالُوا
لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ}
أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإنما قال
{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} على قوله "وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو" إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل
الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون
قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد
جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن
ذلك، قال تعالى رداً عليهم.
{قُلْ
نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً
مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جنهم دائم لا يفتر،
فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن
من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل {لَوْ
كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم
في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم "كالمستجير من الرمضاء
بالنار".
{فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن
عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى
الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على ما اجترحوا من فنون
المعاصي.
منع
المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من
الاغترار بهم
{فَإِنْ
رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر
{فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى
{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا}أي قل لهم لن تخرجوا معي
للجهاد أبداً {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}أي لن يكون لكم
شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم
لإِظهار نفاقهم {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك {فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخَالِفِينَ} أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء
والصبيان.
لفت
النظر إلى الإعجاز بقوله معيَ، مع العلم أنهم أمروا بالقتال في آية أخرى، إشارة إلى
أن القتال سيكون بعد وقاة النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَلا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم
ليسوا أهلاً للرحمة {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}أي لا تقف على قبره
للدفن، أو للزيارة والدعاء {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر {وَمَاتُوا
وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في
العصيان.
{وَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ}أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}أي لا يريد بهم الخير
إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ
وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع
بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب.
استئذان
زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين
عليه
{وَإِذَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ}
التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن {أَنْ ءامِنُوا بِاللَّهِ
وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ}أي بأن آمنوا بالله بصدق ويقين، وجاهدوا مع
الرسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ}أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير
{وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي دعنا نكن مع الذين لم
يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً .
{رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}أي ختم عليها {فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في
التخلف عنه من الشقاوة {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ
جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} قال الرازي: لما شرح حال
المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب
رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير
منهم وأخلص نية واعتقاداً {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ}أي لهم
منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون
بالمطلوب.
{أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار
{خَالِدِينَ فِيهَا}أي لابثين فيها {ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الظفر العظيم. الذي لا فوز وراءه.
{وَجَاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ}
أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار وتخلفوا عن الجهاد
{لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من
الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم "أسد" و
"غطفان" استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال {وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في
دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم {سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين
الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في
الآخرة.
{لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى }
أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد
لعجزهم أو مرضهم {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي
الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد {حَرَجٌ} أي إِثم في القعود {إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا
بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم
أصحاب أعذار {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي ليس عليهم جناح ولا
إِلى معاتبتهم سبيل، قال ابن جزي: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله،
ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب
عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة
والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار .
{وَلا
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}
نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه
وسلم ما يحملهم عليه، قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا
الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه
السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب {تَوَلَّوا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً
من شدة الحزن { أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه
لغزوهم، ولم يكن عند الرسول ما يحملهم عليه.
معاتبة
المنافقين بالتخلف عن الجهاد
{إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ}
أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنوك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى
الإِنفاق لغناهم {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن
يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ} أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
عدم
تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم
الكاذبة
{يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}
أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم
{قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي قل لهم لا تعتذروا فلن
نصدقكم فيما تقولون {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي قد
أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق {وَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من
نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ} أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر
والعلانية، ولا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها
الجزاء العادل .
{سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ}
أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون {إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي
إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة {لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي
فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر
والنفاق، قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال:
{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم {جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} كرره لبيان كذبهم وللتحذير من
الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم {فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم، قال أبو
السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن
الطاعة.
أحوال
الأعراب سكان البادية
{الأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}
الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم،
وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا
أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على
رسوله من الأحكام والشرائع، قال أبو حيّان: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً
لفخرهم وطيشهم ونشأتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا مُربّي، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم
عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من
منافقي المدينة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في صنعه
.
{وَمِنَ
الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا}
أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة
وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوَائِرَ} أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة
{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور
العذاب والهلاك {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليم
بأفعالهم.
{وَمِنَ
الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين
{وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} أي ويتخذ ما ينفق في
سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي دعاء
الرسول واستغفاره له {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} {أَلاَ} أداة
استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم
لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي
سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة.
منزلة
السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما
حولها
{وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}
أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في
سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة {رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم
وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن
يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم، قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه
وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان
{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} أي وأعد لهم في
الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا} أي مقيمين فيها من غير انتهاء {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، قال أبو حيّان: لما بيّن تعالى فضائل
الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال
{ألا إِنها قُرْبةٌ لهم} وهنا قال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} وهناك ختم {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهنا
ختم {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{وَمِمَّنْ
حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ}
أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً
{مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي لجوا في النفاق واستمروا عليه، قال ابن
عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب {لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في
النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم
{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت
بعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي ثم في الآخرة
يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار .
{وَءاخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}
أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، قال
الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم
ندموا على ما فعلوا وتابوا {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءاخَرَ سَيِّئًا}
أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم
عن غزوة تبوك هذه المرة {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي لعل الله
يتوب عليهم، قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه
في كلام العرب بمعنى الترجي {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ذو عفوٍ لمن
تاب، عظيم الرحمة لمن أناب.
قَبول
التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة
عليها
{خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوزار،
وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي وادع لهم بالمغفرة
فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، قال ابن عباس: {سَكَنٌ لَهُمْ}
رحمة لهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لقولهم عليم
بنياتهم.
{أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ}
الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من
تاب من عباده، {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي يتقبلها ممن أخلص النية
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي وأن الله وحده المستأثر
بقبول التوبة والرحمة، لقوله {غافر الذنب قابل
التوب}.
{وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ}
صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله،
وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم إِن
خيراً فخير، وإِن شراً فشر.
الانتظار
الصعب
{وَءاخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ}
أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم، قال ابن عباس:
هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة
والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام
عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي
يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ} أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر
لهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم،
وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا} وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم
بعد.
المقارنة
بين أهل النفاق وأهل التقوى
{وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}
أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر،
وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" {وَكُفْرًا} أي
نصرة للكفر الذي يخفونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يفرقون
بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق
الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم
ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من
المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع
أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان،
من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة
التأكيد.
ثم
نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}
أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي
بني على تقوى الله وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم ابتدئ في
بنائه {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد
الضرار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أي في هذا المسجد
رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي {وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المبالغين في الطهارة الظاهرة
والباطنة.
ثم
أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} الاستفهام للإِنكار
والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة
{خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي هل ذاك
خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ {فَانْهَارَ
بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي فسقط به البناء في نار جهنم {وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم
سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص،
والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى
والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى
على السقوط؟ .
{لا
يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}
أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه، يحسبون
أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد
من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد
غيظ المنافقين وحقدهم {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي لا يزالون في
ارتياب وغيظ إِلا ان تتصدع قلوبهم فيموتوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي
والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء
نياتهم.
حال
المؤمنين الصادقين في جهادهم
{إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ}
أي اشترى أموال المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر
المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة
عقد فيه بيع وشراء، قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم
الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا
الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائعُ فيه المؤمن،
والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه
محمد عليه الصلاة والسلام {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي يجاهدون
لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي في حالتي
الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم .
{وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا}
أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ
وَالْقُرْءانِ} أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة "التوراة، والإِنجيل،
والقرآن" {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى
النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا، قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد
قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى
ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
{فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}
أي ابشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه .
{التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}
كلام مستأنف، قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل
الجنة أيضاً وإنِ لم يجاهدوا كقوله {وكلاً وعد الله الحسنى} والمعنى
التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء
والضراء {السَّائِحُونَ} أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من
السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار {الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ} أي المصلون {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنكَرِ} أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن
الفساد والردى {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي المحافظون على فرائض
الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام، قال الطبري: أي المؤدون فرائض
الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشرهم بجنات
النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وجوب
قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم
{مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءامنوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ}
أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين
{وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} أي ولو كان المشركون أقرباء لهم {مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما وضح
لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي
طالب.
{وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ}
هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على
الاستغفار {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي إِلا من أجل وعدٍ
تقدم له بقوله {سأستغفر لك ربي} وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي
فلما تبين لإِبراهيم ان أباه مصرّ على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن
الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه
وصبره على أبيه فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} أي كثير التأوه من فرط
الرحمة ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن
أبيه مع توعده له بقوله {لئن لم تنته لأرجمنك} فليس لغيره أن يتأسى به في
ذلك، قال أبو حيان: ولما كان استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن
تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو
إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه
منه تبرأ منه وقطع استغفاره .
{وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا}
نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت
الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال {بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ} أي بعد أن وفقهم للإِيمان {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُونَ} أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا
العقوبة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عليم بجميع الأشياء
ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال.
{إِنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه {يُحْيِ
وَيُمِيتُ} أي بيده وحده حياتهم وموتهم {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه
أو تعتمدون عليه، قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإِن
كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه مالك كل
موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى،
ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا
إِياه.
قَبول
توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على
صدقهم
[url=http://www.islampedia.com/MIE2/audio/9/9-118.asf]{لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِ